لعل التجارب التي أجريت من أجل معرفة تأثير الانفعال والتوتر العصبي علي صحة الإنسان ـ وعلاقة ذلك وتأثيره علي الجهاز المناعي ـ كثيرة ومتعددة, ففي جامعة بنسلفانيا وضعوا مجموعة من الفئران داخل قفص, وظلوا يصعقونها بشحنات كهربائية متقطعة علي مدي النهار, بحيث لا يستطيع أي منها ينعم بفترة استقرار نفسي لمدة طويلة, وفي نفس الوقت ليس له مهرب من هذا التوتر العصبي والانفعال, وتم تدوين الملاحظات والنتائج, حيث حاولت الفئران في البداية الهرب, ولما لم تجد لأنفسها مهربا, استسلمت تماما للصدمات الكهربائية, وكانت في حالة من اليأس والقنوط, جعلت أعداد الخلايا الليمفاوية التائية, التي تعد المايسترو بالنسبة لجيش الدفاع الإلهي المسمي بالجهاز المناعي تقل, وتقل معها كفاءتها الوظيفية, مما أدي إلي تعرض تلك الفئران للأمراض والأورام المختلفة, والعدوى التي قضت عليها وأودت بحياتها.
وفي تجربة أخري في نفس الجامعة, تم حقن الفئران بنوع من الخلايا السرطانية, وتم وضعها في مكانين, أحدهما لا يمكن للفئران فيه أن تهرب من الصدمات الكهربائية, والآخر يمكن لبعض الفئران الهروب فيه من الصدمات الكهربائية إلي مكان آخر آمن, وبالتالي فان الفئران التي لا تستطيع الهروب, تتعرض لتوتر عصبي مستمر ودائم, وتم متابعة الفئران من المجموعتين لرؤية من منها الذي سوف يكون أوراما سرطانية, ومن الذي سوف يستطيع جهازه المناعي مقاومة نمو الخلايا السرطانية؟ وكانت النتيجة أن الفئران التي لايمكنها أن تهرب من الصدمات واليائسة, هي التي كونت أوراما سرطانية, وانتشرت هذه الأورام في أجسامها كلها, بينما الفئران التي استطاعت أن تهرب من الصدمات إلي مكان آمن استطاع جهازها المناعي أن يحجم نمو الخلايا السرطانية, ويقضي عليها, فلم تكون أوراما سرطانية, وفي الوقت نفسه استطاعت الفئران التي لم تأخذ أي صدمات كهربائية أن تتغلب علي الخلايا السرطانية, ولم تكون أي أورام, لانها لم تتعرض لاي نوع من الانفعالات والتوتر العصبي.
وربما لا يعلم الكثير منا أن من ضمن خلايا الجهاز المناعي, خلايا مسئولة عن التصدي للخلايا السرطانية والإجهاز عليها, وهي تسمي الخلايا القاتلة الطبيعيةNKcells ولكن بشرط أن يكون الجهاز المناعي في حالة جيدة, وألا تكون الخلايا السرطانية في حالة الانقسام الشرس والعشوائي الذي لايمكن خلايا الجهاز المناعي من اللحاق بها لكي يوقف نموها.
ومن هنا نستخلص ان اطمئنان النفس, وتجنب التعرض للانفعالات الحادة يمكن الجهاز المناعي من القضاء علي الخلايا السرطانية في بداية تكوينها, وذلك علي الرغم من وجود عوامل أخري كثيرة تؤثر علي تكوين الاورام, ومنها الوراثة والمواد المسرطنة مثل التدخين, وغيرها من المواد العديدة التي تسبب الاصابة بالسرطان في أماكن مختلفة من الجسم.
التوتر والغضب والقلق تتسبب في ظهور اعراض الشيخوخة المبكرة وتثبيط الجهاز المناعي للجسم
وقد أثبتت التجارب التي أجريت علي الانسان أيضا, تأثير الانفعال والتوتر العصبي علي تكوين الأورام السرطانية, فقد أثبتت التجارب التي قام بها دكتور ستيفين لوك في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة, أن نشاط الخلايا القاتلة الطبيعيةNK المسئولة عن التصدي للخلايا السرطانية يقل بشكل حاد, وتقل معه موارد مناعية لها دور أساسي في مقاومة الخلايا السرطانية مثل مواد: الإنترفيرون, وإنترليوكين ـ2 وعامل تليف الاورامTNF وغيرها, عند التعرض للانفعالات سواء الحادة التي لايستطيع الانسان التكيف معها, أو المزمنة المستمرة مع وجود التوتر العصبي مثل الاشخاص الذين يعتنون بمرضي ميئوس من شفائهم.
