لم تتكشف لحد الآن معظم خفايا النفس البشرية، وما فتئت العلوم الحديثة تبحث دون أن تصل إلى تحديد معين لظواهر تكاد تكون متأصلة في نفس الانسان، وقد اختص علمي النفس و الاجتماع بدراسة وتقصي هذه الظواهر النفس – اجتماعية، و التي ظلت مدار بحث طويل حتى وصلتنا بصيغها الحديثة وبناءها النظري الذي أوشكت بعض قواعده على الثبات و اكتساب صفة استقرارها كمسلمات علمية، غير ان الآراء النظرية ـ وحسب رأي العلماء - تظل تمر في أدوار التطور، و قد تتعرض بعض مفاصلها إلى النقض أو التعديل سيما وان بحوث علم النفس بالذات هي صدى للتغيير الحاصل في مسيره حياة المجتمع البشري، ومن هنا جاء الربط الجدلي بين علم النفس و علم الاجتماع اللذين يشكلان في بعض الاحيان وحدة متكاملة كما هو الحال في دراسة بعض الأمراض النفسية الحديثة، و تبقى دراسة ظواهر النفس البشرية تخضع لهذا التأثير المتبادل بين هذين الحقلين، و قد تتقاطع فيما بعد مع البحوث و الدراسات المرتبطة بالعلمين انفراداً، مثلاً يخضع علم التخطيط السكاني و البيئي بصورة أو أخرى إلى النظريات التي تبحث في العلوم الاجتماعية، و حيث ان عملية التخطيط هذه تمتلك من المشتركات الرئيسية الهامة التي تمس الجانب النفسي و الذي يوضع في اكثر الدراسات العلمية الحديثة كأساس للتخطيط و التنمية السكانية، فلابد من شمول بحوث التخطيط السكاني لدراسات نفسية، اجتماعية لتركيبة المجتمع موضوع الدراسة و البحث، و من الظواهر التي استرعت اهتمام الإنسان عبر مسيرته التاريخية هي الظاهرة التي يمكن ان نجملها تحت عنوان عام هو (الاستعراضية)...
مصاديق الاصطلاح
إن اختيارنا لمصطلح الاستعراضية لتبيان مجموعة من التصرفات البشرية جاء نظراً للعمومية التي تتمتع بها هذه المفردة و امكانية تطبيق مصاديقها على الظواهر النفسية و الاجتماعية على حد سواء.
وان ادراج المفردات التي تنضوي تحت هذه العنوان الكبير تعطينا مساحة واسعة من حرية البحث، و الذي يتيح بدوره التركيز على أهم حالاته، عن طريق استقاءها من مصادرها العلمية و الدينية، فعلى صعيد الاجتماع و النفس تبرز حالة (حب الظهور) كمصداق رئيسي لاصطلاح الاستعراضية و التي تشترك وطبقاً لقاعدة التقاطع التي اشرنا لها سلفاً مع المباحث الكلامية التي تناولت مفردات درجت على استعمالها في الكثير من المحافل الفكرية و الادبية ومنها الجدل، و السفسطة و الابهام غير المبرر و تعويم الافكار، و استعمال غريب اللغة إلى غير ذلك، وأطلقت الادبيات الدينية ومنها ما اختص بها الدين الإسلامي وهي ما عبر عنها القرآن الكريم بالمراء، و الرياء، و المجادلة، و اللي(1) اضافة إلى الصيغ المبالغ فيها سلباً و ايجاباً و التي طرحها القرآن منشورة في الكثير من الآيات الكريمة كما ان هناك انواعاً أخرى اقرب ما تكون من المصطلح و توحدها مع الاشكال السابقة من حيث مضمونها العام، و منها استعراض القوة و الذي دأبت غالبية الجيوش الحديثة على جعلها احد المراسم السنوية بغية تحقيق مآرب داخلية و خارجية تخص بلدانها، و كذا ما يتبعه من انواع الاستعراض السياسي على صعيد الدولة العام أو على صعيد الشخصيات السياسية لتقديم عروض لنفس الاغراض السابقة مع اختلاف الاساليب، و هنا لابد من الاشارة إلى أن الاستعراضية.
فيها جنبتين سلبية: و هي الجزء المرضى منها و ايجابية: مما يمكن تسميته اسم الاستعراض الهادف، و الذي يرجى من ورائه تحقيق أهداف نافعة للصالح العام أو لصالح فئة معينة.
اما حب الظهور فهو احد الغرائز في النفس البشرية و لا يكاد يخلو منها إنسان الا من عصمه الله تعالى، و قد تناول علم النفس الحديث هذه الغريزة بالبحث و الدراسة المتعمقة الا انه سلّم بكونها غريزة ثابتة غير قابلة للمنع حالها حال الطعام و الشراب و الجنس و غيرها من الحاجات البشرية التي تعتبر ضرورات أساسية لاستدامة الحياة، بينما يختلف التحليل الإسلامي لهذه الحاجة البشرية، خصوصاً و انه اعتبرها حالة سلبية، و لم يعطها وسائل اشباع كما تعامل مع باقي الغرائز، عن طريق معالجتها بسن التشريعات، كما واعطى لها قوانين استثنائية، باعتبارها حاجات فطرية ضرورية لادامة حياة الانسان، فعندما وضع القانون الإسلامي الحد الشرعي للسارق أو الزاني، ترك فقرات يتمكن من خلالها الحاكم الشرعي أو نائبه من تخفيف العقوبة، و هناك عدة حوادث من هذا النوع، تعاملت معها اعلى سلطة اسلامية، سواء في عهد الرسول الأكرم? أو في عهد أمير المؤمنين?.
