الغوص للبحث عن اللؤلؤ وثائق مهمة وسجل كفاح شعب
إعداد/ محمد شهاب
أعتمد الكويتيون في كسب رزقهم قديمًا على مهن عدة، منها مهنة الغوص للبحث عن اللؤلؤ، التي تعد من أخطر وأشق المهن التي مارسوها، بغية استخراج اللؤلؤ من سواحل الخليج لبيعه، والمتاجرة به، مواجهين بذلك أخطارًا شديدة، وضاربين أمثلة خالدة على قوة عزيمتهم وصلابة بأسهم. وقد ازدهرت مهنة الغوص، في عهد مبارك الكبير، الذي امتد حكمه من 1895 إلى 1915، واستمرت في ما بعد إلى أن بلغت نهايتها مع قيام الحرب العالمية الثانية، وعند ظهور اللؤلؤ الصناعي واكتشاف النفط.
امتهن الكويتيون الغوص بكل أطيافهم، حضرًا وبدوًا، ومن كل مناطق بلادهم، وحظي الغواص في المجتمع الكويتي قديمًا بمكانة عالية بين الناس، وكان ينظر إليه بإعجاب واحترام، ولا يزال يشار بالبنان إلى أبرزهم، وتذكر أسماؤهم وأعمالهم في الكتب والمحافل والمناسبات.
مواسم الغوص
وللغوص مواسم متعارف عليها عند أهل البحر، أهمها الغوص الكبير، أو كما يعرف بـ «الغوص العود»، وهو الأطول والأخطر، إذ يبدأ من شهر مايو ويستمر حتى سبتمبر، وفي هذا الغوص تتجه جميع سفن الغوص، الكبيرة والصغيرة، إلى المغاصات أو «الهيرات» البعيدة، وغالبًا ما يستمر نحو أربعة أشهر و10 أيام متتالية. وفي بعض دول الخليج يبدأ الغوص من أول شهر مايو حتى 28 سبتمبر، إضافة إلى
10 أيام من أكتوبر.
وهناك نوع آخر من الغوص يطلق عليه «غوص الخانجية»، الذي يبدأ بعد انتهاء فصل الشتاء، وتحديدًا في أبريل، حيث تكون مياه البحر باردة، ويسمى أيضًا بـ«غوص البرد»، ويستمر هذا الغوص حتى مايو، وقد تزيد مدة الغوص على أسبوعين، ولا تتجاوز مدته
40 يومًا. أما «غوص الردة»، ويعني العودة إلى البحر، فيبدأ بعد نهاية موسم الغوص الكبير مباشرة، أي في شهر أكتوبر تقريبًا، حيث يكون البحر باردًا، ولا تستغرق مدته أكثر من شهر. وهناك «غوص الرديدة» وهو تصغير للردة، أي العودة مرة أخرى ولأيام معدودة بعد عودتهم من غوص الردة مباشرة، ويكون الغوص في الأماكن القريبة، على اعتبار أن الجو يظل باردًا.
ومن أنواع اللؤلؤ: المشير، النباتي، الزجاجي، السماوي، الغلابي، الخضراء، الخشن، الدرج، الجيوان، الناعم، الفصوص، الشقراء، قولوه، الأسود، المجشر. بداية من أواخر الثلاثينيات بدأت تجارة اللؤلؤ في التدهور بسبب ظهور اللؤلؤ الصناعي وانصراف الناس عن شرائه، أو التحلي به، بسبب الضائقة المالية التي صاحبت أحداث الحرب العالمية الثانية، ثم ظهور النفط وما سببه من تغير في نمط الحياة ككل.
وكان آخر إعلان صدر من حاكم الكويت بصدد الغوص على اللؤلؤ عام 1959م، وبعدها ربما لفظ الغوص على اللؤلؤ أنفاسه الأخيرة.
