قيل الكثير في اهمية الموسيقى وفي ضرورة استخدامها في التربية والتعليم. ولا يكاد يخلو كتاب فلسفي تربوي من ذكر فوائد التدريب الموسيقي وضرورته لتنمية شخصية الفرد وتطويرها. فقد رأى افلاطون في جمهوريته ان «للفنون الموسيقية قدرة هائلة على تشكيل وتكوين الشخصية». كما اصر كونفوشيوس على استخدام الموسيقى في تعليم الاعتدال والحكمة. ودعى ابن رشد الى اللجوء الى الموسيقى «لتثقيف النفس وتمريسها على الفضائل الخلقية». وتطول الأمثلة على مر العصور واختلاف ال***نة لكن اكثرها يتوانى رغم ذلك عن الخوض في تفاصيل الدور التربوي للموسيقى على نطاق عملي فعلي. ولن احاول هنا ان اغطي كافة التقنيات الذهنية والنفسية التي يسهم تعلم الموسيقى في تطويرها فتلك فيما ارى مهمة مستحيلة، لكنني سأخوض في بعض النواحي التي يخبرها العازف في طور تعلمه للعزف على آلة موسيقية ما وفي الاثار التي تتركها هذه الخبرات فيه.
تنقسم عملية تعليم قطعة موسيقية بطبيعتها الى عدة مراحل
فهي تبدأ بالاكتشاف اذ يقرأ الطالب النوتة الموسيقية وهو يحاول عزفها ببطء وفهم طبيعتها، فيبدأ بتمييز الحانها الاساسية وطابعها العاطفي واماكن تحوله. ثم يتجلى له شكل قالبها وتقسيم مقاطعها اللحنية وطريقة ربط هذه المقاطع وعلاقاتها ببعضها البعض. تتميز هذه المرحلة الأولى بكونها شديدة الجاذبية ففيها متعة الاكتشاف وبداية العلاقة بين العازف والعمل. المرحلة الثانية يتم فيها تجاوز العقبات. فبعد فهم الخطوط العريضة للعمل يتبين للعازف ان هناك مقاطع مستعصية من الناحية التقنية او حتى من الناحية الفنية الصوتية وعليه في هذه المرحلة تجاوز تلك العقبات والتغلب على صعوبتها حتى لا تقف في طريق استمتاعه بالعمل وحتى تصبح براعة تنفيذها بحرية جزءاً من تلك المتعة. تعتبر هذه المرحلة اصعب المراحل وربما اطولها فهي تتضمن عملاً تقنياً مرهقاً ويمكن ان يكون قليل الجاذبية ذهنياً.
بعد ان يتم تجاوز العقبات التقنية والفنية، تبدأ مرحلة الاتقان والتشذيب حيث يضع العازف لمساته الاخيرة على العمل فيجمع المقاطع التي امضى وقتاً في تحسينها فرادى ويبدأ باعطاء العمل وحدة جمالية ككل متكامل. ولا تخلو هذه المرحلة من المزيد والمزيد من الاكتشاف اذ يتبين للعازف دائماً ان هناك لفتات جميلة او تفاصيل تستحق اظهارها كانت قد خفيت عنه في مراحل التعليم الاولى أو كما كان الاستاذ فيكتور بونين يقول: «هناك دائماً المزيد من الماس» فالعمل الموسيقي برأيه كمنجم الماس، هناك دائما المزيد، علينا فقط ان نعرف كيف نجده. تبلغ علاقة العازف بالعمل نضجها في هذه المرحلة الاخيرة ويصبح عزفها مصدر متعة عميقة له يحب غالباً مشاركتها مع المقربين له وأحياناً مع جمهور من الغرباء. على اية حال فهذه هي المرحلة التي يجني فيها العازف حقاً ثمار عمله.