بينما جوبهت حالة الكبر و الاستعلاء و حب التسلط، بالنهي عنها و زجر فاعلها أو من يتمثل به، اما التسمية الإسلامية لحالة حب الظهور فقد عُبّر عنها بعدة صفات سلبية منها العُجب و الافتخار – السلبي – و حب الجاه و الشهرة و حب المدح و الرياء، و تعود اسبابها بالجملة إلى عدم رسوخ الايمان الذي يكون بمثابة الرادع القوي و الحصن المنيع الذي يسد المسارب الرئيسية التي تنفذ من خلالها هذه الصفات المذمومة.
الطرق العملية في العلاج
ومادمنا قد سلمنا بأن هذه الظواهر السلبية، هي ظواهر مرضية، حالها حال باقي الأمراض النفسية أو الجسدية، فان طرق العلاج العملية لها ستخضع لدور التشخيص الدقيق، و حسب شدة الحالة كما يطلق عليها طبياً، و الاستعراضية بحالاتها السلبية، شانها شأن باقي الأمراض النفسية من حيث ضرورة عرضها على الطبيب المتخصص، وبنفس الوقت تتحمل أسرة المريض قدراً كبيراً من المسؤولية في العلاج، و رغم ان الأمراض النفسية عموماً متداخلة فيما بينها وقد يحمل المريض عدة اعراض ضمن حالة واحدة، الا ان الطبيب المتمرس علماً و روحاً بامكانه الوقوف عند الاسباب الحقيقية لهذه الأعراض ووضع العلاجات الناجعة لها، الأمر الآخر الذي يجب الالتفات إليه هو ان التسميات قد لا تعطي الدقة في التشخيص خصوصاً في بعض حالات من الاستعراض، و الموجودة في البلدان الغربية بشكل خاص حيث تمتهن بعض النساء الاستعراض الفني أو التجاري كحرفة، ثم تتبعها حالة الانحراف عن الفطرة، عندما تتحول هذه الحالة إلى اغراض اخرى غير ما يسمى بالفن أو التجارة. ورغم ان بحثنا قد طرق هذا الموضوع بشكل عام، الا ان غالبية المجتمع الإسلامي – لحد الآن على الاقل – غير معرضة لحدوث هذا الانحراف بشكله المرضي الموجود في الغرب، وهذا ما يحفزنا على ضرورة فتح الباب امام علم النفس الحديث و تقويمه بما يلائم طبيعة مجتمعنا الاسلامي، كما انه من الضروري ان لا يستهان بقدرات اطباء النفس المسلمين و خبراتهم، و احتمال تفوقهم على نظراءهم كما نوهنا في بداية كلامنا، الا ان اكثرية المسلمين ومع الأسف لا تأبه بهذا النوع من الدراسة، بل ويتعدى الامر إلى اكثر من ذلك، عندما يرفض المريض الذهاب إلى العيادة النفسية بحجة اختصاصها بالمختلين عقلياً، غير ان الأمر يبتعد عن ذلك تماماً فهل يمكن ان يتردد مريض ما للذهاب إلى عيادة خاصة بالامراض التناسلية لأنها تختص بأمراض الإيدز أو غيرها.
كما انه من الضروري فتح مصحات خاصة في البلدان الإسلامية تستخدم فيها العلاجات الروحية كالعلاج بالقرآن و بالدعاء، علماً انه يوجد في بعض البلدان الغربية مصحات حديثة تستخدم العلاج الروحي بطريقتهم، و هو أمر أجدر بالمسلمين فعله، فقد صرح القرآن الكريم ببعض الآيات بانواع من العلاجات وهكذا كان رسول الله? والامام أمير المؤمنين? يرقون مرضاهم بآيات من القرآن و كذلك ما هو منقول عن ائمة اهل البيت? في هذا الصدد و حتى عند بعض العلماء المتأخرين.
اخيراً، يجب الاشارة إلى ان العالم مقبل على مستقبل غامض وتطورات مخيفة، وهذا ليس من باب التشاؤم، و انما يدل على ذلك حالة القلق و الارتباك التي يعيشها العالم الغربي اليوم، ومنها الحالات التي نسمعها ونقرأها من تشكيل مجموعات قررت الانتحار بداية الالفية الثالثة لأنها يئست من التغيير و الاصلاح، وسئمت انتظار المجهول في حين اننا كمسلمين مجمعين عــــلى ان افضل العبادة هي انتظار الفرج كما تضمنه قول الرسول الأكرم? اضافة إلى العقيدة الإسلامية الراسخة بوجود الامام المنقذ و المصلح الاكبر الامام الحجة بن الحسن? والذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وكفى بهذا الامل شافياً لنفوسنا، والذي يجب ان ننشره كرسالة مفتوحة إلى العالم أجمع لاستئصال حالة القلق و اليأس و القنوط التي امتلكت سكان هذا الكوكب...
ساحة النقاش