لغز أسماك الكهف المصابة بداء السكري وتتمتع بصحة جيدة
إعداد/ محمد شهاب
بعض أسماك الكهف المكسيكية يتميز بطفرة في أحد بروتينات مستقبلات الإنسولين، تؤثر في تنظيم جلوكوز الدم، وتتسبب هذه الطفرة نفسها في إصابة البشر بداء السكري ومشكلات صحية. ومع هذا، فإن أسماك الكهف المصابة بالمرض تنمو بصحة جيدة
تعيش أسماك الكهوف المكسيكية العمياء (Astyanax mexicanus) في كهوف مظلمة. وقد لعبت هذه البيئة القاسية دورًا مهمًّا في تطوُّرها. ويكشف ريدل وزملاؤه عن الطريقة المدهشة التي تنظم بها أسماك الكهف عملية أيض الجلوكوز، وهي نتيجة قد تكون لها دلالات على فهْمنا لداء السكري عند الإنسان.
يلعب تنظيم الجلوكوز في الدم دورًا حيويًّا في أداء الجسم لوظائفه بصورة طبيعية. ويتحقق ذلك عند الإنسان من خلال شبكة معقدة من التفاعلات بين العديد من أعضاء الجسم، تتم بوساطة من الهرمونات وجزيئات الببتيد العصبي. يرتفع مستوى الجلوكوز في الدم بعد تناول أي وجبة، وتفرز خلايا بيتا في البنكرياس هرمون الإنسولين، فيرتبط الإنسولين بمستقبِله على سطح خلايا الكبد، والخلايا العضلية والدهنية، ويحفزها على امتصاص الجلوكوز من مجرى الدم، ومن ثَمّ إعادة مستويات الجلوكوز في الدم إلى طبيعتها. وعلى النقيض من ذلك، إذا انخفضت مستويات الجلوكوز بين الوجبات، على سبيل المثال، تفرز خلايا ألفا في البنكرياس هرمون الجلوكاجون، الذي يحفز الكبد على تحليل احتياطيه من أحد بوليمرات الجلوكوز، المعروفة باسم جليكوجين. وبإفراز هذا النوع من الجلوكوز في مجرى الدم، تعود مستويات الجلوكوز في الدم مرة أخرى إلى مستواها الطبيعي.
ويمكن لأي خلل يطرأ على تلك التفاعلات أن يتسبب في اضطرابات أيضية حادة، مثل داء السكري، الذي يتسبب في ارتفاع مستويات الجلوكوز في الدم، ومجموعة من الآثار الضارة الأخرى. فعلى سبيل المثال، تدمر خلايا المناعة في مرض السكري من النوع الأول خلايا بيتا؛ وبالتالي لا يتم إنتاج الإنسولين. أما في النوع الثاني، فيتم إنتاج الأنسولين، ولكن بمستويات منخفضة للغاية، أو تفشل الأنسجة المستهدفة في التعرف عليه. وتُعرف عدم الاستجابة للإنسولين في هذه الحالة بمقاوَمة الإنسولين.
وعلى الرغم من أن دراسات السكري قد ركزت بصورة أساسية على أنظمة الثدييات، غير أن المخلوقات الأخرى قد تطرح منظورًا جديدًا حول هذا المرض. وعلى الرغم من أن أسماك الكهف تبدو بلا شك غريبة بجلدها الوردي الخالي من الاصطباغ، ووجوهها الخالية من العيون (الشكل 1)، فإن الدلائل على أنها تتمتع بأساليب تأقلُم أيضية استثنائية تُمَكِّنها من التكيف مع بيئتها المظلمة والفقيرة غذائيًّا - على ما يبدو - دفعت ريدل وزملاءه إلى إجراء المزيد من الدراسات عليها. إذ طورت أسماك الكهف سمات سلوكية وفسيولوجية تختلف عن أفراد فصيلتها من قاطنات النهر. فبالمقارنة بقاطنات النهر، نجد أن أسماك الكهف أكثر بدانة، نتيجة لتمتع أجسامها باحتياطي أكبر من الشحم؛ ولديها قدرة أكبر على التكيُّف مع الجوع2 ؛ كما أنها تتميز بمعدل أيضي واستهلاك أكسجين أقل ؛ إضافة إلى أن عدم انتهاج عملية الأيض لديها لنظم يوماوي يُمَكِّنها من توفير استهلاك الطاقة بنسبة 27%.