ومن البديهي ان هذه المراحل بصورتها المطروحة آنفاً تخضع لتنويعات بحسب ذهنية الطالب وطبيعة منهجيته كما انها لا تأخذ شكلها الواضح المتكامل الا بعد عدة سنوات من بدء تعلم العزف قد تقصر او تطول بحسب استعداد الطالب ونضجه العاطفي وطبيعة علاقته بالموسيقى. لكن بذورها واشكالها الاولى تبدأ منذ اليوم الاول. كما ان العمليات الذهنية التي تنميها تأخذ مساراتها بسرعة. واهم هذه العمليات فيما ارى سبعة: التعامل مع التفاصيل، القدرة على التركيب، جرأة الارتجال، متعة الاستماع، ايجاد التوازن بين الحذر والانطلاق، التواصل اللاكلامي.
التعامل مع التفاصيل:
يترك اكتشاف متعة تقسيم الكل الى اجزاء يمكن التعامل معها بعناية وحميمية اثره دون شك في النفس. ورغم ان بعض الناس يتمتعون بهذا الميل بصورة فطرية فهي بالنسبة للكثيرين ملكة مكتسبة يمكن ان يحولها تعلم العزف الى متعة تلازم صاحبها وتثري تجاربه. ويتم اكتساف هذه الملكة من خلال ضرورة تقسيم العمل الموسيقي اثناء تعلمه الى اجزاء وتجزئ تلك الاجزاء بدورها الى لحن ومرافقة او الحان فرعية والالحان بدورها تقسم الى خلاياها الاولية لتفهم من نواتها وتجمّل ويعتني بها كقطع ثمينة بحد ذاتها، كل منها جزء لا يتجزأ من الكل، لكنه بالوقت ذاته صاحب جمال فريد ومستقل.
القدرة على التركيب والتوحيد:
بعد الاعتناء بالاجزاء والوصول بها الى مستوى تقني وجمالي مقنع، يظهر للعازف تحدٍّ جديد هو جعل العمل يأخذ سمة متكاملة متماسكة دون ان يظهر كأجزاء مستقلة متوالية. يلعب قالب العمل دوراً مهماً في هذه العملية، لكنها تتطلب كذلك قدرة على الابتعاد عن التفاصيل وفهم العمل كوحدة متكاملة منسجمة وعلى اداء الاجزاء من منظور علاقاتها ببعضها ضمن سياق العمل المتكامل وكما ترد في الصورة الكبيرة. قد تكون هذه واحدة من اصعب العمليات لبعض العازفين. خاصة اولئك الذين يميلون الى تجزيء وتفكيك الاشياء لتسهيل التعامل معها، لكنها تنمي لدى الطالب قدرات تركيبية مهمة تحلصه من محدودية التفاصيل وتمكنه من ادراك اهمية فهم تلازم الاشياء بصورتها الكبيرة مع فهم التفاصيل والاعتناء بها سواء في مجال النتاج البشري والفن ام في الامور الحياتية والمفاهيم العامة كالزمن والعلاقات والتجارب الانسانية الخ.
جرأة الارتجال والاداء:
قد يكون اكتساب هذه الجرأة اكثر العمليات وضوحاً في ذهن الطالب. خاصة ان الارتجال لا يبدأ الا في مراحل متقدمة من تعلم العزف ويشعر الطالب في طور تعلمه بالجهد النفسي الذي يتطلبه الوصول الى اطلاق العنان للأفكار والمشاعر لتتجلى بجرأة ووضوح، ينطبق هذا بصورة خاصة على الاشخاص الخجولين الذين يفضلون عدم كشف دواخلهم للآخرين او حتى عدم الخوض بها هم انفسهم. لكن مشاركة الارتجال وادائه للآخرين يتطلب في البداية جهداً وشيئاً من الارغام حتى من اكثر الاشخاص جرأة ووضوحاً.
ينمي الاداء غير المرتجل الى حد ما جرأة تشبه تلك آنفة الذكر، خاصة اذا ادرك العازف اهمية اضفاء فهمه الخاص للموسيقى التي يعزفها وادائها بصورة شخصية حميمية رغم وجود جمهور من المستمعين.