صور... وكتاب
في العام 1939 كان علي بن ناصر النجدي، من نواخذة البحر المعروفين آنذاك، مسافرًا بسفينته إلى سواحل إفريقيا الشرقية، وأثناء مروره بميناء عدن التقى السائح الأسترالي آلان فلييرز، الذي صاحبه إلى سواحل إفريقيا الشرقية، ثم عاد معه إلى الكويت، ومكث مدة طويلة قام خلالها بزيارة مغاصات اللؤلؤ (الهيرات) وسجل الكثير من الملاحظات التي أفادته في ما بعد... وصور آلان فيلمًا سينمائيًا قيمًا مدته نحو ساعتين عن جميع أعمال البحر، منذ أن سافر مع النجدي من عدن حتى عودته. كما أنه صور بعض مناظر الكويت، ومنها منظر الاحتفالات في عيد الفطر. كما صور سفر الشيخ أحمد الجابر حاكم الكويت آنذاك إلى الغوص قبيل القفال، هذا بالإضافة إلى الصور العادية للسفن ولأعمال البحارة، ولمناظر الكويت القديمة.
في آخر شهر يناير 1967م زار آلان الكويت بعد غيبة طويلة، وقدم نسخة من الفيلم المذكور هدية لوزارة الإعلام الكويتية، مع مجموعة كبيرة من الصور.
وقد ألّف آلان كتابًا عن رحلته هذه وعن الكويت. وفي عام 1981 ترجم الكتاب إلى العربية تحت اسم «أبناء السندباد».
تقرير مفصل
في آخر عام 1954 تأسست دائرة المطبوعات والنشر في الكويت (وزارة الإعلام حاليًا)، وكان مديرها بدر الخالد البدر، ونائب المدير فاضل خلف.
وقد رأت دائرة المطبوعات والنشر في صيف العام 1955 أن توثق فيلمًا سينمائيًا عن الغوص على اللؤلؤ في الكويت والبحرين، لأنه كان في دور الاحتضار. وقد كلفت دائرة المطبوعات والنشر سيف مرزوق الشملان القيام بهذه المهمة، واستأجرت الدائرة زورقًا بخاريًا من دائرة ميناء الكويت، وقام الشملان بتزويد الزورق بجميع ما يحتاجه من أدوات الرحلة.
وفي مساء يوم الخميس 25 أغسطس 1955 بدأت الرحلة، وكان ربانها المرحوم راشد بن أحمد الرومي، آخر أمراء الغوص في الكويت، والمصور سليم إشحيد. وتوجه الفريق إلى سواحل الكويت ومغاصاتها لتصوير الغواصين، وتم تصوير بعض اللقطات، ثم انتقل الفريق إلى سواحل الأحساء، ووصل إلى بلدة دارين، والتقط المصور العديد من الصور العادية والسينمائية، وبعدها توجه الفريق إلى البحرين ومكث ثلاثة أيام.
وتوجه الفريق إلى قطر في صباح الثلاثاء 6 سبتمبر 1955 بصحبة المستشرق الإنجليزي بيتر لينهارت، الذي كان يجمع المعلومات لتأليف كتاب عن الخليج العربي... وفي الدوحة تم تصوير مجموعة اللآلئ الكبيرة الموجودة لدى التاجر الحاج قاسم الدرويش. وعاد الفريق بعد ذلك إلى البحرين، ثم إلى هيرات البحرين وهيرات الكويت، ثم سواحل الكويت حيث بر العدان وتم تصوير الغواصين. وفي مساء الأربعاء 14 سبتمبر وصل فريق العمل إلى الكويت، بعد رحلة استغرقت نحو عشرين يومًا. وقدم سيف مرزوق الشملان تقريرًا مفصلًا عن الرحلة والمصاريف إلى دائرة المطبوعات والنشر بتاريخ 19 سبتمبر1955.