ويكشف ريدل وزملاؤه الآن عن مفاجأة أخرى في عملية الأيض تلك، فأسماك الكهف لديها مستويات أعلى من جلوكوز الدم مقارنةً بقاطنات النهر من فصيلتها نفسها. فقد كشفت هذه الدراسة أن أسماك الكهف مقاوِمة للإنسولين، ولديها نسخة مطفرة من مستقبِل الإنسولين مشفَّرة بجين insra، وهي تؤدي إلى عدم اتحاد هذا المستقبل بالإنسولين، وعدم نقله لإشارة الإنسولين. يُذكر أن هذه الطفرة، التي يحل فيها اللوسين محل البرولين – راسب الحمض الأميني المعتاد – تتطابق مع التغيير الذي يُسبِّب داء السكري ومشكلات صحية أخرى عند الإنسان.
ولدراسة تأثير تلك الطفرة في الأسماك، استخدم الباحثون تقنية التحرير الجيني «كريسبر-كاس»؛ لتوليد أسماك دانيو مخططة (Danio rerrio)، تحمل جين insra متحور. ولعل نتائج هذه التجربة كانت لتصبح أكثر إثراءً بالمعلومات المفيدة إذا أُجريت على أسماك كهف عمياء من قاطنات النهر، ولكنْ تظل النتائج واضحة، فإذا كانت كلتا النسختين الموروثتين من جين insra من الأبوين تحملان الطفرة، تصبح الأسماك مقاوِمة للإنسولين، وذات وزن زائد. ويبدو ظهور مقاوَمة الإنسولين منطقيًّا، بالأخذ في الاعتبار ما هو معروف عن هذه الطفرة في الإنسان؛ ولكن تبقى زيادة الوزن محيِّرة، وغير متوقعة لأنّ الإنسولين هرمون نمو، ويرتبط نقص مستقبِل الإنسولين الوظيفي بتأخر النمو، وانخفاض دهون الجسم.
هل يعني ذلك أن لعملية تأشير الإنسولين أدوار متباينة في الأسماك والثدييات؟ تتميز أسماك الكهف العمياء، وأسماك النهر، وأسماك الدانيو المخططة بوجود نسختين من جين مستقبِل الإنسولين، تُسمَّيان insra ، و insrb ، وهذا يثير تساؤلات حول سبب عدم تعويض المستقبِل المشفر بـinsrb للمستقبِل غير العامل المشفر بالنسخة المتحورة من insra. يؤدي المستقبِلان في أسماك الدانيو المخططة أدوارًا متداخلة في التحكم في النمو وعملية أيض الجلوكوز، من خلال تأثير مسار نقل إشارات الإنسولين؛ ولكنْ لكل منهما تأثير مختلف في عملية أيض الشحوم، إذ يدعم المستقبل المشفر بـ insra تخليق الشحوم. ومع ذلك، نجد في أسماك الكهف وأسماك الدانيو المخططة، التي تم استخدام التحرير الجيني معها، جين insra متحورًا؛ وهو ما يجعل تلك الزيادة في الوزن محيرة بدرجة أكبر.
لعل أغرب النتائج التي ظهرت كانت تَمَتُّع أسماك الكهف بحياة طويلة تمتد لأكثر من 14 عامًا، مثلها في ذلك مثل قاطنات النهر، إضافة إلى أنها تَظهَر عليها علامات أقل من علامات تدهور الأنسجة المرتبطة بتقدم العمر، فمن الممكن أن تدمِّر المستويات المرتفعة من جلوكوز الدم الأنسجة، إذا ما ارتبط الجلوكوز بالبروتينات في عملية تسمَّى إضافة جزيئات سكرية للبروتينات، لها علاقة بمجموعة من المشكلات الصحية عند المرضى المصابين بداء السكري. ومع ذلك، فإن أسماك الكهف ليست لديها مستويات مرتفعة من البروتينات المرتبطة بالجزيئات السكرية، وبالتالي فلا بد أنها طورت آلية تعويضية. وقد تمثل دراسة أسماك الكهف التي تم استخدام التحرير الجيني معها لتصحيح طفرة جين insra إحدى الطرق للكشف عن تلك الآلية. ومما لا شك فيه أن واضعي الدراسة سيعكفون على دراسة ذلك، بالأخذ في الاعتبار الأهمية التي قد يشكلها التعرف على آلية تثبيط عملية إضافة جزيئات سكرية للبروتينات لمجال الطب الحيوي.
