هل إنشاء مزارع لتربية الأخطبوط من أجل الغذاء فكرة صائبة حقاً؟
إعداد/ محمد شهاب
شون تي سميث:
عبر باحثون ونشطاء بيئيون عن استيائهم وغضبهم الشديد حيال المشروع الذي ينتهك حقوق هذه المخلوقات المعقدة التركيب
أن تستخف بالأخطبوطات يعني أنك تتهور. في عام 1875، شعر الموظفون في "أكواريوم برايتون" للأحياء المائية بالحيرة بسبب اختفاء أسماك "لامبفيش" lumpfish على مدار ليال عدة متتالية. تدريجاً، اتضح لهم أنه، تحت جنح الظلام، كان أخطبوط يتسلق ويقدم لنفسه وليمة منتصف الليل [ليلية في الخفاء] قبل أن يعود إلى حوضه المجاور في الصباح.في الوقت الحاضر عندما يدخل البروفيسور بيتر تسي مختبره في "كلية دارتموث" الأميركية، غالباً ما يجد أخطبوطاته "تشبك أذرعها" فوق أسطح أحواضها المقسمة. من موقعه كبروفيسور في علم الأعصاب الإدراكي، يوضح أن الأخطبوطات تقدم نظرات ثاقبة غاية في الأهمية في كيفية نشوء الكائنات الحية الذكية.
أخبرني: "إذا كنت تأمل في فهم ميزات مثل الإدراك والوعي، عليك أن تلقي نظرة على ما وصل إليه التطور في السمات الوراثية في مكان آخر. عندما نشأت الأخطبوطات بداية، كانت أشبه بالحلزون ولكنها تطورت لتصبح ذكية جداً نتيجة سباق التسلح التطوري. إنها ضعيفة جداً لأن كل كائن حي في المحيط يريد أن يتغذى عليها. لهذا عليها أن تنسل وتختبئ، ولهذا أصبحت ماكرة ومخادعة جداً".
"بالنسبة إلى المخلوق الذي اشتهر بكونه يفضل البقاء بعيداً عن غيره من المخلوقات، يبدو مدهشاً عدد الأخطبوطات التي تخرج من عزلتها عندما تكون الظروف آمنة"، يقول البروفيسور مضيفاً إن "من السهل تكوين علاقات معها. تأتي إلى الجهة الأمامية من الحوض كي تلعب. لا تحتاج إلى أن تُلمس لأي سبب من أسباب البقاء على قيد الحياة، بل إن جل ما تريده في بعض الأحيان أن تشعر باللمس في حد ذاته. في ما يتعلق بشخصيتها، تجدها تشبه القطة- انفرادية، سعيدة بكونها تبقى وحيدة ولكنها تبحث عن التفاعل الاجتماعي عندما تشعر بأنها تريد ذلك".
يشرح البروفيسور تسي الأسباب وراء اعتبار حيوانات مثل القطط نوعاً مفيداً للمقارنة عند دراسة ذكاء الأخطبوط."إذا نظرت فقط إلى القشرة الدماغية (أو اللحاء الدماغي)، حيث سيحدد معظم علماء الأعصاب موقع الإحساس والوعي، فإن الأخطبوطات تحمل نحو 500 مليون خلية عصبية في أجسامها- أي القدر عينه الذي تحمله القطة في قشرتها الدماغية. ولكل ذراع نوع خاص به من دماغ مصغر، لذا يمكنك القول إن لديها تسعة أدمغة، كل منها يتخذ قراراته الخاصة"، أضاف البروفيسور تسي.يشرح تسي أن الأخطبوطات قادرة على التمييز بين الوجوه البشرية المختلفة، وتتميز بشخصيات مختلفة عن بعضها بعضاً. كذلك أظهر باحثون أن الأخطبوطات في مقدورها أن تتذكر المسارات عبر المتاهات وحل المسائل، وحتى استخدام أدوات عدة.نظراً إلى حجم الأدلة التي تؤكد أن الأخطبوطات مخلوقات ذكية، اعترى الباحثين من أمثال البروفيسور تسي شعور بالسخط والغضب تجاه خطط كُشف النقاب عنها أخيراً ترمي إلى إنشاء مزارع لتربية الأخطبوط.