أرسل المصور سليم إشحيد الأفلام إلى الخارج لتحميضها، وبعد مدة طويلة وصلت هذه الأفلام، فعمل منها فيلمًا مدته أكثر من ساعة، وقد عرض الفيلم في ديوان سيف مرزوق الشملان بحضور بعض الإخوان، منهم الأخ فاضل خلف والأخ علي الداود مدير الصحة العامة آنذاك. وبعد هذا العرض اليتيم للفيلم لا يعرف أحد ماذا جرى للفيلم، ربما فقد وفقد معه الكثير من المشاهد التي وثقت لفترة مهمة من تاريخ الكويت والصور العادية.
علاقة وطيدة
وفي عام 1961 أراد الشيخ جابر العلي السالم، رئيس دائرة الكهرباء والماء في ذلك الحين أن يوثق فيلمًا سينمائيًا عن الغوص على اللؤلؤ، ويكون ناطقًا بأحاديث البحارة أثناء عملهم وغوصهم، وكذلك أثناء مرحهم في النهمة والطرب البحري والهوسات ونحوها، فجمع النهامة والبحارة المعروفين، وجهز سفينة خاصة بهم من نوع «الجالبوت»، ليذهبوا بها إلى مغاصات اللؤلؤ، ويقال إن الشيخ جابر استعد استعدادًا كبيرًا لهذه الرحلة من جميع الوجوه. ولم يكتف بالجالبوت وحدها، إنما جهز زورقًا بخاريًا كبيرًا من زوارق دائرة الميناء ليكون به المصور وأدوات التصوير ونحوها، وكذلك ليقيم به أصحابه أثناء الرحلة، وكان الشيخ جابر يريد أن تنتهي الرحلة في البحرين.
في ذلك الحين كانت تربط سيف مرزوق الشملان علاقة وطيدة مع الشيخ جابر، وكانت بينهما صداقة طيبة، وكان الشملان يذهب مع الشيخ جابر إلى ميناء الكويت في الشويخ لمشاهدة الجالبوت، ولتسجيل الحاجات والأشياء التي تحتاجها الرحلة. ومن ناحية أخرى كان الشملان يشجع الشيخ جابر لعمل هذا الفيلم للمحافظة على تراث الكويت القديم، وعلى رأسه أعمال البحر، وأهمها الغوص على اللؤلؤ.
قبيل عيد الأضحى كانت الجالبوت جاهزة برجالها، ومعداتها، وأدواتها، ونحو ذلك، حيث جمع الشيخ جابر النخبة الممتازة من النهامة والبحارة في هذه الجالبوت، وكان النوخذة هو المرحوم حمد السويدان.
كان مصور الفيلم مصطفى الحموري، وكان المسؤول عن تسجيل الصوت أحمد باقر، وكانت الإدارة المسؤولة عن الفيلم هي دائرة الشؤون الاجتماعية، وكان حمد الرجيب مديرها آنذاك، وله اتصال وثيق بالفيلم.
طوال أيام العيد كان المصور يصور البحارة وهم يعملون ويغوصون في قاع البحر لجمع المحار، وكذلك فتح المحار والبحث عن اللؤلؤ، كذلك صور أغاني البحر وهوسات البحر على ظهر السفينة، وعلى ساحل البحر في حالة المشعاب.
في يوم الأحد 28 مايو غادر فريق العمل في الفيلم إلى البحرين، وكان المسؤول عن الرحلة إداريًا وماليًا أحمد البشر، وهو من الملمين إلمامًا كبيرًا بعمل الغوص على اللؤلؤ، إذ سبق له أن ذهب إلى الغوص عدة سنوات، وعمل سيف مرزوق الشملان كسكرتير لشؤون الرحلة، وقام بتسجيل العمل يومًا بيوم مع الإشارة إلى الأماكن والبنادر التي مروا بها أو مع كلمة قصيرة عنها حتى الوصول إلى الكويت.
