عواقب تلوث المياه العذبة: أسماك مدمنة للميثامفيتامين
إعداد/ محمد شهاب
يتعاطى نحو 296 مليون شخص المخدرات سنويًا، ولكن غالبًا ما نغفل في هذا السيناريو عن حقيقة مهمة من أساسيات علم الأحياء، وهي أن ما يدخل يجب أن يُصرف. تمتلئ مجاري الصرف الصحي بالمخدرات المصروفة من الجسم، إضافة إلى المركبات الكيميائية المفككة ذات التأثيرات المشابهة للمخدرات نفسها. لا تُنقي عملية معالجة مياه الصرف الصحي هذه الأشياء لأنها ليست مخصصة لذلك، وتصل الكثير من مجاري الصرف الصحي إلى الأنهار والمياه الساحلية دون معالجة. وما إن تصل المخدرات ومنتجاتها الثانوية إلى الطبيعة يصبح بإمكانها التأثير في الحياة البرية.
نُشرت دراسة حديثة في مجلة (جورنال أوف إكسبيريمينتال بيولوجي) تحرى فيها باحثون في جمهورية التشيك كيف يستطيع الميثامفيتامين -من المخدرات المنشطة التي يتزايد عدد مستخدميها عالميًا- التأثير في أسماك السلمون المرقطة البنية.
فحص الباحثون إمكانية الكشف عن تركيزات من الميثامفيتامين والأمفيتامين -أحد منتجاته الثانوية- في أدمغة أسماك السلمون المرقطة البنية، وذلك انطلاقًا من تقديرات قاستها دراسات أخرى لتركيزات المخدرات غير القانونية في المياه، وهل تكفي هذه النسب لجعل من الأسماك مدمنة.
فعرّضوا أسماك السلمون المرقطة للمخدر في أحواض كبيرة مدة 8 أسابيع ثم نقلوها إلى أحواض أخرى تخلو من المخدر في مرحلة انسحاب مدة 10 أيام، واختبروا حينها ميل الأسماك لتفضيل المياه العذبة أو المياه الملوثة بالميثامفيتامين، وقارنوا ذلك باستجابات الأسماك التي لم يسبق تعرضها لهذه المخدرات من قبل.
أثارت اكتشافاتهم الاهتمام؛ فالأسماك التي تعرضت للمياه الملوثة بالميثامفيتامين فضلت المياه المحتوية على المخدر، بينما لم يظهر مثل هذا التفضيل لدى أسماك المجموعة المرجعية غير المُعالجة، ولاحظوا أيضًا قلة حركة الأسماك المُعرضة للمخدر في مرحلة الانسحاب، وفسروا ذلك بوصفه علامة على شعورها بالتوتر أو القلق، وهي أعراض جانبية نموذجية تظهر على البشر عند انسحابهم من المخدرات. اختلفت كيمياء دماغ الأسماك المعرضة للمخدرات عن تلك الأسماك التي لم تتعرض له، مع اكتشاف الكثير من التغييرات في المواد الكيميائية في الدماغ التي تتوافق مع ما نراه من تغييرات في الدماغ البشري في حالات الإدمان. وظلت هذه التغييرات حاضرة حتى بعد تضاؤل تأثير الانسحاب على سلوكيات الأسماك بعد 10 أيام. ويشير ذلك إلى أن الميثامفيتامين قد يسبب تأثيرات طويلة المدى مشابهة لتلك التي يعانيها البشر.
كيفية تأثير المخدرات على الأنظمة البيئية وبيولوجيا الأسماك
لماذا يجب أن نكترث إذا أصبحت أسماك السلمون المرقط مدمنة أم لا؟ يوجد عدة أسباب لذلك. إذا كانت أسماك السلمون المرقطة تستمتع بالمخدرات كما توضح هذه الدراسة، فقد تميل إلى الحوم حول الأنابيب حيث تصرف النفايات السائلة. ونعلم أن الأسماك قد تتصرف بطريقة مشابهة لسلوك الإنسان الذي يعاني الإدمان، وليس من هذه التجربة فقط، بل من عدة دراسات سابقة أخرى على أنواع مختلفة من الأسماك. ومن العلامات الواضحة على مدمني المخدرات فقدان الاهتمام بممارسة أنشطة أخرى، حتى الأنشطة التي تكون عادة ذات تحفيز عالٍ مثل الأكل أو التزاوج. ومن المحتمل أن تبدأ الأسماك بتغيير سلوكها الطبيعي، ما يسبب مشكلات في تغذيتها وتكاثرها وفي نهاية المطاف في نجاتها، كأن تصبح أقل قدرة على الهرب من المفترسين مثلًا.ليست معاناة الأسماك المعرضة للمخدرات فردية، إذ يعاني نسلها جراء ذلك حتى أجيال قادمة، ويؤدي هذا إلى عواقب طويلة المدى على الأنظمة البيئية حتى إذا حُلت تلك المشكلة في الوقت الحالي.
