السلوك الإنساني
يقوم الإنسان بإشباع غرائزه وحاجاته العضوية كلما ثارت، أي كلما احتاجت إلى إشباع، وذلك بناء على ما عنده من مفاهيم عن الشيء الذي يُسبِع، وعن طريقة الإشباع. فكل أعمال الإنسان، منذ أن يبدأ بالحركة إلى أن يموت، لا تخرج عن عملية إشباع لإحدى غرائزه أو حاجاته العضوية، أي أن سلوكه كله في الحياة هو لعملية الإشباع هذه، ولا سلوك له خارج هذه العملية. ومن هنا نقول أن السلوك هو فعل يستجيب به الكائن الحي لدافع داخلي ـ غريزة أو حاجة عضوية ـ استجابة معينة واضحة للعيان، وتكون عضلية أو عقلية أو الاثنين معاً. وسواء ميّزنا السلوك الظاهر والصريح ـ وهو الذي يمكن ملاحظته وتسجيله ـ من السلوك المضمر أو المستتر ـ وهو الذي يصعب على الآخرين ملاحظته لأنه ربما اشتمل على مشاعر أو أفكار ولكنه قد يستنتج من السلوك الظاهر للأفراد، سواء ميزنا أم لم نميز فإن السلوك يبقى هو هو: تصرف أو فعل أو تصرفات قولية يقوم بها الإنسان إشباعاً لجوعة أو غريزة، وذلك نتيجة لمشاهدة واقع محسوس أمامه أو نتيجة لتفكيره بواقع غير مشاهد.
تنظيم السلوك
قلنا إن السلوك هو فعل يستجيب به الكائن الحي لغريزة أو لحاجة عضوية، وهذا ينطبق على كل كائن حي من إنسان وحيوان، لأن الإنسان والحيوان يشتركان في غرائزهما وحاجاتهما العضوية وضرورة إشباعها. ولذلك عرف السلوك الفطري بأنه ذلك الذي يشترك فيه جميع أفراد النوع، وعرف بالمقابل السلوك الموجّه وهو الذي يتبع فيه الإنسان توجيهاً داخلياً معيّناً على ضوء الأعراف والأفكار الموجودة ليده. وهذا هو الفرق بين السلوك الإنساني والسلوك الحيواني، فإن سلوك الحيوان فطري فقط، بينما سلوك الإنسان موجَّه بتوجيه داخلي هو مجموعة المفاهيم أو الأفكار التي صدّق بها، ولذلك تميز الإنسان عن الحيوان بأنه كائن حي مفكّر. ولما كانت المفاهيم هي التي تنظم السلوك الإنساني وتوجهه، كان يجب أن ينصبّ العمل للارتقاء على المفاهيم بجدّ ونشاط، وذلك لتحويلها من الخطأ إلى الصواب لكي يتحول السلوك الإنساني إلى الصواب. ولما كانت هذه المفاهيم أصلاً أفكاراً جرى التصديق بها بناء على قاعدة فكرية لدى الإنسان، وهي كلها ـ فرعية كانت أو أساسية ـ مبنية على هذه القاعدة الفكرية ونابعة منها، كان لا بد أن ينصب العمل أولاً على هذه القاعدة الفكرية، وهي العقيدة التي تحدد الفكر عن الحياة. ومن هنا، نستطيع أن نقول أننا وصلنا إلى ترتيب أولويات التغيير لدى الإنسان.
أولاً فأول
إذاً أول ما يجب أن يُبدأ به هو العقيدة، وذلك أن تعطى العقيدة للإنسان بطريقة بحث عقلية تستند إلى البديهيات التي لا يختلف عليها عاقلان حتى يقتنع عقله ويمتلئ قلبه طمأنينة. وبقدر ما تكون هذه الثوابت راسخة، تكون العقيدة كذلك. وحينذاك، يكون لدى الإنسان الفكر الأساس الذي يستطيع أن يبني أفكاره الأساسية عليه، وبالتالي يستمد منه النظم التي تعالج حياته وتنظم سلوكه وسلوك من يعيش معه على هذه الأرض.
فمن خلال هذه العقيدة وعلى أساسها تتكون المفاهيم لدى الإنسان. وقد تكون هذه المفاهيم صحيحة فتنتج سلوكاً صحيحاً، وقد تكون كذلك خاطئة فتنتج سلوكاً خاطئاً. والحقيقة أن المفاهيم التي يكوّنها الإنسان، وبالتالي سلوكه، تكون صحيحة بقدر ما تكون العقيدة التي كوّن هذا الإنسان مفاهيمه على أساسها صحيحة، وتكون خاطئة كذلك أيضاً، وإنما نعرف صحة السلوك أو المفاهيم من مدى صحة الفكر الكلّي الذي نبعت منه هذه المفاهيم، وهو العقيدة.
فالمفاهيم هي حكم على واقع معيّن تتم نتيجة لربط هذا الواقع بالمعلومات والحقائق الموجودة أصلاً لدى الإنسان. وحتى تكون هذه المفاهيم صحيحة، لا بد من الدقة في عقل الواقع وربطه بالحقائق المناسبة ـ وهي الأفكار الكلية النابعة من العقيدة.
وكذلك فإن نتيجة تلك العملية الفكرية، أي الحكم على الواقع بالقبول أو الرفض، أو بالصحة أو الخطأ، هذا الحكم هو الذي يعين للإنسان الميول نحو هذا الواقع من إقبال أو إعراض، من حب أو بعض. وبذلك يكون قد حصل لهذا الإنسان ذوق خاص بناءً على خصوصية العقيدة.
ساحة النقاش