وصل فريق الرحلة إلى السفانية صباح الإثنين 29 مايو، وكان الهواء عاصفًا، وبعد الظهر وصل الفريق إلى رأس «أبا علي»، وهو بندر ممتاز للسفن وينسب إلى الصحابي الجليل أبي العلاء الحضرمي، وإلى منطقة البحرين، حيث غزا سواحل فارس من ساحل البحرين.
وفي صباح الثلاثاء 30 مايو غادر الجميع إلى رأس تنورة ثم إلى البحرين، ثم إلى ميناء المنامة، وهناك حدث إشكال مع رجال الجمرك والجوازات لأن أعضاء الفريق لم يكن لديهم جوازات سفر، ولا أوراق تطعيم ضد الجدري، ونزل أحمد البشر وسيف مرزوق الشملان إلى مركز الجوازات في الميناء، وهناك اتصلا تلفونيًا بخالد السعدون، التاجر الكويتي المعروف والمقيم في البحرين منذ مدة طويلة، وكان بمنزلة سفير الكويت في البحرين.
حضر السعدون وأجرى اتصالات مع المسؤولين في الجمارك والجوازات، وأخبرهم بأن الفريق جاء لعمل فيلم سينمائي عن الغوص من قبل الشيخ جابر العلى، وبواسطة اتصالاته سمحوا لهم بالنزول، واتجه الفريق إلى المنامة قرب الميناء. وقضى الفريق ستة أيام لتصليح الزورق، ولتصوير بعض اللقطات للفيلم عن الطرب البحري في البحرين.
وفي يوم الإثنين 5 يونيو غادر الفريق البحرين إلى رأس تنورة حيث كان الشيخ جابر العلي بالانتظار.
وفي صباح الجمعة 9 يونيو ذهب الجميع إلى مغاصات اللؤلؤ لتصوير بقية اللقطات، وبعد الغداء دعا الشيخ جابر البحارة للرجوع إلى الكويت، وعاد الشيخ جابر بالطائرة الهليكوبتر إلى الكويت ومعه الأخ أحمد البشر والأخ أحمد باقر.
غادر الزورق والجالبوت إلى الكويت في موكب مهيب، حيث كان البحارة يغنون العرضة البحرية والجالبين تسير قريبة من الساحل وتختال في سيرها... وجميع المارة كانوا ينظرون إليها ويتجهون إلى حيث تقصد، فألقت مرساتها بنقعة الشملان قرب وزارة الصحة، حيث انتهى تصوير الفيلم بالقفال وعودة الغواصين، واستغرقت الرحلة تسعة عشر يومًا.
تقول بعض المعلومات إن الفيلم كانت توجد نسخ منه لدى المرحوم الشيخ جابر العلي، إضافة إلى نسخة عند المرحوم حمد الرجيب، وربما توجد نسخة منه لدى وزارة الإعلام. مدة الفيلم كانت أكثر من نصف ساعة، ولم يُعرض عرضًا عامًا، إنما عُرض عرضًا خاصًا، كما تم عرضه في بعض المدارس ليشاهده الطلاب وأُخذت منه بعض اللقطات لأفلام أخرى عن البحر استخدمها تلفزيون الكويت.
بلغت تكاليف الفيلم على حسب تقدير سيف مرزوق الشملان نحو مئة وخمسين ألف روبية، وكان مبلغًا كبيرًا في ذلك الوقت، وكان تصوير الفيلم في آخر عهد الروبية بالكويت، وهذه التكاليف أنفقت على لوازم السفر وحاجيات السفينة الجالبوت وشراء الأفلام والأشرطة ونحوها، وعلى نثريات أخرى، وكذلك على إكراميات البحارة وغيرهم ممن كانوا في الجالبين والزورق... ويذكر سيف مرزوق الشملان أنه بعد الوصول إلى البحرين وزع أحمد البشر على أعضاء فريق العمل خرجية بلغت مئتي روبية للشخص الواحد، لشراء الحاجات والهدايا، وجميع تكاليف الفيلم هذه دفعها المرحوم الشيخ جابر العلي لإحياء التراث القديم.
