النوم والاستيقاظ الباكر بين المستفيدين منه والمفرطين فيه من إعــداد: رضى الحمراني أخصائي في علم النفس الإكلنيكي المغرب |
قال الله جل علاه : « هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه و النهار مبصراً » (يونس : 67)، إن هذه الآية الكريمة تجسد حكمة رب العالمين في خلق الناس أجمعين، فالله سبحانه لم يفطر الإنسان على نمط واحد من العيش بأن يجعله إما دائم الحركة فيتعب و يشقى أو دائم السكون فيمل و يضجر، بل خلق فيه نوعين من السلوك و هما اليقظة و النوم، و سخر له الليل ليسكن فيه و هيئ له ظروفاً تساعده على هدوء حواسه من برودة الليل و ظلمته و ضعف نور القمر ورقته، كما سخر له النهار ليعمل فيه على قضاء مصالحه، لذلك جعل حرارة الشمس دافعاً لتدفق الدماء في عروقه، و قوة ضياءها حافزاً على حركة و حيوية أعضاء جسمه.
إن من أروع الخصائص التي تجسد التكامل المحكم بين نظام تعاقب الليل و النهار و النوم و اليقظة هي خاصية التدرج، قال الله عز و جل : « يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل » (الحديد : 6)، أي أنه سبحانه و تعالى يولج أي يدخل ذراة الظلام في ذراة النور و يزيد في كمياتها شيء فشيئا حتى يغلب سواد الليل بياض النهار و بنفس الطريقة يتجلى الصبح، و تتميز حركة هذا التعاقب بلطف شديد إلى درجة أن الإنسان لا يكاد يشعر به كما لا يكاد ينتبه للإيقاع تعاقب نومه و يقظته، حيث يتدرج في الخروج من حالة النشاط و العطاء و الدخول في حالة السكينة و الاسترخاء (1)، لكن كيف يقع هذا التعاقب؟.
عند بداية الليل ينتشر الظلام في السماء مما يؤدي إلى انخفاض إفرازات هرمون اليقظة الكورتزول (Cortisol) لترتفع بالمقابل إفرازات هرمون النوم الميلاتونين (Mélatonine) في الجسم، فيميل الإنسان شيئا فشيئا إلى السكون و الراحة، إلى أن يستلقي في فراشه حين يصل تركيز الميلاتونين إلى نسب عالية في الدم مما يؤدي إلى الخروج النهائي من عالم اليقظة و الدخول إلى عالم النوم(2)، وتسمى هذه المرحلة الانتقالية ( Etape hypnagogique) و تستغرق وقتاً لا بأس به يتراوح ما بين ثلاث إلى خمس دقائق، و قد يكون هذا المتوسط أقل أو أكثر حسب الظروف النفسية و الاجتماعية التي يعيشها الفرد.
بالمقابل عند انتهاء الليل و انتشار ذراة النهار في الأفق، يؤدي ذلك إلى انخفاض إفرازات هرمون الميلاتونين ليرتفع إنتاج هرمون الكورتزول، فينتقل الإنسان تدريجياً من حالة النوم إلى حالة اليقظة، و يسمى هذا الانتقال ( Etape hypnopompique) و يستغرق نفس المدة الزمنية السابقة الذكر(2)، ليتبين من خلال هذا التدرج اللطيف في حركة تعاقب الليل و النهار و النوم و اليقظة، عظمة اسم من أسماء الله الحسنى و هو «اللطيف»، لكن الناس في هذا الزمان حرموا أنفسهم من حسنات هذين النظامين: الطبيعي و الهرموني باكتسابهم لعادات غير متوازنة في النوم و اليقظة، استمدوها من تأثرهم بنمط الحياة المعاصرة فاغتروا بفتنة التسابق فيما بينهم بالليل و النهار وراء مشاغل الدنيا التي لا حدّ لها و لا حصر مما أدى إلى إهمالهم لسلوك التبكير في النوم و الاستيقاظ، فما هي يا ترى الأضرار العضوية و النفسية الناتجة عن ابتعاد الإنسان عن هذه الفطرة السليمة في النوم و اليقظة ؟
