ارتبطت حياة هذا العالم الكبير بالأرقام التي منحته أسرارها ونجح من خلالها في تحقيق الكثير من الإنجازات العلمية في مجال الرياضيات البحتة والعملية.
نشأتهولد كارل فريدرش جاوس عام 1777 في براونشفايج (وسط ألمانيا). لم تحظ والدته بأي قدر من التعليم فعملت كخادمة، أما والده فمل كجزّار وكعامل بناء وكموظف تأمينات الجزّار إضافة إلى أعمال أخرى
لم يكن عمر جاوس يتجاوز 7 سنوات عندما قدم أولى ملاحظاته الرياضية النبيهة.
أحدث التلاميذ جلبة شديدة في الفصل فقرر المدرس معاقبتهم بإعطائهم مهمة صعبة ينشغلون في حلها. المهمة التي طُلب من التلاميذ القيام بها هي جمع الأعداد ما بين 1 وَ 100. ظن المعلم أن الهدوء سيعود إلى الفصل وأن انهماك التلاميذ في حل هذه المسالة الحسابية سيستمر ساعات، لكن لم تمض بضعة دقائق حتى تقدم صبي من المعلم وقال له أن محصلة جمع الأعداد هي 5050. انعقد لسان المعلم من الدهشة ثم سأل الصبي: كيف توصلت إلى هذه الإجابة الصحيحة؟. فقال الصبي إنه لاحظ أن ناتج جمع 1 + 100 هو 101، وناتج جمع 2 + 99 هو أيضا 101، وناتج جمع 3 + 98 هو كذلك 101، ويتكرر الأمر حتى نصل إلى 50 + 51، إذا كل ما علينا هو أن نضرب 101 في 50 وهي عدد مرات التكرار فيكون الناتج 5050.
كان هذا الصبي النبيه، ابن السبعة أعوام، هو الرياضي الألماني العبقري كارل فريدرش جاوس. وقد دلت هذا الحادثة على دقة ملاحظته، ورهافة فهمه لعلم الرياضيات كوسيلة مبتكرة لفهم وتوصيف الظواهر الطبيعية. ارتبط جاوس منذ صغره بعالم الأرقام، حتى أنه نفسه كان يقول أنه تعلم الحساب قبل تعلم الكلام. واستمرت هذه العلاقة الحميمة طيلة حياته، نجح خلالها في اكتشاف طبيعة الأعداد الأولية، واستطاع تطوير مفهوم الأعداد المركبة، التي ساعدت في حساب الكثير من الظواهر الفيزيائية. ولم يرتضِ هذا الرياضي الكبير أن تظل أفكاره مجردة تعيش في عالم الجبر والحساب، فاستثمر نظرياته وملاحظاته في مجالات مفيدة من الحياة العملية، مثل قياس سطح الأرض وحساب مسار الأجسام الفضائية وتحديد موعد عيد الفصح فلكيا.
وبعد حادثة الفصل/ الصف الآنفة الذكر أدرك معلم جاوس أن الصبي يمتلك موهبة كبيرة، فعمل على دعمه في دراسته وامداده بالكتب والمراجع المهمة. وبفضل ذلك استطاع الالتحاق بجامعة جوتنجن الألمانية حيث درس الحساب واللغة والفلسفة. ومن جامعة مدينة هيلمشتادت (شمال ألمانيا) حصل على الدكتوراه عام 1799، إلا أنه عاد إلى جوتنجن للعمل كمحاضر في الرياضيات.
لم يتم جاوس عامه الثامن عشر حتى قادته ملاحظاته لطريقة يمكن بها تحديد الشكل الذي تتغير به ظاهرة معينة عن طريق مجموعة من البيانات المجموعة عن هذه الظاهرة في فترات زمنية متباينة. وتمخض عن تلك الطريقة ما بات يعرف بمنحنيات جاوس، وهي منحنيات على شكل جرس، وأحيانا تشبه الغيمة/ السحابة. وقد استفادت منها نظرية الاحتمالات كثيرا في التنبؤ بسلوك ظاهرة ما وتقدير درجة تغييرها. وفي التاسعة عشرة من عمره استطاع من خلال دراساته على المنحنيات توصيف المنحنيات الجيبية Sinosoidal Curves. كما تمكن من إيجاد طريقة هندسية لرسم السباعي عشر(مجسم هندسي يتكون من سبعة عشر رأسأ) باستخدام المسطرة والفرجار.
في مطلع القرن التاسع عشر وبالتحديد عام 1801 اكتشف الفلكي جوزيبي بيازا كويكبا صغيرا اسماه سيريس Ceres، لكن الكويكب عاد واختفى وفقد الفلكيون مساره. كانت هذه حالة مثالية لعالم الرياضيات جاوس، فقد حصل على فرصة لاختبار نظرياته حول التنبؤ بتغير الظواهر. فقام بحساب مسار الكويكب بناءً على موقعه عندما اكتشفه بيازا، واحتاج الأمر عاما كاملا حتى عثر الفلكي هيانريش اولبرس على الكويكب من جديد مثبتا صحة المسار الذي رسمه جاوس. وبعد ذلك اهتم بالحسابات الفلكية وعمل على حساب مسار كويكب بالاس Pallas. ثم جمع خبراته في كتاب "نظرية في حركة الأجسام السماوية التي تدور حول الشمس متخذةً شكل مقاطع مخروطية" عام 1809.
يقصد بالحسابات الجيوديسية حساب أقصر خط يمر بين نقطتين، وتستخدم هذه الحسابات لقياس الأرض وتحديد علامات فوقها. وكان لجاوس مساهمة هامة في ذلك العلم حيث وظف معرفته الرياضية عام 1816 في ترسيم خطوط الطول والعرض للملكة الدانمركية. كما قام عام 1818 بمهمة حساب مساحة مملكة هانوفر، وطبق خلال هذه الحسابات بعض نظرياته الخاصة بتدقيق رسم منحنيات الدوال الرياضية. كما كان لجاوس مساهمات عديدة في مجالات متنوعة كالهندسة التفاضلية وعلم المجالات المغناطيسية. وكشفت مذكراته الشخصية التي كان يداوم على كتابتها عن ملاحظات علمية عديدة سبق بها الكثير من معاصريه، لكنه لم ينشرها لعدم اكتمال نظرية شاملة يقدم هذه الملاحظات في ضوئها.
ساحة النقاش