تصوير... ومساعدة
وفي صيف عام 1965 أراد المصور السينمائي السيد مصطفى الحموري أن يصوّر فيلمًا ثالثًا عن الغوص على اللؤلؤ، وأن يكون أفضل من الفيلم الذي صوره عام 1961 للشيخ جابر العلي السالم.
طلب مصطفى الحموري من حمد الرجيب وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وقتئذ أن يساعده على تصوير الفيلم، واستجاب الرجيب لطلب الحمورى، وكلف علي صالح البشر الرومي من موظفي وزارة الشؤون آنذاك بأن يجمع له البحارة وبعض النهامة، وأن يجهز له جميع ما يحتاجونه في رحلتهم هذه من أدوات ومعدات ونحوها... وقام الأخ علي بما عهد إليه به خير قيام، فجمع نحو عشرين بحارًا، واثنين من النهامة وهما راشد الجيماز وسعد العبكل.
كتب الرجيب كتابًا للشيخ جابر العلي يطلب منه أن يسمح لهم باستخدام الجالبوت التي سبق للبحارة أن ذهبوا عليها لتصوير الفيلم للشيخ جابر. وقد لبى الشيخ جابر طلب حمد الرجيب فقدم إليهم الجالبوت، وكانت راسية في نقعة قصره بقليعة العبيد، كما أنه جعل قصره تحت تصرفهم أثناء التصوير.
كانت نفقات الفيلم على حساب وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وقد بلغت نحو ستمئة دينار، وهو مبلغ زهيد جدًا بالنسبة لعمل هذا الفيلم، وقدمت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل لهؤلاء البحارة والنهامين إكرامية قدرها عشرون دينارًا للشخص الواحد! والباقي وقدره 160 دينارًا لمصروفات الأكل والنثريات الأخرى... وبلغت مدة الرحلة نحو اثني عشر يومًا. وكان مركز عملهم قصر الشيخ جابر العلي، فمنه يخرجون إلى البحر وإليه يعودون، وهكذا حتى انتهى التصوير فعادوا إلى الكويت بالسيارات، وتركوا الجالبوت هناك.
كان في الفيلم لقطات للغواصين وهم تحت الماء يجمعون المحار، كما أن أغانيهم وحركاتهم وبقية أعمالهم واضحة وصحيحة. وقد استعان المصور مصطفى ببعض اللقطات التي صورها للفيلم الأول 1961م، فأدخلها على فيلمه هذا، وصور الفيلم حياة الغوص وعمل الغواصين، ووصلت مدة الفيلم نحو نصف ساعة. ويذكر أن الفيلم عرض أكثر من مرة على شاشة تلفزيون الكويت.
وحش مفترس
ومن تأليف وحوار الكاتب عبدالرحمن الصالح، قدم المخرج الراحل خالد الصديق الفيلم الروائي الطويل «بس يا بحر» عام 1972، وبلغت مدته 100 دقيقة، وهو من إنتاج شركة أفلام الصقر، ومن بطولة محمد المنصور، سعد الفرج، أحمد الصالح، حياة الفهد، علي المفيدي، وأمل باقر.