1. الضرر البالغ في إهمال النوم الباكر
قبل أن نستعرض الانعكاسات السلبية لعدم التبكير في النوم، ينبغي أن نطلع في البداية على المواصفات الصحية للنوم التي توفرت في سلوك النبي صلّى الله عليه و سلّم فعن أبي برزة أن رسول الله صلّى الله عليه و سلّم كان يكره النوم قبل العشاء و الحديث بعدها رواه البخاري (3)، و الحكمة في ذلك هي مخافة غلبة النوم عن قيام الليل و شهود صلاة الصبح و القيام بكل الأعمال الضرورية للإنسان من قضاء لمصالحه الدنيوية و الأخروية خلال النهار، لهذا كان المبعوث رحمة للعالمين عليه الصلاة و أزكى التسليم شديد الحرص على النوم في النصف الأول من الليل ليستيقظ في النصف الثاني منه، فيقوم و يستاك و يتوضأ و يصلي ما كتب الله له من ركعات، فتأخذ بذلك المكونات العضوية و النفسية في الإنسان حظها من السكون و الراحة و نصيبها من الاجتهاد و الطاعة، و هذا أقوم منهج لتزكية القلوب و تقوية الأبدان، وقد كان صلّى الله عليه و سلّم لا يأخذ من النوم فوق القدر الضروري للراحة و لا يمنع نفسه من القدر الذي يحتاج إليه، وكان يضطجع على شقه الأيمن ذاكراً الله حتى تغلبه عيناه غير ممتلئ البطن بأنواع الطعام و الشراب لأن من أكل كثيراً شرب كثيراً فنام كثيراً فخسر كثيراً (4).
إن الحرمان من النوم الباكر ليلا بمخالفة السلوك النبوي في هذا المجال يؤثر سلباً على صحة الدماغ و بالضبط على القشرة الدماغية الجبهية ( Cortex préfrontal ) المسئولة عن استيعاب التغيرات الطارئة على الأحداث، و الساهرة على جودة التركيز و الانتباه و الموفرة لقدر كبير من المرونة الفكرية و الميسرة لعملية التواصل مع الآخرين، إن كل هذه الوظائف تختل حين يؤخر الناس مواعيد نومهم، فيحرمون بذلك القشرة الدماغية الجبهية من استعادة قوتها التي استنزفت طيلة النهار، و النتيجة أن الإنسان يصبح عاجزاً عن الاستيعاب و التأقلم مع مستجدات المواقف التي يعيشها، فيتصرف بطريقة جامدة و متصلبة و يتشتت تركيزه لأبسط المؤثرات المشوشة كضوضاء الآلات أثناء مزاولته لعمله، كما تضعف قدرته على إيجاد حلول ملائمة للمشاكل التي يواجهها و تتلاشى ملكاته التواصلية مع الأفراد المحيطين به فتضطرب من جراء ذلك علاقته بهم(5).
المنطقة الملونة بالبنفسجي تمثل القشرة الدماغية الجبهية
إن التفريط في النوم المبكِّر لا يضر بالجهاز العصبي فحسب، بل يربك أيضاً عمل الجهاز المناعي الذي يشتغل بنشاط في بداية النوم، لذلك فالحرمان من التبكير في النوم يؤدي إلى نقصان المناعة في الجسم مما يتسبب في تراكم مكونات جرثومية في الدم (6)، لهذا قال ابن القيم الجوزية (أربع تهدم البدن : الهم و الحزن و الجوع و السهر).
