نيويورك: لورا بيل*
مثلما للأذن وظيفتان: السمع، وتحقيق التوازن في جسم الإنسان، فللعين وظيفتان أيضا. فالعين تتلقى المدخلات اللازمة للرؤية، ويوجد داخل الشبكية أيضا أدوات استشعار (مستشعرات) ترصد ظهور واختفاء ضوء النهار. فمع أول شعاع ضوء يقوم الجسم بضبط الساعة الداخلية لدورة زمنية مدتها 24 ساعة، وهي الساعة التي تنظم عمل نحو 10 في المائة من الجينات.
العين والضوء
* إن الأساس الذي يقوم عليه هذا النظام هو هرمون الميلاتونين الحساس للضوء الذي يفرزه الجسم يوميا خلال فترة الليل. ويحدث هذا الهرمون شعورا بالنعاس، ويعمل على ضبط مجموعة من العمليات الحيوية وفقا للساعة التقريبية.
وعندما تشعر الشبكية بالضوء تعمل على وقف إفراز الميلاتونين - وهنا تكمن المشكلة. ففي هذا العالم العصري، يغمر الضوء أعيننا، ولكن بعد الغسق، وذلك بخلاف نظامنا الحيوي الذي تطور على مدى الزمن (الذي لم يعرف الضوء الصناعي عند نشأته).
ويقترب العلماء من فهم التبعات الصحية المحتملة، إذ اكتشف العلماء أن الخلل في الساعة البيولوجية للجسم لا يؤدي إلى تقليل معدل النوم فقط، ولكنه يؤدي إلى الإصابة بعدد من الأمراض أيضا.
وقال جورج برينارد، طبيب الأعصاب بجامعة توماس جيفرسون بفيلادلفيا الذي يعد من أوائل الباحثين الذين قاموا بدراسة تأثيرات الضوء على هرمونات الجسم وإيقاع الحياة اليومي: «يعد الضوء بمثابة عقار على الرغم من أنه ليس عقارا على الإطلاق». ويؤدي أي نوع من الضوء إلى وقف إفراز الميلاتونين، ولكن التجارب الحديثة أثارت تساؤلات حول نوع محدد، وهو الموجات الزرقاء التي تنتجها أنواع كثيرة من المصابيح قليلة الاستهلاك للطاقة والأدوات الإلكترونية.
موجات زرقاء
* اكتشف الدكتور برينارد وباحثون آخرون أن الضوء يتكون من موجات زرقاء تعمل على إبطاء إنتاج الميلاتونين بفاعلية معينة. وحتى وقت قريب، قامت دراسات بفحص تأثير الأجهزة الإلكترونية التي تصدر موجات زرقاء على المخ.
كما حاول علماء بجامعة بازل بسويسرا القيام بتجربة بسيطة، وطلبوا من 13 شخصا الجلوس أمام شاشات الكومبيوتر كل مساء لمدة أسبوعين قبل الذهاب للنوم.
وقام متطوعون خلال الأسبوع الأول ولمدة خمس ساعات كل مساء بالجلوس أمام شاشة فلورسنت قديمة تنبعث منها موجات ضوئية تتكون من ألوان متعددة من الطيف المرئي، ولكنها تصدر موجات زرقاء قليلة. وفي الأسبوع الثاني قام الرجال بالجلوس أمام شاشات ذات خلفية مضاءة بواسطة صمام ثنائي باعث للضوء، وكانت الشاشة زرقاء تماما.
وقال كريستيان كاجوكين، مدير مركز علم البيولوجيا الزمني بجامعة بازل، إن «ما يدعو إلى الدهشة حقا هو رصدنا لفروقات شاسعة». فقد استغرق ارتفاع مستوى الميلاتونين لدى المتطوعين الذين تعرضوا لشاشات الصمام الثنائي الباعث للضوء وقتا أطول في الإفراز خلال فترة المساء مقارنة بارتفاع مستوى الهرمون لدى الأشخاص الذين تعرضوا لشاشات الفلورسنت، واستمر ذلك طوال المساء».
كذلك سجّل المتطوعون معدلات أعلى في اختبارات الذاكرة والإدراك بعد التعرض للضوء الأزرق، وذلك حسبما ذكر الدكتور وفريقه البحثي في عدد مايو (أيار) من مجلة الفيسيولوجيا التطبيقية. وكان المتطوعون قادرين على تذكر عدد من الكلمات التي كانت تومض في شاشة الفلورسنت لنصف الوقت، بينما وصلت بعض المعدلات إلى 70 في المائة تقريبا عندما قاموا بتثبيت نظرهم على شاشات الصمام الثنائي الباعث للضوء.
مشكلات الضوء الصناعي وتضاف هذه النتائج إلى مجموعة من الافتراضات الأخرى على الرغم من عدم التأكد من صحتها بعد، التي تشير إلى أن التعرض للضوء الأزرق يمكن أن يؤدي إلى يقظتنا وتنبهنا عن طريق وقف إفراز الميلاتونين. فشاشة الصمام الثنائي الباعث للضوء الكبيرة وذات الضوء القوي قد تمنحك حافزا مثيرا في الوقت الذي تعمل فيه على تثبيط قدرة جسمك على النوم في وقت لاحق. ولن تتلاشى عوامل التأثير بمجرد إطفاء الجهاز، وذلك حسب ما ذكر الدكتور برينارد.