في هذا الفيلم يتعامل الناس والبحارة مع البحر كأنه من بني البشر الخيّرين، عندما يقدم لهم السمك واللؤلؤ والمتعة والحياة، لكن البحر يتحول في بعض الأحيان، إلى وحش مفترس، وصياد لأرواح الشباب (صياد اللؤلؤ مساعد)، ومهلك لحيوات الناس، في كثير من الأحيان. ويصور الفيلم بأدواته البصرية المتقدمة في حينه وبلغته المكثفة، حياة الكويتيين أثناء فترة الاعتماد على الغوص (الثلاثينات والأربعينات)، كمصدر للعيش والحياة، ويتعرض الفيلم إلى الحياة الاجتماعية على هامش البحر، وقد كانت حياة قاسية، ويتطرق الفيلم بمشاهد قليلة إلى الزواج التقليدي والزفة للعروس والعريس. وكذلك مشاهد أخرى طقوسية منها حينما يأخذ أهل الكويت قطة إلى البحر ويقومون بإحراق البحر بالقش أو بمكنسة محروقة، ثم إغراق قطة في الماء، كي يندحر الشر، وتلتئم الجراح، ويتم القبول والمحبة، فالبحر تتم مناجاته كإنسان وأسطورة ووحش كبير. عن الفيلم يقول خالد الصديق: «أحببت أن أقدم صراع الإنسان الكويتي أو الخليجي في كفاحه مع الطبيعة، من أجل لقمة العيش، وكما أتذكر فإنني من خلال هذا العمل أحببت أن أقدم، غير الكفاح المرير لشعب الخليج، زاوية وأسلوبًا وفكرًا جديدًا في المعاملة السينمائية، وذلك بإبراز أو عرض العادات والتقاليد الكويتية، وأحبكها حبكة درامية لصالح الخط الدرامي، وأقصد بذلك أن أوظف العادات والتقاليد والجانب الأنثروبولوجي توظيفًا دراميًا لصالح الخط الروائي للفيلم، وأظن إلى حد ما أن هذه المحاولة قد نجحت، وهذه النقطة هي أحد أسباب نجاح الفيلم على هذا المستوى. ففي رأيي أنه من خلال دراستنا للجوانب الفلكلورية والعادات والتقاليد نجد الدافع وراءها دراميًا في البداية، عند ظهورها إلى الوجود، وتستمر هكذا مع الأجيال، وفكرت أنه يجب عليّ أن أعرض هذه الأمور من خلال خط درامي، أي توصيلها دراميًا وإبراز وظيفتها الدرامية، فكل الأشكال الفلكلورية الموجودة في الفيلم موظفة دراميا. وكما أن البعض يرى في هذا العمل تناولًا أنثروبولوجيًا، أظن أن بالإمكان اعتباره صالحًا كمرجع سينمائي لدراسة أنثروبولوجيا بيئة الكويت قبل النفط، وأظن أن المادة الوحيدة المرئية الموجودة في العالم عن الكويت قبل اكتشاف البترول هي فيلم (بس يا بحر)، لأنه يعرض جميع الجوانب قبل دخول عامل النفط، بما في ذلك الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية، وأيضًا العادات والتقاليد. فهذه النواحي ساهمت في إنجاح الفيلم على جميع المستويات، لدرجة أنه من الممكن أن أقول بعد (بس يا بحر) ظهرت عدة أفلام عربية عالجت مادتها بالطريقة نفسها».
تجربة فريدة
قدم هاشم محمد فيلمين عن الغوص هما غوص «العددان 1976 وغوص الردة 1977»، وسمى الفيلم الأول نسبة إلى ساحل العدان الذي يمتد على ساحل دولة الكويت من كاظمة إلى حدود دولة الكويت البحرية. ومعنى غوص العدان هو غوص السفن الصغيرة التي تلتقط المحار من هذه السواحل... الفيلم من إعداد الدكتور يوسف دوخي ومدة الفيلم أربعون دقيقة واستغرق تصويره اثني عشر يومًا واشتغل في الفيلم أربعون بحارًا، إلى جانب عشرة من المصورين والفنيين. واستغرقت عملية المونتاج شهرًا، كان الفيلم يتحدث عن الأجداد وكفاحهم في طلب الرزق في فترة قديمة من حياة الكويت.
