يقف العلماء خلال نهاية الأسبوع الحالي على أقدامهم متحفّزين، حيث تتوالى الأخبار من المختبرات الأوروبية التي ستساهم إما في إثارة فضيحة إعلامية وإما ــــ وهذا سيكون أكثر إثارة حتما ــــ في فتح صفحة جديدة في العلوم الفيزيائية.
وأفاد جون إيليس عالم الفيزياء النظرية في المنظمة المذكورة، والذي لم يشارك بشكل مباشر في الاكتشاف الأخير، بأنه «في حال تأكد ذلك، فانه سيكون بمنزلة اكتشاف مثير، ويجب بالتالي التعامل معه بشكل حذر للغاية». ويقول علماء أدهشتهم المعلومات انهم سيفاجأون «إذا بقيت هذه النتائج حيّة خلال فصل الخريف، لكن إذا صمدت فعلا، فانهم غير قادرين على تصور ما يمكن أن يحدث لاحقا».

أكسبرس سويسرا - إيطاليا
ماذا حدث إذاً؟
يقول العلماء انهم سجّلوا جزئيات صغيرة وأخرى غير مادية أصغر من النواة تعرف بـ «نيترينو»، وتتحرك بسرعة أكبر من سرعة الضوء. وجاء القياس نتيجة تجربة حملت عنوان «أوبيرا» أجريت في مدينة غران ساس الإيطالية، حيث قام العلماء ضمن إطارها بمراقبة سفر ما يعرف بـ «ميون نيترينو» من مختبر المنظمة الأوروبية (س.ي.ر.ن) الموجود على بعد 732 كلم في سويسرا.
ومن الضروري التأكيد على أن ذلك لا يزال حتى الآن مجرد تخمين. والأمر لا يزال مرتبطا بإعلان أولي حول شذوذ فيزيائي غير طبيعي وغير متوقع. وقد أعدت المنظمة الأوروبية المذكورة، وكذلك العلماء العاملون ضمن اختبار أوبيرا، تقارير علمية خاصة حول الأمر، تم نشرها على مواقع مختلفة على شبكة الانترنت.
وبعث المدير العام للمنظمة الأوروبية أمس (الجمعة) رسالة عبر البريد الإلكتروني إلى زملائه تتضمن معلومات حول نتائج اختبار أوبيرا، وطلب منهم فيها توخي الحذر وانتظار مزيد من المعلومات.

لم يتم قياس أي شيء «تقريبا»
النيترينو هو جزئية تتحرك حولنا في كل مكان تقريبا، لكنها تبتعد دائما عن المادة المتعارف عليها وتحاول ألا تصطدم بها. وهي تمر عبر أجسادنا أو عبر الأرض بشكل مستمر من دون أن نلاحظها. وتنتج الشمس منها خلال التفاعلات النووية كميات كبيرة لدرجة أن آلافاً منها تمر عبر أجسادنا في كل ثانية.
وتصطدم تلك الجزئيات في بعض الأحيان مع الكتل المادية الأخرى، لكن ذلك يتم بشكل نادر. وفي الواقع، فان اختبار «اوبيرا» يحاول البحث عن آثار تلك العمليات النادرة.
وبالرغم من خصائصها الفريدة، فإن النيترينو تعتبر مادية أيضا (وإن كان ذلك بشكل هامشي حقا). هذا يعني أن وزنها الأقصى يجب أن يُحدّد بسرعة الضوء. وخلال اختبار «أوبيرا» تبين من قياس ما يعرف بـ «ميون نيترينو» بأن هذه الجزئيات هي سريعة للغاية بشكل غير متوقع.

أليس ذلك خطأ؟
يجب التأكيد على أن كل ما يجري لا يزال مجرد تخمينات. وقد ظهرت أولى المعلومات المرتبطة بذلك على المدوّنة الفيزيائية «ريزونانس» ضمن تعليق على احدى المقالات المنشورة بتاريخ 19 سبتمبر. وهذا يكشف شيئا إضافيا عن العلاقة السلبية للصحافيين بالعلوم. وحتى ذلك التاريخ، كان المسؤولون عن اختبار أوبيرا يؤكدون أن النتائج موجودة فعلا.
في حال تأكد هذا الاكتشاف، فانه سيشكل اختراقا حقيقيا. وربما سيكون بمكانة معجزة عملية.
لقد فاجأت القيم المسجّلة الباحثين لدرجة أنهم طلبوا من زملائهم التأكد من عملية التسجيل بشكل مستقل عنهم، قبل أن يقوموا بتعميم الاكتشاف بشكل رسمي. وحتى هذه اللحظة فان ما يبدو أكثر واقعيا هو أن الأمر مرتبط بخطأ في عملية القياس.

