مَن مِنّا لا يريد أن يكون سمكة؟!
إعداد/ محمد شهاب
جو عاصف، ومطر شديد يتساقط من السماء، يُغْرِق وجه حارس المنارة الذي يحاول أن يدخل بيته، ونكتشف أنه في عُزلة وحيدًا، يسكن على حافة الماء الذي يضرب في الصخور... بداية موفَّقة لفيلم Aquaman (رجل الماء)، تُدْخِلك في الماء مباشرة، فالماء يأتي من السماء، ومن بحر يهدر من تحتك، الماء يحيطك عَبْرَ الشاشة من كل مكان، فنحن ندخل من عنوانه، ومقدمته السريعة للماء الذي يحتوينا من كل جانب. هذا الفيلم الأسترالي الذي تم عرضه في أواخر 2018، أخرجه جيمس وان، وكتب قصته جيف جونز، سيناريو وحوار ويل بيال، وقامت ببطولته أمبر هيرد في دور ميرا، وجايسون مومو في دور آرثر أكوامان، ونيكول كيدمان في دور الملكة أتلانتا.
يبدأ اللقاء الأول بين البشري حارس المنارة المغمور في ماء المطر، والذي قام بدوره تيمويرا موريسون ليلتقط امرأة مصابة أسفل صدرها تنزف داخل الماء، وسنكتشف فيما بعد أنها ملكة أتلانتا، وأنهم يبحثون عنها. لقد قام تيمويرا بدوره بحساسية، فقد شعرنا بوحدته من أول ظهور على الشاشة، وأوصل لنا شغفه الإنساني بالأنثى التي وجدها بمنتهى البراعة وبنظرات حانية.
تَقَابَل عَالمَاَن مختلفان، في لحظة ملؤها ماء المطر وماء البحر، وعندما دخلا البيت، كان التلفزيون في الوقت ذاته يعرض مشهدًا لماء يفور في دوامات، فتخرج غواصة من داخل تجويف صخري، ظنته المرأة أنه سيهاجمها فدمَّرت التلفزيون بالحربة التي معها، في الغرفة أيضًا كان يوجد حوض سمك جميل يحتوي الماء، فالماء موجود داخل الغرفة، والمرأة التي خرجت من الماء مَدَّت يدها لأسماك الزينة وأكلت، وكَشَفَتْ بذلك عن طبيعتها دون كلمة.
للماء دور مهم طوال الفيلم، فعندما ظهر سيد المحيطات الملك أورم للقرصان، ظهر في صورة ماء، وعندما كاد حارس المنارة يموت بماء محجوز داخل صدره، استخرجته الأميرة ميرا من صدره عن طريق سحبه بيدها، إن لهذه الأميرة ميرا قدرات خاصة مع الماء، حتى أنها جمعت قطرة ماء من جبين أكوامان بطريقة رائعة وأدارت بها الآلة التي تحوي كلمة السر، كما أنها في الزيارة التي قامت بها لإيطاليا حوَّلت الماء لأسماك ولفرس بحر كان يقفز أمام فتاة صغيرة، ثم إنها كانت تستخدم الماء كدرع واقية، وكسلاح، حتى أنها استخدمت الخمر الذي داخل الزجاجات للهجوم، كما أن الماء له سر خاص حين يصعد ناس البحر لسطح الأرض، وفور نزع الغطاء ونزول الماء يموتون، لقد فقدوا الماء الذي به يعيشون، حتى أن أحدهم دسَّ رأسه في حمَّام المنزل ليحصل على الماء. استخدامات كثيرة للماء، فنحن ندور مع رجل الماء في فيلم تدور معظم أحداثه في الماء. أيضًا تم استخدام الماء كسلاح خطير وحاجز مهم لصد العدوان في تدريبات أكوامان، حتى أن السلاح القوي الغريب الذي تم منحه للقرصان كي ينتقم من أكوامان، تتم تغذيته بالماء، فالماء عنصر مسيطر على الفيلم.