وقد أجرى الباحثون تحليلاً جينيًّا إضافيًّا، أَظهَر مدى تعقّد الآلية الكامنة وراء ظاهرة ارتفاع مستوى الجلوكوز. ومن أفضل ما يميز دراسة أسماك الكهف العمياء إمكانية تهجين هذه الأسماك مع قاطنات النهر من فصيلتها. ومن هنا، درس الباحثون أنماط وراثة صفة ارتفاع مستوى الجلوكوز، وتوصلوا إلى أن insra ليس الجين الوحيد الذي يدخل في هذه العملية. ففي كل نسل هجين، كان لدى جميع الأسماك ذات المستويات المرتفعة من جلوكوز الدم الطفرة في جين insra. ومع ذلك، لم يَشهَد بعض الأسماك ذات الطفرة مستوى مرتفعًا من جلوكوز الدم، مما يُظْهِر أن طفرة insra ضرورية، وإنْ لم تكن كافية لتغيير تنظيم الجلوكوز في الدم. وقد يساعد الكشف عن جينات أخرى ذات صلة في إلقاء الضوء على ظاهرة زيادة الوزن.
يوجد في المكسيك حوالي 30 كهفًا، تحتضن مستعمرات أسماك الكهف10، وقد ظهرت بعض مجموعات هذه الأسماك من محاولات استيطانية منفصلة لأسلاف قاطنات النهر. ويقارن الباحثون بين ثلاث مجموعات من أسماك الكهف، اثنتان من كهفي تيناخا وباتشون في سلسلة جبال واحدة، والثالثة من كهف مولينو في سلسلة جبلية أخرى. ووجد الباحثون أن كل هذه المجموعات لديها مستويات مرتفعة من الجلوكوز في الدم، لكن الأسماك الموجودة في كهفي تيناخا وباتشون فقط هي التي تحتوي على طفرة insra. إذن، فلا بد أن هناك آلية مؤثرة أخرى لدى الأسماك من كهف مولينو. وتشير تحليلات الباحثين إلى أن مسار تأشير الإنسولين يظل غير متأثر في تلك الأسماك، التي كانت لديها أيضًا مستويات مرتفعة من البروتينات المرتبطة بجزيئات السكر. وقد عاشت أسماك كهف مولينو لأكثر من 13 عامًا في معملنا، مما يشير إلى أنها تتكيف بشكل جيد مع عملية الأيض الاستثنائية الخاصة بها.
إنّ اشتراك أسماك الكهوف المختلفة في تطوير هذا الخلل غير العادي في ميزة تنظيم جلوكوز الدم باستخدام آليات مختلفة لا يتفق مع ما يذهب إليه العقل لأول وهلة بالنظر إلى لياقة هذه الفصيلة. فما الذي يصحح هذا المسار التطوري المفاجئ؟ يعتقد الباحثون أن الاحتياطي الكبير من الدهون قد يساعد الأسماك في البقاء على قيد الومع ذلك، فلعل هناك شيءٌ آخر يلعب دورًا في هذه الظاهرة. ومن المحتمَل ألا تكون الكهوف فقيرة في الطعام كما تبدو. ففي كهف تيناخا (موطن مجموعة الأسماك الرئيسية التي أَجرَى ريدل وزملاؤه أبحاثهم عليها)، تتغذى الأسماك على الطين الغني بالكربون. وإضافة إلى ذلك، فهناك نسبة ضخمة من الأسماك في تجمعات كهفي تيناخا وباتشون لديها نسخة واحدة من النسخة المتحورة من جينinsra. فإذا لم تكن طفرة أخرى مفيدة قد انتشرت في المجموعة بأكملها، فإنّ أحد التفسيرات الممكنة لهذه الظاهرة هو ظهور التطفر بصورة حديثة نسبيًا من عمر المجموعة، وذلك يعني أن الأسماك الأولى التي استوطنت الكهوف لم تتمتع بميزة البدانة ومقاومة الجوع. وما زالت ينتظرنا المزيد من التشويق فيما يتصل باستكشاف التغيرات التكيفية والأيضية التي حدثت مع تطور المجموعات المختلفة لأسماك الكهف. وقد تكشف تلك الدراسات عن قوى التطور الكامنة المسؤولة عن هذا التكيف الأيضي المذهل. حياة خلال فترات الحرمان من الطعام الطويلة.
الصورة:
سمكة من أسماك الكهف العمياء المكسيكية، التي تمت تربيتها في المختبر من مجموعة أسماك كهف تيناخا. يشير ريدل وزملاؤه إلى أن أسماك كهفي تيناخا وباتشون بالمكسيك لديها مستويات مرتفعة من جلوكوز الدم، نتيجة لطفرة في بروتين مستقبِل الإنسولين تطابق الطفرة المسببة لداء السكر، ومجموعة من المشكلات الصحية الأخرى عند الإنسان . ومن المدهش أن تلك الأسماك تتمتع بصحة جيدة، ومدى عمري طبيعي.
ساحة النقاش