ولم ينصح أحد من الخبراء بإطفاء النور في المساء والجلوس في الظلام، حيث لا يزال البحث في هذا المجال في بدايته. وقال مارك ريا، الباحث في مركز أبحاث الإضاءة بمعهد رينسيلار بوليتكنيك بنيويورك: «نحن على وشك أن نفهم قيقة ما يحدث في الظروف الطبيعية».
لقد تم اختراع الضوء الصناعي منذ ما يزيد على 120 عاما، ولكن الضوء المنبعث من المصادر القديمة، مثل المصابيح المتوهجة يحتوي على موجات حمراء. وتكمن المشكلة التي يخشاها الدكتور برينارد وباحثون آخرون في أن عالمنا تتم إضاءته باللون الأزرق بصورة متزايدة. وقد تم بيع 1.6 مليار من أجهزة الكومبيوتر والتلفزيون وأجهزة الهاتف الجوال العام الماضي فقط وتم الاستبدال بالمصابيح المتوهجة أخرى أقل استهلاكا للطاقة، وغالبا ما تكون مصابيح زرقاء.
وفي عدد يناير (كانون الثاني) من مجلة «بلاس وان»، قام فريق من جامعة بازل بمقارنة تأثيرات المصابيح المتوهجة بمصابيح الفلورسنت تم تعديلها لتصدر ضوءا أزرق. وتعد نسبة إفراز الميلاتونين لدى الرجال الذين تعرضوا للمصابيح الفلورسنت أقل بمقدار 40 في المائة عن النسبة التي أفرزتها أجسامهم عند تعرضهم للمصابيح المتوهجة، كما أشاروا إلى أنهم يشعرون بيقظة أكثر بعد ساعة من إطفاء الأنوار.
بالإضافة إلى ذلك، فإن كمية الضوء اللازم للتأثير على إفراز الميلاتونين قد تكون أقل بكثير مما يظن المرء. فقد جاء في بحث نشر في عدد مارس (آذار) من مجلة علم الغدد الصماء والتمثيل الغذائي أن فريقا من كلية الطب بجامعة هارفارد أوضح أن الإضاءة المعتادة داخل المنزل قبل الذهاب إلى النوم تؤدي إلى منع إفراز الميلاتونين في المخ وتعمل على تأخير إفراز الهرمون لمدة 90 دقيقة بعد إطفاء الأنوار، بالمقارنة بالأشخاص الذين تعرضوا لضوء خافت فقط.
الضوء والمشكلات الصحية
* ولكن ماذا تعني هذه النتائج في الحياة اليومية؟ يعتقد بعض الخبراء أن التعرض إلى أي نوع من الضوء في وقت متأخر من الليل قد يؤدي إلى تأثيرات ضارة كبيرة على الصحة، بغض النظر عن أي تأثير على النوم. وعلى سبيل المثال، ذكر تقرير نُشِر العام الماضي في دورية «بناس» أن الفئران التي تعرضت للضوء أثناء الليل ازداد وزنها مقارنة بالفئران التي تعرضت لضوء طبيعي، على الرغم من استهلاك كلاهما عدد السعرات الحرارية نفسها.
كما تمت منذ عقدين دراسة تأثير الضوء في فترة المساء باعتباره من عوامل الإصابة بسرطان الثدي. على الرغم من عدم وجود أي إحصاءات تشير إلى ذلك، ودعم عدد من المختبرات والدراسات الخاصة بالأمراض الوبائية هذه الفكرة، كما أعلنت منظمة الصحة العالمية عام 2007 أن تغير نوبات العمل من الممكن أن يؤدي إلى إفراز مادة مسببة للسرطان. كذلك يعمل اختلال الساعة البيولوجية إلى «تغيير أنماط النوم ومنع إفراز الميلاتونين وعدم تنظيم الجين الذي يعمل على تطوير الورم»، وذلك كما ذكرت المنظمة.
ومن الممكن أن يتم الكشف عن تأثيرات الضوء الأزرق على العاملين ليلا وغيرهم ممن يتعرضون لقدر قليل من ضوء النهار، وذلك على حد قول بعض الباحثين. ضع في اعتبارك التجربة التي نُشرت في عدد يونيو (حزيران) من دورية الجمعية الأميركية للإدارة الطبية، التي أوضحت أن من بين 28 من كبار السن المقيمين في دار للرعاية، من تعرض للضوء الأزرق لمدة 30 دقيقة طوال أيام الأسبوع ولمدة أربعة أسابيع، تحسنت قدراته الإدراكية مقارنة بالذين تعرضوا للضوء الأحمر فقط.
ويأمل باحثون مثل الدكتور برينارد أن يقدم العلم جيلا جديدا من الضوء والشاشات التي يتم تصميمها بواسطة موجات يمكن تعديلها وفقا لساعات اليوم.
ومن بين المهتمين بهذا الأمر مسؤولون في وكالة «ناسا» لأبحاث الفضاء الذين وجهوا أطباء الأعصاب نحو تصميم ضوء في محطة الفضاء الدولية بطريقة تساعد على الانتباه واليقظة خلال ساعات الاستيقاظ، وتحثّ على النوم خلال أوقات الراحة.
وقال الدكتور برينارد: «أعتقد أننا على مشارف ثورة في عالم الإضاءة. فإذا كان من الممكن تصنيع ضوء يبقي الهرمون خامدا أثناء رحلات الفضاء، فسوف يستخدمه الناس هنا على الأرض».
ساحة النقاش