مَوْلِد الهجين
التقى توم حارس المنارة بالملكة أتلانتا وأنجبا طفلًا جميلًا اسمه آرثر، هذا التزاوج سعى إليه الإنسان منذ زمن سحيق، عبر مخيلته وأساطيره، فقديمًا سمعنا عن خرافات التزاوج بين الجن والإنس، والعكس، ومن هنا تأتي أسطورة الفيلم القوية، فقد اتَّحد السطح والماء ونتج طفل، نتوقَّع منه أن يكون مغايرًا ومختلفًا، إنه مزيج بين ناس الماء وناس الطين. آرثر هذا الابن الهجين الذي قام بدوره الممثل جايسون مومو، والذي ساعده كثيرًا بنيانه الجسدي المتناسق وطوله الفارع، أعطانا الفيلم منذ بدايته أنه إنسان خارق، له قدرات خاصة، فمنذ طفولته في المتحف كان يتحدَّث للأسماك، وسط جَمْع من التلاميذ أثناء الرحلة، وصل إلينا منذ هذا المشهد أن هذا الطفل (آرثر) له علاقة بالبحر وبمخلوقاته وأنه قادر على استدعائها والحديث معها، مما منحنا توقُّع كل غرائبي من تصرفات قد تصدر عنه في البحر، هذه الميزة التي أخذها من رحم أمه، وفي الوقت نفسه يحمل خصائصه كإنسان، فله قلب يحب ويشتاق لوالده، ويرتجف حين يرى والدته، وعندما تعرَّضت غواصة للقراصنة وطلبت الاستغاثة، وجدناه يحمل الغواصة كريشة ويصعد بها لسطح البحر، ويُنْقِذ البحارة من القراصنة، ويقضي على والد القرصان وتنشأ بين ابن القر صان وبينه عداوة أبدية، ستتكشَّف في نهاية الفيلم.
للفيلم عمود فقري تجري حوله الأحداث، مما يجعل المُشَاهِد في حالة ترقُّب، إنه الرمح الثلاثي، الذي لا يمكن لأحد أن يتحكَّم فيه إلا إذا كان الملك الأطلنطي الحقيقي؛ لأن هذا الرمح يعطي القدرة على التحكُّم في البحار السبعة، والأسطورة التي يسعى إليها الفيلم مُخَبَّأة في قوة هذا البطل الذي سيأتي وسيستخدم الرمح الثلاثي؛ لإعادة لَمّ شمل أتلانتا مُجددًا، وهو آرثر.
مع بداية نباح الكلب في بيت حارس المنارة نستشعر أن الصراع الحقيقي للفيلم قد بدأ، ودخول كائنات الماء للحصول على ملكة أتلانتا بسُلْطَة الملك أورفاكس، كان قرارًا حاسمًا ظهر في عين نيكول كيدمان وهي تتحدَّى ناسها مُصِرَّة تمامًا على المحافظة على طفلها وعلى زوجها، كانت تريد أن تحمي ثمرة الحب بين البحر وبين الأرض، فنزلت الماء وتركت طفلها مع والده واختفت في الماء.
تسقط من عين نيكول كيدمان دمعة تدخلنا بها لمشاعر الملكة الحقيقية كأم وعاشقة. لقد بَرَعَتْ كيدمان، وهى تعطينا دمعة لم تكن تستطيع ملكة أتلانتا أن تمنحنا إياها من قَبْل؛ نظرًا لتكوينها المائي، كانت بارعة في توصيل لحظة الانفصال، في مشهد سينمائي متميز، كانت هي تتجه لحارس المنارة، خلفيتها الماء، وكانت خلفية حارس المنارة الخُضْرة واليابسة، كُلٌّ يتجه لما خُلِق منه، وتم الانفصال، هي ذهبت للبحر، وهو عاد للأرض، كان هذا المشهد لوحة تعبيرية تُؤَطِّر كامل المغزى من الفيلم.
بهجة بصرية خالصة
حين تنزل بنا الكاميرا لعمق البحر نجد عالمًا غرائبيًا، عجائبيًا، مذهلًا، وقادرًا على إعطائنا المتعة البصرية الخالصة، حتى نتمنَّى أن نزور هذا العالم مرَّة واحدة، ألوان حالمة ومخلوقات غريبة، جميلة وقوية وخارقة، لم أر أحدًا منهم يبتسم، هل هذا من خصائصهم؟ ربما، لكن هذا ساعد على تأكيد أننا في عالم آخر، يركبون حيوانات عبارة عن أجزاء مجمَّعة من عالم البحار، كأنها حيوانات بحر ساحر، تشع جمالًا باهرًا، وناس البحر يسيرون في الماء، يسبحون بسرعات فائقة، لهم قوانينهم الخاصة، الموسيقى رقيقة تحت الماء، أشعة الشمس تأتي من أعلى برقَّة وعذوبة، بهجة بصرية خالصة. من أهم النقلات تحت الماء دخول الكهف من بوابة الماء، فأنت مفصول في القاع عن الماء، داخل الماء، بلا ماء، تنتقل من السحر فجأة لعالم آخر في العمق، خروج إلى الداخل، وتتحوَّل الألوان لما يشبه الكآبة، وبما يوحي أنها مغارة ومع ذلك يدخلها الضوء الرقيق.
