ترتسم صورة الإنسان في الوجود بريشة ثمرات عقله التي تمزج ألوان أفكاره المتكونة من خبراته اليومية المادية والمعنوية فتشكل فيه ملايين الأفكار التي يقتبسها العقل من خلال تفكره في العالم المادي وتدبره في العالم الروحاني . إن هذا التعايش اليومي للعقل مع هذا الكم الهائل من المعلومات وخاصة في عصر التفجر المعرفي يثير قواعده العقلية بمثيرات تهيئ له هندسة الإبداع العقلي بنفوذ أفكار جديدة أكثر نضوجا وأجدر أن ينال الكيان الإنساني منها الخير والنفع طالما اعتنى العقل بربط خبراته بقواعد ثابتة راسخة مثبتة مما يسمح له بالتعايش الأمثل بين جنباتها فترشده إلى الاتجاهات التي عليه أن يتجه صوبها فيحدد نطاق عمل عقله ؛ إلا أننا عندما نخمد شرارة الفكر الناضج بركام الأفكار القديمة المتوارثة دون طلب برهان نخنق الإبداع ونقيد انطلاقه مما يشوب العمل الخطأ واللبس . {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} ( سورة المائدة:آية ١٠&#1636 .
فالعقل المبدع إنما هو ثورة الأفكار العلمية المثبتة بقواعد علمية دقيقة وواعية تندمج مع الخبرات العقلية , فحينما يبدأ العقل في تفوير ما حصد من علوم عليه أن يعتني بالزبدة المتماسكة بقواعد مثبتة إما علميا أو شرعيا ومن ثم يبدأ في سياقتها والتعايش مع شرارتها النفسية والعقلية ليصنع من هذه الشرارات نورا جديدا يهدي به العقول للخير والتقدم والإبتكار .
إنها صناعة للأفكار الإبداعية في لحظات الثورات العقلية الناضجة ؛ فليعتبر المرء عقله وعاءً ، وليعتني بما يضعه فيه اعتناء دقيقا فينقيه ويغذيه , ولا يكفى ذلك بل هي خطوة أولى تليها استثارة هذا المحتوى لكي ينضح بما فيه من قدرات تعالج الأفكار وتقويها . ولعل أهم خطوات هندسة الإبداع العقلي :
1- إعمال العقل بصفاء عقدي وعقلي خالٍ من التعصب والكبر وبطر الحق . {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} (سورةالأعراف:آية ١٤&#1638
2- التفكر في العالم واحتياجاته وفي النفس وثغراتها التي تعيق تقدمها ، قال تعالى : أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ{46} (سورة الحج: آيــة ٤&#1638 . قال تعالى : {لْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} (سورة الطارق: آية5).
3- التدبر في الإشارات الإلهية للإنسانية وعلومها المختلفة المودعة في القرآن الكريم . قال تعالى : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (سورة محمد: آيـة24 )

4- التعايش الصحيح مع الخبرات اليومية بحيث لا تندثر بين جنبات العقل ولا تحجبه عن العمل بموجب آثارها ، فلم تكن الخبرات التي يمر بها الإنسان في زمن من الأزمنة مجرد الآمٍ يشتكي منها ، أو أفراح يستمتع بنشوتها ؛ إنما هي إضاءات للروح والعقل ترشده للخير في المستقبل القريب والبعيد . {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (سورة النحل: آيـــة 78.) فما يدرك بحواس الإنسان يوجب على الإنسان الشكر لله لكون ذلك من العلوم التي يمكن تعلمها إلا بهداية الله لحواسه .

5- دمج الإرشادات العقلية المستخلصة من عملية التفكر والتدبر مع الخبرات الإنسانية للحصول على فكر مضيء يهدي لخير الإنسانية بأسرها ، فلو أن كل إنسان اعتنى بذلك وفق ما أودعه الله فيه من إمكانات وقدرات لرسمت لكل إنسان صورة عقلية تضيء حياته وتثبت قوة إنسانيته بين أبناء كيانه.
6- التعايش بين جنبات الفكر الناضج وتوثيقها بالأدلة النقلية والعقلية التي تثبت قوة وثبوث أركانها بعلم يقيني. {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} (سورة الأنعام: آية ١٤&#1640 . فالظن لا يغني من الحق شيئا ولا يقبل عقل ذو بصيرة أن يبني عليه أمرا ما.
وبعد ؛ فإن العقل الإنساني متى سار وفق هذه الخطوات فإنه سيتمكن من تغيير اتجاه تفكيره ، وسيكون قادرًا على توليد
أفكار جديدة وعديدة لحل مشكلة ما في كيانه الإنساني , وسيتمكن من تغير وجهة نظره تجاه أي مشكلة بالنظر إليها من زوايا مختلفة ، وبذلك تتحقق هندسة الإبداع في العقل الإنساني .