وتحت عنوان «الغوص على اللؤلؤ في الكويت» قدم المخرج خالد نمش النمش تجربة فريدة من نوعها، وذلك من خلال إعداد وإخراج فيلم وثائقي مهم، تعرض فيه لتراث الكويت، خصوصًا فيما يتعلق بالغوص بحثًا عن اللؤلؤ... والفيلم من إنتاج مركز البحوث والدراسات الكويتية وأشرف عليه الدكتور عبدالله الغنيم، ونفذه فريق العمل المكون من: مساعد المذكور ونواف العصفور، وطارق الفيلكاوي، وعبدالله الراشد، وخالد النمش، وقدم له الموسيقى التصويرية الفنان سعيد البنا، وكتب له السيناريو عبدالله بدران، وعلق عليه مشاري المضاحكة.
وتتدرج الأحداث التصويرية في سياقها الفني من خلال رؤية إخراجية واعية، واستشراف لملامح الماضي بصدق وإخلاص، لنشاهد كيف كان الكويتيون القدماء يجهزون سفنهم منذ البداية حتى التدشين في ماء الخليج، والدقة التي كانوا يولونها لهذا التجهيز، من أجل أبرز نشاط ملاحي عرفه تاريخ المنطقة.
وتتنقل مشاهد الفيلم من حركة السفن في البحر، إلى البنادر، وترتيب رحلات الغوص، وما يمر به هذا الترتيب من مراحل تنظيمية، واختيار البحارة المشاركين في الرحلة، وتجهيز السفينة بكل الاحتياجات الضرورية. ثم نشاهد الفعاليات والمظاهر التي تحدث على ظهر السفينة وهي تمخر عباب البحر، مثل الغناء الذي يعد روح السفينة وحياتها، وأغلب الأغنيات عبارة عن أدعية وابتهالات، وبالتالي فقد تعرف المشاهد على أشهر الفنون التراثية القديمة، تلك التي كانت تعين البحارة على مواجهة الصعاب والمخاطر، وتساعدهم على تحمل التعب في سبيل البحث عن اللؤلؤ ومواصلة أعمالهم الشاقة.
وتنتقل كاميرا المخرج بنا في سياق جذاب كي تعرفنا على أشهر المغاصات في الخليج، مثل خواليج أم المرادم وحولي وصوفان والمنادي، وغيرها.
كما تمكن المخرج من وصف عملية الغوص ومراحلها، بأسلوب اتسم بالحرفية والقدرة على تحويل اللقطات إلى عناصر حية ملموسة، تدخل المشاهد في حيز التجربة والاسترسال في التخيل، من أجل الوقوف على مشارف ماضي الكويت.
وفي مشاهد أخرى يتحدث الفيلم عن المخاطر التي يتعرض لها الغواص، مثل تعرضه لأذى الكائنات البحرية، والأمراض والحرارة الشديدة، وسوء التغذية وغيرها، وبالتالي يمكن قياس مدى المعاناة التي كان يتعرض لها هؤلاء الغواصون في أعماق البحر في سبيل البحث عن الرزق. كما رصد الفيلم مقاطع من أغنية «يا مال» الشهيرة التي ترد فيها قصائد الشعر، ويطرب على إيقاعها طاقم السفينة.
وتحدثت مشاهد الفيلم كذلك عن طريقة فلق المحار، تلك التي تأتي من أجل جني ثمار التعب الذي يستمر لمدة 4 أشهر كاملة يقضيها البحارة وسط البحر بين المخاطر والمتاعب والصعاب.وتضمن الفيلم أيضًا مقابلات مع اثنين من أصحاب الخبرة البحرية وهما: علي بن صالح البشر الرومي، ومبارك تركي التركي، واللذان تحدّثا عن الغوص والسفن بكثير من التفاصيل.
وقد حرص المخرج خالد النمش على أن يكون فيلمه ثريًا بالمعلومات، عبر 50 دقيقة تضمنت الحديث عن تجهيز السفن، وأماكن المغاصات، وكيفية اكتشافها، وتفاصيل الحياة اليومية على ظهر السفينة، وطريقة الغوص وفلق المحار، وهي أمور لم يتطرق إليها أي فيلم وثائقي تناول مهنة الغوص ■
ساحة النقاش