منذ أن أعلنت في عام 2019 نجاحها في تربية الأخطبوطات في الأسْر، تعمل شركة "نويفا بيسكانوفا" Nueva Pescanova متعددة الجنسيات في مجال تربية الأحياء المائية على إيجاد سبل تسمح بنقل أساليب تربية الأسماك ذات الإنتاج الضخم إلى تربية الأخطبوطات.
حالياً، نستهلك 420 ألف طن متري من الأخطبوط كل سنة. لطالما كان الأخطبوط طبقاً شهياً راسخاً في إسبانيا وإيطاليا واليونان واليابان، ولكن شعبيته المتزايدة في الولايات المتحدة والدول الغنية الأخرى تسببت بزيادة الطلب على مستوى العالم.
ونظراً إلى حقيقة أن الأخطبوط الناضج يراكم خمسة في المئة من وزن جسمه في يوم واحد فقط، تلاحظ صناعة تربية الأحياء المائية دائماً ربحيتها المحتملة في هذا المجال.
ولكن لم يتضح حجم خططها قبل مارس (آذار)، عندما كشفت منظمة الدفاع عن الحيوانات "المجموعة الأوروبية من أجل الحيوانات"Eurogroup for Animals عن طلب "نويفا بيسكانوفا" الحصول على ترخيص يسمح لها بتربية الأحياء المائية.
من طريق بناء أول مزرعة أخطبوط داخلية في العالم في جزيرة غران كناريا، من المتوقع أن ينتج مرفق "نويفا بيسكانوفا" الذي يضم 1000 خزان 3000 طن من لحم الأخطبوط كل عام.
"إذا كانت الخطط صحيحة، ستواجه هذه الحيوانات قدراً لا يصدق من الإجهاد والمعاناة. هذه الحيوانات المعقدة التركيب والفضولية والذكية، والانعزالية في معظمها، التي تلازم الأماكن المظلمة بعيداً من الضوء، ستُستبقى في أحواض مزدحمة وجرداء واصطناعية بالكامل، وتتعرض طوال 24 ساعة للضوء المستمر"، حسبما قالت كيري تيتج من "المجموعة الأوروبية من أجل الحيوانات".كي تكون تربية الأخطبوط مجدية اقتصادياً، تبين وفق حسابات هذه المجموعة أن على "نويفا بيسكانوفا" تربية مليون أخطبوط سنوياً، ونتيجة لذلك فإن كل متر مكعب من المياه سيكون موطناً لـ10 إلى 15 أخطبوطاً.
وفق تيتج، من طريق تكرار نموذج العمل المتبع في تربية أنواع أخرى من الأسماك، تتجاهل "نويفا بيسكانوفا" الحقيقة البارزة المتمثلة في أن الكائنات الحية التي تتخذ من مساحة جغرافية معينة موطناً خاصاً بها على غرار الأخطبوطات ليست مناسبة أبداً للحجز في حيز حيث التقارب الجسدي في ما بينها وثيق جداً."من خلال البحوث السابقة، نعلم أنه في ظل ظروف مماثلة تصبح الأخطبوطات عدوانية وتتحول إلى أكل لحوم البشر أو إيذاء الذات. كذلك نعرف أنها معرضة للإصابات الجسدية في أحواض تربية الأحياء المائية بسبب جلدها الهش، وعدم امتلاكها أي هيكل عظمي داخلي أو خارجي يحميها"، على ما تزعم تيتج.لكن تيتج تأمل في أن تفلت الأخطبوطات من مستقبل التربية المكثفة في المزارع الصناعية بسبب الاعتراف بها أخيراً كـ"حيوانات واعية" [في قانون رعاية الحيوان في المملكة المتحدة].