بالإضافة لكل ما سبق ذكره فقد أكد العلماء بالمركز الطبي بجامعة بيتسي بيرج بولاية بانسلفانيا بالولايات المتحدة الامريكية، أن طلب العلم ليلا بعد الساعة الحادية عشر يتزامن مع ارتفع تركيز هرمون النوم الذي يصل إلى أعلى مستوياته في الدم مما يؤدي إلى انخفاض مستوى الانتباه بنسبة 30%، و قد تأكد على العكس من ذلك أن الثلث الأول من الليل يساعد في حالة النوم على تثبيت و تذكر المعلومات المدروسة خلال النهار، لهذا قال الصحابي الجليل عبد الله بن العباس رضي الله عنهما : (إنما كُره السمر حينما نزلت الآية : « مستكبرين به سمراً تُهجِرون » (المؤمنون : 67))، أي أن الله دمَّ أقواماً يسمرون و يسهرون بالليل في غير طاعة، و لا تكون الرخصة للسهر جائزة إلا في ثلاث حالات : طلب علم أو مداعبة أهل أو مؤانسة ضيف على أن لا تُتخذ هذه الطاعات عادة دائمة بل ينبغي أن تمارس بين الفينة و الأخرى (7).
2. الفوائد الضائعة عند التفريط في اليقظة الباكرة
إن نبي الهدى محمد صلّى الله عليه و سلّم لم يعتني بالبكور في نومه فحسب، بل كان حريصاً على التبكير في يقظته أيضا و كان يدعو بالبركة لمن يباشر عمله في أول النهار فعن صخر الغامدي قال : قال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم : « اللهم بارك لأمتي في بكورها » رواه أبو داوود و الترمذي (8)، والمقصود بالاستيقاظ الباكر هو هجران الفراش في الثلث الأخير من الليل للتقرب إلى الله بصلاة التهجد والاستغفار بين يديه سبحانه من الذنوب في السدس الأخير منه )الأسحار( ثم أداء صلاة الصبح، وكلها أنشطة تعبدية تمهد الإنسان للعطاء الصالح في الحياة الدنيوية بالمساهمة في عمارة الأرض و السعي لكسب الرزق و تنمية البلاد و المشي لإقامة الجماعات و الجمع و قضاء حوائج الناس و عيادة مرضاهم و تشييع جنائزهم...، ومن مظاهر البركة في التبكير باليقظة التي تطرق لها الحديث النبوي أيضاً نذكر :
أولًا: ارتفاع نسبة هرمون الكورتزول في الدم في الصباح الباكر، مما يؤدي إلى شعور الإنسان برغبة قوية في النشاط و الحيوية، وإذا ما استمر الفرد في النوم خلال هذه الفترة يصاب عند استيقاظه المتأخر في أول النهار باضطرابات المزاج (Troubles d’humeur) مصاحبة بآلام مزعجة و عياء شامل في كل أنحاء جسمه لوجود تعارض بين حالة جسمه المسترخي و الخامل و تزامن هذا السكون مع ارتفاع إفراز هرمونات المحفزة على النشاط و الحركية؛
ثانياً: لقد ثبت علمياً أن جو الصباح هو أغنى الأجواء المناخية بغاز الأوزون الذي يبيد الجراثيم المؤدية في الجسم، فيكون الهواء أنظف ما يكون في هذا الوقت و يدخل مع الاستنشاق إلى الرئتين فيصفي الدم وينعش النفس و يقي الجسد من كثير من الأمراض الفتاكة؛
ثالثاً: إن نسبة الأشعة الفوق بنفسجية تكون في أعلى مستوياتها في الجو عند الفجر، و تحرض هذه الأشعة الجلد على انتاج فيتامين دال (Vitamine D ) الذي يقي الأطفال من مرض الكساح (لين العظام) و يرفع من قدرة الراشدين على مقاومة الشعور بالتعب و الآلام الجسمية أثناء مزاولتهم لأعمالهم، كما أن لاصفرار الشمس عند الشروق تأثيراً باعثاً على اليقظة(9)؛
رابعاً: إن الأرزاق توزع في أول النهار على النائم و المستيقظ لكن المبكرين في الاستيقاظ لا يحصلون على الرزق فقط بل يكرمهم ربهم بالبركة فيه، فينفقون دون أن ينالهم الفقر و يعملون دون أن ينالهم العجز و الكسل وهي نعم يحرم منها النائمون في أول النهار، فأين هي حلاوة البركة في أرزاقهم و أعمالهم ؟
لقد عاش السلف الصالح من أبائنا و أجدادنا في ضل هذه السنن الفطرية المباركة بحرصهم على القيام الباكر فصحت أبدانهم و قوية نفوسهم على المبادرة لاغتنام الطاعات، و تجاوز بعضهم السبعين عاماً و هو لا يزال يتمتع بصحة جيدة، و لم نسمع بنقصان الأعمار و لا بانتشار الأمراض المزمنة إلا في أجيالنا الحالية التي ابتعدت عن منهج الآية الكريمة التي تقول: « و جعلنا الليل لباساً و جعلنا النهار معاشاً » (النبأ : 1011-)، فتجاهلنا لتعاليم هذه الآية بانقلاب ليلنا نهاراً و نهارنا ليلا جعلنا نخسر عافية الدنيا و سلامة الآخرة.