يغلب على مشاهد البحر اللون الأزرق الشفيف، البعيد عن الملوثات، الممزوج بالخضرة الناعمة، بعيدة عن البهرجة الفجة، إلى جانب الملابس التي تم تصميمها بعناية فائقة، تشبه الأصداف والزعانف، فلم نخرج في مشهد واحد عن كوننا تحت الماء، فالشَّعْر يتطاير بحركة تموجات البحر، والأجساد تتحرَّك بحركة الماء، لقد وَضَعَنَا الفيلم داخل مملكة ماء فعليَّة، ساحرة، لها خصائصها، ولم نستغرب أن يكون هناك حوار بين الشخصيات، وإن كان تم تبرير ذلك بتطوُّر حَدَثَ لهذه الكائنات جعلها تتكلَّم بمهارة، إنه عالم خاص بكل دلائله وخصائصه التي تميزه، حتى المعركة في نهاية الفيلم، التي دارت تحت الماء، لم نشعر لحظة أن المعركة تدور على السطح، رذاذ الماء يتطاير، كل الحركات تؤكد أننا تحت الماء. أيضًا كان جميلًا هذا القَرْع للطبول عن طريق الأخطبوط صاحب الأذرع المتعددة، كان يعبر عن شيء خيالي مميز. ويتمنَّى المُشَاهِد ساعتها أن يكون سمكة تسبح في هذه الروعة البديعة.
لقد تم استخدام التكنولوجيا الحديثة للتصوير والكمبيوتر بمهارة فائقة، فأصبح من الصعب الفصل الدقيق بين المناظر الطبيعية والمناظر المصنوعة بالكمبيوتر إلا للمحترف، لقد كان المزج رائعًا بين المَشَاهِد الحقيقية والمَشَاهِد داخل الكمبيوتر، فقفزة الطفل أكوامان مع الدلافين وغطسه في البحر تشعرك بأنك أمام مشهد حقيقي.
كان أيضًا المزج جيدًا في الربط بين الحاضر والماضي، ذهبنا للمستقبل وعدنا للحاضر بسلاسة جميلة، لم تشعرنا بالقطع الشاذ الحاد.
أسطورة الرمح الثلاثي
يحكي الفيلم أن أتلانتا كانت مملكة رائعة ثم ابتلعها المحيط وغرقت، الطاقة التي أَوْدَت بحضارة أتلانتا هي من صَنَعَ مستقبلها، زادت الناس قوة، وقدرة على التنفس تحت الماء، وآخرون تكلموا، أصبح منهم متوحشون، وعاش الملك على بقايا أمجاده في منفى معزول، وكانت رسالته الأخيرة عن سر الرمح الثلاثي، مكمن قوة حكم أتلانتا.
نكتشف في النهاية أن حكاية أسطورة الرمح الثلاثي لم تكن أسطورة، كانت حقيقة، وكان لابد للملك الحقيقي أن يحصل عليه، لا يمر غيره، هو وحده القادر على فك الطلسم، لأن الهدف الخاص للمَلِك هو إنقاذ الآخرين، وهذا لا يتم إلا بالحصول على الرمح الثلاثي، لا على المُلْك كهدف.
ونجد أن لأهل البحر مشكلة مع أهل السطح، وأن أورم، يريد أن يقوم بحرب، ولكي يتم إنقاذ الدمار الذي سيحدث بين البحر والسطح، ينبغي أن يحصل أكوامان على العرش، وأن يأخذ حَقّه الشرعي كملك.
يكون الصراع محسومًا بضرورة أن يكون آرثر هو الملك، وهو فــــي الوقت ذاتـــه ليست لديه رغبة في الحصول على المُلك، إنه غير طامح ولا طامع في المُلك، في حيــــن أنه يمتلك كل مقومات المَلِك، وكفعــــل أبدي ينبــــغي أن يقف أمام أخيه، الذي لديه كل الرغبة في أن يكون ملكًا، إنه صراع أبدي، سواء على الأرض أو في أعماق البحر، صراع على المُلك. مَشَاهِد المعركة للحصول على المُلك كــانـــت تـــــحوطها النار، معركة في حلبة خاصة بمملكة البحار، يوحي كل ما فيها بالقـــسوة والتـــوتر، حتى جموع المشاهدين كان يسيطر عليهم الحماس الغَاشم، مما أعطانا حِسَّا ساخنًا بالمعركة بين الأخوين للحصول على المُلك والرمح الثلاثي. كان المراد أن يَتَّحِد أهل السطح وأهل البحر وأن تنتهي العداوة.
ثم كانت نهاية الفيلم التي عادت بنا في حركة دائرية ذكَّرتنا بالبداية، فحارس المنارة يذهب يوميًا لنفس المكان عند الممر، وحين عادت الملكة أتلانتا حدث بينهما حضن رائق، مشهد البداية كان وداعًا ودمعة
ساحة النقاش