وخلصت مراجعة شاملة بتكليف من حكومة المملكة المتحدة بقيادة "كلية لندن للاقتصاد"LSE إلى أن الحيوانات رأسيات القدم، بما فيها الأخطبوطات، تعتبر "حيوانات واعية".عند تعريف الإحساس بالقدرة على الإحساس بمشاعر من قبيل الألم والسرور والجوع والعطش والدفء والفرح والراحة والإثارة، قام باحثون من"كلية لندن للاقتصاد" بتقييم نتائج خلصت إليها 300 دراسة علمية قبل أن يوصوا بأنه، على شاكلة الحيوانات الرأسية القدم كافة، لا بد من اعتبار الأخطبوطات "حيوانات" "بموجب قانون الرفق بالحيوان لعام 2006.
أدخلت تعديلات على "قانون رعاية الحيوان" في المملكة المتحدة منذ ذلك الحين كي يعبر عن هذه التوصية. ولكن في الوقت الحالي أقله، لا يطبق "قانون رعاية الحيوانات" الحالي في الاتحاد الأوروبي على أنواع الحيوانات اللافقارية، لذا لا تتوفر حالياً حماية للأخطبوطات عند تربيتها في مزارع مخصصة.
يعتبر البروفيسور تسي أن مهارة الأخطبوطات اللافتة في التخفي دليل على أنها تتمتع بالوعي. عندما تختبئ الأخطبوطات من الحيوانات البحرية المفترسة لا تكتفي بتغيير لونها ليتناسب مع الشعاب المرجانية القريبة، بل تخفي نفسها من طريق استنساخ ملمس تلك الكائنات وشكلها أيضاً.
"تستنتج من ذلك أنها قادرة طبعاً على رؤية الأشكال الثلاثية الأبعاد، وأن في مقدورها توجيه تمويهها نحو ما تعتبره المشاهد، ما يعني وعياً بالمنظور"، يقول البروفيسور تسي. يعتقد البروفيسور تسي أن من الواضح جداً أيضاً أن الأخطبوط يعاني الألم. في الواقع، من المحتمل أن هذه المخلوقات قد تطورت لتتعلم من التجارب المؤلمة.
عندما فقد أحد الأخطبوطات في مختبر أحد أطرافه عندما ضربته مروحة مائية، تصرف بطريقة تتفق تماماً مع كيفية معالجة إصابة ما، إذ أخذ يمسد الجرح طوال أسابيع قبل أن يتجدد الطرف وينمو مرة أخرى خلال الأشهر القليلة التالية.لهذا السبب، وفق من يعارض إنشاء مزارع لتربية الأخطبوطات، ربما يكون الجانب الأكثر إثارة للقلق في طلب "نويفا بيسكانوفا" الحصول على ترخيص الطريقة التي اختارتها لقتل آلاف الأخطبوطات بشكل جماعي في وقت واحد.
لقد اختارت الشركة الطريقة الأكثر تقليدية وفاعلية بالنسبة إلى التكلفة لقتل الأسماك المنتجة في المزارع الصناعية، وتتمثل في غمرها بالطين الجليدي لخفض درجة حرارة الجسم الأساسية ثم الوصول إلى الموت بسبب انخفاض حرارة الجسم، لذا أثارت "نويفا بيسكانوفا" غضب نشطاء حقوق الحيوان.
عموماً، "المعيار المقبول لقتل الحيوانات بطريقة إنسانية استخدام طريقة ثبت أنها تسبب فقدان الوعي في ثانية واحدة"، يوضح تيتج. ولكن "تبين أن الطريقة المقترحة للطين الجليدي تسبب موتاً مؤلماً وطويل الأمد، يستمر أحياناً لساعات، علماً أنه لهذه الأسباب يصار إلى التخلص التدريجي من قطاعات تربية الأحياء المائية الأخرى. لا توجد حالياً طريقة معروفة أو معتمدة للقتل بطريقة إنسانية للأخطبوط لأغراض الزراعة التجارية. إنه أسلوب غير لائق وغير إنساني على الإطلاق، وسيسفر عن معاناة رهيبة لهذه الحيوانات الحساسة"، في رأي تيتج.