خلاصة
بعد علمنا بأضرار السهر بالليل و التكاسل عن اليقظة المبكرة في أول النهار، يكون من باب الواجب علينا أن نتناصح فيما بيننا لإصلاح ما أفسدناه من أحوال نومنا و يقظتنا،
أولا بحرص الوالدين على الاقتداء بالنبي صلّى الله عليه و سلّم في نومهم و يقظتهم، ثم الاجتهاد في تنشئة أبنائهم على احترام هذه السنة المباركة بمساعدة فلذات أكبادهم على تنظيم أوقاتهم و برمجة الأنشطة التي يمارسونها، من حصص دراسية و لحظات تعبدية و أوقات ترفيهية كاللعب و مشاهدة القنوات الفضائية والإبحار في مواقع الانترنيت...،
ثانياً تركيز الدعاة إلى الله في مواعظهم الموجهة إلى عموم المسلمين على موضوع « إصلاح أحوال النوم و اليقظة » باعتباره من الأولويات الدعوية لأنه من مقومات الحياة اليومية التي لا صلاح لدِين و دنيا الناس إلى بها،
ثالثاً ينبغي لنا جميعاً كأفراد منتمين للأمة الإسلامية، إن أردنا أن يبارك الله في أعمارنا و أعمالنا أن نسعى بجدية للشروع في مباشرة مسؤولياتنا الاقتصادية و الاجتماعية في وقت مبكر من النهار، و الحرص على تفادي السهر بالليل عسى الله تعالى بذلك أن يعيننا على النهوض بأمتنا و تحقيق نمائها و تقدمها.
تم بفضل الله تعالى
الـهـوامـش:
1- د. مصباح سيد كامل، التوجيه القرآني و الإيقاع البيولوجي، مجلة الإعجاز العلمي، العدد 15، ص : 31، دار العلم، جدة - المملكة العربية السعودية، 1424 هـ / 2003 م.
2 - http://fr.wikipedia.org
3 - أبي عبد الله البخاري، صحيح البخاري، الجزء الأول، ص : 129،كتاب مواقيت الصلاة، باب ما يكره من النوم قبل العشاء، مكتبة الوحدة العربية، الدار البيضاء - المغرب، 1421 هـ / 2000 م.
4- ابن القيم الجوزية ، الطب النبوي، ص : 148، تحقيق محمد الإسكندراني، ط1، دار الكتاب العربي، بيروت- لبنان، 1424 هـ / 2004 م.
5- Horne, J., « Variations sur la fonction du sommeil», Revue la Recherche, P : 8 – 9, N°3 Hors Série Avril 2000, Société d’éditions scientifiques, Paris - France.
6- Ibid, P : 9.
7- د. طلعت محمد عفيفي، آفات السهر و منافع البكور بين الطب و الدين، ص : 49 - 110، دار السلام، ط 1، القاهرة - مصر، 1422 هـ / 2001 م.
8- أبو داوود السجستاني، سنن أبي داوود، الجزء الأول، ص : 37، كتاب مواقيت الصلاة، باب الابتكار في السفر.
9 - د. عبد الرزاق الكيلاني، الحقائق الطبية في الإسلام، ص : 208، ط 1، دار القلم، دمشق – سوريا، 1422 هـ / 2001 م.