متعة الاستماع:
رأينا كيف ان المراحل الاخيرة من تعلم العمل الموسيقي تتطلب اعادة صياغة للعمل ضمن منظور شمولي يتعامل مع الاجزاء من منطلق علاقتها بوحدة الكل. تدعو هذه العملية الى قدر هائل من الحساسية السمعية والقدرة على الفصل بين العازف المؤدي والعازف المستمع. اي القدرة على ان يكون العازف مؤد ومتلق فعال ناقد في الوقت ذاته. ولا ينحصر تطوير هذه المقدرة في اطار الاستماع الموسيقي وحده بل يمكن ان يترافق مع زيادة في الحس الاستقبالي بشكل عام بحيث لا يصبح الاستماع افضل من مجالات متعددة فحسب بل تتحرض كذلك عمليات حسية توصل العازف الى ادراك اكثر تركيزاً لما يراه، يتذوقه ويلمسه .. الخ.
موازنة الحذر مع الانطلاق:
يخوض كل عازف في هذه التجربة بسبب عدم التوافق بين رغبة الخيال وبين القدرة التقنية. ومهما امضى العازف من جهد ووقت لاتقان المقاطع المرهقة تقنياً، فهو غالباً سيبقى بحاجة الى قدر من الحذر اثناء ادائها. واعني بالحذر هنا، السيطرة على السرعة واعطاء الاولوية في التركيز للأداء الصحيح على حساب الاستمتاع والانطلاق في اخذ المقطع الى حدوده الانفعالية القصوى اكروباتي يفقده صلته بمضمون العمل ويفقده دوره التعبيري، خاصة وان الاعمال الاكثر صعوبة تقنياً تنتمي للمدرسة الرومانتيكية في التأليف والتي تقع فيها المقاطع الاكثر ارهاقاً تقنياً في ذروة العمل الانفعالية، وليس هناك ما هو اكثر خيبة للمستمع من ان يتحول التطور التعبيري للقطعة في لحظة الذروة الى تنفيذ تقني بارع انما منفصل عن وحدة العمل بسبب تجريده من مضمونه التعبيري كذروة التراكم الانفعالي للعمل.
التواصل اللاكلامي مع الاخرين:
عندما تبلغ القطعة الموسيقية نضجها لدى العازف، تصبح مشاركتها مع الاخرين كما ذكرنا متعة بل حاجة له. وتتفاوت هذه الحاجة بحسب جرأة العازف ومقدار انفتاحه على الاخرين.
ليست العمليات آنفة الذكر بأي شكل من الاشكال الا في سبيل المثال لا الحصر. اذ تضاف اليها عشرات العمليات الاخرى اذا خضنا في مجال العزف الجماعي وعشرات اخرى اذا دخلنا في عمليات التنظيم الذهني لتنفيذ المهام.
اذكر في النهاية ان اكتساب هذه الخصائص والتقنيات لا يحدث بشكل واضح وسريع بل يتطلب سنوات طويلة. ورغم انه قد لا يحول الطفل الخجول الى جريء ولا ضعيف الانتباه الى حساس ولا المنفذ بطبيعته الى مبتكر، لكن كلاً من العمليات المذكورة وغيرها مما غفلت عن ذكره، يترك اثره في مكان ما من نفس العازف او ذهنه وتظهر آثاره بطريقة او بأخرى بعد مدة قد تطول وقد تقصر.
نشرت فى 17 أغسطس 2011
بواسطة hany2012
هـانى
موقعنـا موقع علمى إجتماعى و أيضاً ثقافـى . موقع متميز لرعاية كل أبنـاء مصر الأوفيـاء، لذا فأنت عالم/ مخترع/مبتكر على الطريق. لا تنس"بلدك مصر في حاجة إلى مزيد من المبدعين". »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
1,771,505
ساحة النقاش