والفريق يدرك ذلك. فبالرغم من أن العلماء من مشروع «أوبيرا» أجروا حوالي 16 ألف عملية قياس وبدت نتائجها طبيعية من وجهة النظر الإحصائية (كانت تتكرر دائما وهو ما أثبت أن الأمر ليس مجرد خطأ)، فإن هذا لا يعني أنهم لم يرتكبوا خطأ في إعداد نظام القياس. فعملية قياس النيترينو ليست شيئا سهلا أبدا، وتملك في طيّاتها الكثير من النظريات المعقدة بالإضافة لكثير من الإجراءات الاختبارية. وفي حال كان النظام معدّا بشكل سيئ، فان عدد القياس لا يفعل شيئا بالخطأ.

القائمون على الاختبار يعتبرون أن ذلك غير متوقع، حيث أفاد الناطق باسمهم أنطونيو إيريديتاتو «بأنهم يعملون على قياس المسافة والوقت، ومنها يكتشفون السرعة، تماما مثل ما يتم في المدرسة» (سيتم قياس المسافة بين المنظمة في سويسرا ومركز «أوبيرا» في إيطاليا بدقة توازي عشرين سم).
إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود نواقص في عملية القياس. وما سيكون معقدا على سبيل المثال هو محاولة تحديد الوقت الدقيق لعملية «اقلاع» و«هبوط» الجزئيات المحددة. ووفق العلماء فان ثمة مشكلة في تحديد اللحظة الدقيقة لنشوء النيترينو في مركز المنظمة (الذي ينشأ من خلال اصطدام حزمة البروتونات بالهدف الصلب)، ومن ثم وقت كشفه. وفي هذا السياق أفاد تشانغ يي يونغ من جامعة ستوني بروك بنيويورك لمجلة ساينس بأن قياس هذا الوقت يستخدم نظام الكشف العالمي (جي بي اس)، الذي تصل نسبة عدم الدقة فيه إلى عشرة أجزاء من أعشار الثانية أو ما يعرف في الإنكليزية بنانوسيكوند (الثانية الواحدة تساوي = 109 ns. نانوسيكوند). وأضاف انه متشوق ليعرف كيف تمكنوا من خفض عدم الدقة إلى عشرة أجزاء من أعشار الثانية.
إن تأكيد النتائج سيكون إثارة فيزيائية حقيقية، لكن ذلك لن يفاجئ الجميع حتما. فالتأكيد القائل إن النيترينو هي أسرع من الضوء يعتبر اليوم بمنزلة غرابة فيزيائية، لكن ذلك لا يعني أنه لم يكن يظهر بين وقت وآخر في الأعمال والتجارب العلمية.

تحت رحمة مجموعة من الفيزيائيين
يطالب القائمون على عمليات القياس زملاءهم بالتأكد من نتائجهم. وهم لا يتحدثون بشكل مباشر عن ثورة أو نهاية لنظرية النسبية الخاصة بآينشتاين، بيد أن النتائج غير المتوقعة هي التي أجبرتهم على الخروج من المختبر. وأفاد الناطق باسم «أوبيرا» أنطونيو إريديتاتو: «يجب أن نقول شيئا ما. لا يمكننا إخفاء ذلك تحت السجادة، لأن ذلك سيكون أمرا غير أمين».
ويوافقه على ذلك كثير من العلماء حتما. بيد أن غيرهم لم يعجبهم كيف أن الفريق أصدر فورا تأكيده الذي يزعم بأن النيترينو، الذي تم قياسه هو أسرع من الضوء. وأفاد بأنه «كان من الممكن أن يكون الأمر أفضل لو قال الفريق مثلاً ان لديه نتائج لا يمكنه حتى الآن التأكد من أهميتها، لكنها تبدو مثيرة، بدلاً من أن يأتي بهذا التأكيد عن سرعة الجزئيات، والذي يعتبره شخصياً تأكيداً قويًّا جداً».
وهو كذلك - حتما - لأنه لو تأكدت فعلا نتائج القياس المذكور، لكانت النتائج أشمل من تلك المقدمة بكثير. ويقول علماء يتبنون وجهة النظر هذه: «إذا كان الأمر كذلك فعلا، فانه سيتم قلب كل الفيزياء رأساً على عقب. سنضطر عندئذ الى السؤال كيف ممكن أن تكون سرعة النيترينو؟ أقل؟ أكثر؟ هل توجد سرعة قصوى؟ ولماذا يجب أن يتم تحديد ذلك على النيترينو - فقط - التي هي مجرد جزئية مادية عادية؟ ان ذلك سيثير بكل بساطة الكثير من الأسئلة، لدرجة أنني غير قادر على تصور أن ما يجري ممكن أن يكون حقيقة. لكن هذا لا يعني - بالطبع - أنه لا يمكن أن يكون حقيقياً».
في جميع الأحوال، فإن تأكيد نتيجة حاسمة مثل هذه سيتطلب تقديم أدلة دامغة لا يمكن الطعن فيها بأي شكل من الأشكال. ويبدو أن كثيراً من علماء الفيزياء لن يأخذوا هذا التأكيد على محمل الجد، قبل أن يتم تأكيده من قبل فريق آخر من العلماء، وخلال تجربة أخرى.