في تصريحات سابقة، قالت "نويفا بيسكانوفا" "إن مستويات متطلبات الرعاية الخاصة بإنتاج الأخطبوط أو أي حيوان آخر في مزارع التربية المكثفة للحيوانات تضمن التعامل الصحيح مع الحيوانات. وبالمثل، فإن القتل يتضمن الطريقة الصائبة في التعامل مع الحيوان إضافة إلى تجنب أي ألم أو معاناة له".
تشير شركات تربية الأحياء المائية العملاقة متعددة الجنسيات مثل "نويفا بيسكانوفا" إلى أن مزارع الأسماك تعد الطريقة الأفضل لتجنب الصيد الجائر، من طريق إيجاد بدائل مستدامة. وقالت الشركة إن "تربية الأحياء المائية هي الحل لضمان عائد مستدام". كذلك ترى هذه الشركات أن المزارع السمكية تخفض من معدل أساليب الصيد المدمرة مثل الصيد بالشباك الجرافة. ولكن هذه الحجة تلقى اعتراض الجماعات البيئية. بعيداً من حماية مخزونات الصيد، كما يقولون، من طريق تغذية الحيوانات المستزرعة بالحيوانات البرية، أو مواد غذائية مشتقة منها، مثل مسحوق السمك وزيت السمك، فإن تربية الأحياء المائية تفرغ السلسلة الغذائية وتتهدد النظام البيئي البحري مع ما يرافقها من تأثيرات تنذر بالخطر على البيئة.
توضح الدكتورة إيلينا لارا من "الجمعية الخيرية للرفق بحيوانات المزارع"، أن الأسماك العلفية [أسماك بحرية تفترسها الحيوانات المفترسة الكبيرة للحصول على الطعام] تؤدي دوراً رئيساً في البيئة البحرية لأنها ضرورية في نقل الطاقة من الكائنات البحرية المنتجة الرئيسة إلى الأنواع الحية ذات المستوى الغذائي الأعلى، بما في ذلك الأسماك الكبيرة والثدييات البحرية والطيور البحرية".
تعتقد الدكتورة لارا أن استخدام الأسماك التي تتعرض للصيد في موائلها الطبيعية من أجل تغذية الأخطبوطات من شأنه في الواقع أن يخلق مشكلات تتعلق بالأمن الغذائي في مناطق مثل غرب أفريقيا وجنوب شرقي آسيا وأميركا الجنوبية، حيث توجد مصائد الأسماك الصناعية الرئيسة. كذلك يشير نشطاء بيئيون إلى أن المزارع السمكية بشكل عام تلوث المياه الساحلية بالنفايات الكيماوية والفضلات.
في الوقت الحالي، يأتي 50 في المئة من الأسماك المستهلكة في العالم من تربية الأحياء المائية، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 66 في المئة بحلول 2030. بصفتها برفيسورة في دراسات تنظيم الحيوانات في "جامعة يورك"، اعتادت ليندسي هاميلتون على موازنة الأخلاقيات المتعلقة بتربية الحيوانات في المزارع الصناعية المكثفة، وهي تعتقد أن تربية الأحياء المائية تطرح مشكلات معقدة.
"نحن أمام معضلة ما يسميه كثيرون المجمع الصناعي الحيواني، ويبدو أنه لا تتوفر طرق سهلة للمضي قدماً إذا كان المستهلكون يريدون طعاماً بخس الثمن وفي المتناول ومغذياً"، تضيف البروفيسورة هاميلتون.ولكن عندما يتعلق الأمر بالأخطبوط، تعتقد هاميلتون أن اعتباره عنصراً غذائياً فاخراً يبسط المشكلة. "هل يسعنا حقاً أن نجد تبريرات لتربية الحيوانات على نطاق واسع في مزارع مغلقة بغية الحصول على طعام يعد ترفاً وليس عنصراً غذائياً أساسياً في استهلاكنا الغذائي؟"، تسأل البروفيسورة هاميلتون.
The Independent
ساحة النقاش