والحقيقة أن تأثر كل منا بالانفعال واستجابتنا له, يختلف باختلاف طبيعة شخصية كل منا, فهناك الشخصية الانهزامية المستسلمة التي لاتستطيع التكيف مع ما تواجهه من أسباب الانفعال, وفي هذه الحالة يفقد الانسان السيطرة علي نفسه, ويصاب بالاحباط, مما يؤثر علي جهازه المناعي وقوته الجسمية, بينما نجد في نفس الوقت ان الشخصية المثابرة والعنيدة والرافضة للهزيمة والمليئة بالايمان والامل, لايتأثر جهازها المناعي كثيرا بما تواجهه من انفعالات.
ولنأخذ مثالا لهذا الكلام من خلال التجارب التي أجريت علي الحيوانات أيضا في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة, فلو أخذنا مجموعة من الفئران, ووضعناها مع بعضها البعض في قفص لفترة طويلة بحيث تصبح مجموعة متجانسة, ثم أدخلنا فأرا آخر غريبا عن هذه المجموعة لكي يعيش معهم, تري ماذا يمكن أن يحدث؟ في البداية يتفحص الفأر الغريب المجموعة التي يدخل عليها وهي تتفحصه, ثم تبدأ في مهاجمته لكي يترك لها المكان باعتباره غريبا عنها, وفي الغالب يهاجم أقوي الذكور هذا الغريب ويحاول ان يضايقه لكي يخرجه خارج القفص, وفي البداية يقاوم الفأر الغريب بكل ما يملك من قوة وجهد حتي يصيبه اليأس من المقاومة, فيأخذ جانبا من القفص يجلس فيه وحيدامنزويا شاعرا بالهزيمة, وهذا الشعور بالهزيمة هو الذي يطلق عليه علماء النفس فقدان السيطرة أوIossofcontrol وعندما نأخذ هذا الفأر خارج القفص, ونعيد في اليوم التالي نفس التجربة, فان هذا الفأر سوف يأخذ وضع الهزيمة والاستكانة من أول دخوله للقفص دون أي مقاومة, فقد أيقن أنه ليس في مكانه الصحيح, وارتضي الهزيمة وساءت حالته النفسية, وماذا كانت النتيجة؟
كانت نتيجة اليأس والشعور بفقدان الثقة, والانفعال الحاد, وتقبل الهزيمة, هي ظهور قرح في أماكن متعددة في جسد هذا الفأر المهزوم, وتبين من تحاليله زيادة إفراز هرمون الكورتيزول والادرينالين الخاص بالانفعالات وزيادة نسبة السكر في دمه, وانخفاض حاد في عدد خلايا الجهاز المناعي الليمفاوية ووظائفها وكفاءتها, وانهيار قوته البدنية والجسدية.
ومن هنا ومن تجارب أخري خرج العلماء باستنتاج في غاية الاهمية, وهو أنه ليس المهم أن تتعرض للفشل أو الانفعال الحاد, ولكن المهم أن تملك الايمان واليقين بأنك سوف تتجاوز هذه الهزيمة أو هذا الفشل أو هذا المرض, وفي هذه الحالة فانك تملك زمام نفسك وتسيطر عليها, وسوف تقوم بعد سقوطك وعثرتك, فهذا اليقين الايماني هو الوحيد القادر علي صد ما نواجهه من صدمات وأزمات الحياة المختلفة التي تصيبنا, وتسبب انفعالاتنا واحباطنا وربما يأسنا.
وهكذا يتبين لنا قيمة الايمان وروعته كي نستطيع ان نتكيف مع الصدمات التي تقابلنا, دون أن تحدث لنا اصابات جسيمة وعاهات مستديمة, وكيف لا؟ ونحن نعلم ان هذه الصدمات إنما هي ابتلاء من الله سبحانه وتعالي, وسوف نثاب عليها اذا صبرنا وتقبلناها لانها من عند المولي عز وجل, وكيف لا؟ ونحن نرمي أحمالنا علي ملك الملوك ذي القوة المتين, الذي يملك كل شيء,( إنما امره اذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) سورة يس وكيف لا؟ وهو منا قريب يطلب منا ان ندعوه فيستجيب لنا( واذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) ولكن بشرط( فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون)[ سورة البقرة] وانظر إلي حكمة الله سبحانه وتعالي وروعته وهو الخالق والاعلم بخلقه وبخبايا نفوسهم, عندما يتولي مهمة الطبيب النفسي الأعظم, فيجعلنا نلجأ إليه في حالات الاضطرار, واذا ما أغلقت في وجوهنا كل الأبواب, ليس هذا فحسب, بل انه يزيد من قربنا منه واستجابته لدعائنا في مثل هذه الحالات من الاضطرار,
فيقول جل شأنه( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء)[ سورة النمل] أو في حالات الضعف والاستكانة فيقول الرسول الكريم دعوة المظلوم ليس بينها وبين السماء حجاب أي أنها مستجابة دون وسيط, منتهي الروعة والفهم من صانع الصنعة لصنعته, لكيلا يقع الانسان فريسة لليأس والإحباط والقنوط كلما أشتد به يأس, أو زاد عليه كرب, أو لحق به ظلم.
ساحة النقاش