لا تعد هذه النتائج الأولى من نوعها، ففي 2019 أعلن علماء في المملكة المتحدة عن وجود الكوكايين في روبيان المياه العذبة في جميع الأنهار التي أخذوا منها العينات والتي بلغ عددها 15 نهرًا. والمثير للاهتمام، أنهم عثروا على مخدرات غير مشروعة أكثر من بعض المستحضرات الدوائية الشائعة. وتظل التأثيرات العظمى التي تخلفها تلك المخدرات مجهولة إلى حد كبير، مع وجود دراسات شاملة حول التأثيرات التي يخلفها صرف المستحضرات الدوائية عمومًا في الأنهار.
التلوث الدوائي
لا تتفكك الأدوية كليًا في أجسامنا، وتصل إلى محطات معالجة مياه الصرف الصحي عبر البول والبراز، وتُصرّف معظمها مع مياه الصرف السائلة، ولكن يتسلل بعضها إلى الأنهار عبر مدافن القمامة أو الحقول الزراعية إذ تُستخدم مياه الصرف البشرية للتسميد. أما في الأنهار والمياه الساحلية حيث تُصرف النفايات السائلة، فتصبح الحياة البرية معرضةً لمزيج من الأدوية من مسكنات الألم إلى مضادات الاكتئاب.تغير جنس بعض الأسماك العالقة في مجرى محطات معالجة مياه الصرف الصحي من ذكر إلى أنثى في أسابيع قليلة، وذلك بسبب تعرضها للمواد الكيميائية المسببة للاضطرابات الهرمونية الموجودة في حبوب منع الحمل. وأظهرت دراسات حديثة قدرة مضادات الاكتئاب على التسبب في تغييرات سلوكية لدى الكائنات المائية على نطاق واسع؛ مثل العدوانية والانجذاب للضوء والجرأة الزائدة.
إن إدمان المخدرات أحد الشواغل الصحية العالمية التي قد تسحق مجتمعات بأكملها، ومعالجة عواقبه البيئية سيكون باهظ الثمن. فقد قدرت إحدى الدراسات تكلفة تطوير محطات معالجة مياه الصرف الصحي في إنجلترا وويلز لتتمكن من معالجة تلك المواد الكيميائية بنحو 50 مليار دولار أمريكي. قد يبدو واضحًا أن الأدوية -المصروفة بنشرة طبية أو غير القانونية- المعنية بتغيير سلوك الإنسان ستغير أيضًا سلوك الحياة البرية، ولكن قد تكون هذه المشكلة أكثر تعقيدًا وانتشارًا. فنحن نجهل حتى تأثير المواد الكيميائية الاصطناعية في المواد المنزلية اليومية -مثل مستحضرات التجميل والملابس والمنظفات- في سلوك الإنسان والأنواع الأخرى. ولهذا، يحث فريق دولي من العلماء الشركات والهيئات التنظيمية على فحص الأثر السمي في السلوك للمواد الكيميائية الجديدة بوصفه جزءًا من تقييم المخاطر.
من واجبنا السيطرة على نسب الأدوية في مجارينا المائية، فالعالم ما يزال بعيدًا عن معالجة الإدمان وحل مشكلة تعاطي المخدرات غير القانونية، لكن أقل ما نستطيع فعله هو السعي لتطوير محطات معالجة مياه الصرف الصحي، وإجبار شركات المياه على تحمل المزيد من المسؤولية لضمان عدم تأثر الحياة البرية بالنفايات السائلة.
ساحة النقاش