مقدمة
هناك اختلاف بين طبيعة المجتمعات الحضرية وبين طبيعة المجتمعات الريفية أو الصحراوية من حيث طبيعة وشكل العلاقات الاجتماعية بين أفرادها؛ حيث تؤثر طبيعة النشاط الاقتصادي (الرعي أو الزراعة) على شكل هذه العلاقات. فالمجتمعات الريفية والصحراوية تعلي من شأن العائلة أو القبيلة ومصلحتها "العليا" على حساب الفرد وما يرتبط يه من حقوقه ومصلحته الشخصية. ولأن القبيلة أو العائلة يجب أن تحافظ على قوام متماسك؛ فغالبا ما يكون مقبولا أن يتم قمع أي محاولة لخروج أي فرد منها عن أعراف وتقاليد الجماعة أو ماترى قيادات الجماعة أنه مخالف لمصلحتها العليا. كذلك فطبيعة مجتمع العائلة غالبا ما تعلي من شأن الرجل على حساب المرأة فالرجل هو الذي يعمل والمرأة دورها ينحصر فقط في رعاية الزوج والأطفال.
وعلى العكس من ذلك فالمجتمعات الحضرية عادة ما تقل فيها سطوة القبيلة أو العائلة على الاختيارات الفردية بحكم أنه غالبا ما يكون النشاط الاقتصادي في تلك المجتمعات هو الصناعة أو التجارة التي تسمح باستقلالية أكثر للفرد إقتصاديا وبالتالي في اختياراته الفردية. ذلك ينعكس على وضعية المرأة حيث أن النشاط الصناعي تحديدا -والذي يحتاج إلى عمالة كثيفة وخارج إطار العائلة- قد فتح مجال العمل للمرأة وبشكل مستقل مما سمح لها بالحصول على الكثير من حقوقها. ولهذا كانت محطات التطور في مسيرة الإنسانية تنشأ في المجتمعات الحضرية لأنها أكثر قابلية لقبول التغيير عن المجتمعات ذات الطبيعة المحافظة كالريفية والصحراوية.
محمد العمدة
كانت حلقة برنامج أخر كلام للإعلامي يسري فودة بتاريخ الخميس ٢٢ مارس ٢٠١٢ مخصصة لمناقشة اقتراح نائب مجلس الشعب محمد العمدة بإلغاء أو تعديل قانون الخلع. وكان النائب نفسه ضيفاً للحلقة مع كل من نهاد أبو القمصان الأمين العام للمجلس القومي للمرأة ومحمد الشحات الجندي الامين العام للمجلس الأعلى للشئون الاسلامية سابقا وعضو مجمع البحوث الاسلامية حاليا.
وشخصيا كنت أتوقع من البرلمان الحالي بأغلبيته الإسلامية أن تكون التشريعات المتعلقة بالمرأة والحريات العامة والشخصية بشكل سلبي على رأس الأجندة التشريعية. لكن الملفت للنظر أن النائب محمد العمدة لا ينتمي لتيار الإسلام السياسي حزبيا على الأقل (وهو عضو سابق في حزب الوفد) وإن كان له تاريخ برلماني في قضايا متعلقة بالمرأة أيضا. بالنظر لأسلوب النائب في الحوار والحجج التي يسوقها لمنطقه (إن جاز أن نسميه منطق من الأساس) وكذلك لتاريخه البرلماني السابق يمكنني أن أقول أن محمد العمدة يعبر عن قطاع واسع من المصريين في رأيي هو قطاع الأغلبية في مصر.
ولقد توقفت أمام عدة نقاط في حديث النائب محمد العمدة:
١- بدأ النائب كلامه برفضه لوجود مجلس قومي للمرأة أساسا واقترح بأن يكون مجلس قومي للأسرة.
٢- رفضه لسفر الزوجة للعمل أو الدراسة بحجة أن من سيهتم بالزوج والأولاد دون أن يجد في ذلك تناقضا مع قيام الزوج الشئ نفسه.
٣- اعتراضه على قانون الخلع لعدم وجود سلطة تقديرية للقاضي في الحكم بأن الزوجة كارهة لزوجها وكأن المشاعر شئ ملموس يمكن للقاضي أن يجد له دليلا أو أنه كيف يكون للمرأة أصلا مشاعر حب أوكراهية لزوجها وكأنها بشر مثل الرجل ( مالم يكن النائب يرغب أن تأتي الزوجة بشهود من غرفة نوم الزوجية لإثبات أنها تخاف ألا تقيم حدود الله!!!).
٤- كذلك لا غضاضة لدى النائب في أن يكون الرجل هو الوحيد صاحب الحق في إنهاء العلاقة الزوجية بمجرد كلمة ودون قيود أو مراجعة على العكس من المرأة (فهي في رأيه ليس لديها رجاحة العقل كالرجل) ويقترح أن يكون حكم الخلع لها بمزيد من القيود مع حق الزوج في نقض الحكم. ومتجاهلا الإحصائية التي ذكرتها الأستاذة نهاد أبو القمصان أن الخلع يمثل ٣% فقط من حالات الطلاق في مصر.
٥- رفضه لاتفاقية السيداو (اﺗﻔﺎﻗﻴﺔ اﻟﻘﻀﺎء ﻋﻠﻰ ﺟﻤﻴﻊ أﺷﻜﺎل اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ضد اﻟﻤﺮأة) وكل مبرراته في رفضها أنها اتفاقية تهدف إلى مساواة المرأة بالرجل !! والذي يعتبره "أجندة أمريكاني" على حد وصفه .
٦- وكان النائب المحترم يلجأ للتفسيرات والتأويلات الدينية كخط دفاع أخير في مواجهة أي إشارة للتناقضات في كلامه. وليس كنقطة انطلاق لشرح وجهة نظره كعادة السياسيين من تيار الإسلام السياسي.
وخلال الحلقة التي استمرت لأكثر من ساعتين ونصف ترسخ لدي اقتناع أن النائب يهاجم قانون الخلع وحقوق المرأة عموما لكونها خروج عن السائد والمألوف في المجتمع مما يدل أنه يدافع عن قيم مجتمعية من وجهة نظره ويستخدم الدين من وجهة النظر التي ترسخ لتلك القيم. وهي القيم التي ترى أن المرأة ليست كياناً مستقلاً له حقوق مثل الرجل فهي أدنى منه. وهذه القيم بالأساس مستمدة من قيم القبيلة التي تنتشر في المجتمعات الريفية. لكننا في مصر نرى أن هذه القيم منتشرة أيضا بقوة في المجتمعات التي يفترض أنها حضرية.
ساهمت سياسيات الدولة المصرية في فترة الخمسينات والستينات على نقل الكثير من المنتمين إلى الطبقات الدنيا إلى الطبقة المتوسطة لكن هذه النقلة كانت اقتصاديا فقط دون تغيير ملموس في المنظومة القيمية لهذه الطبقة وكان هذا عاملاً مهماً (بالإضافة لعوامل أخرى) في الانتشار الكبير للأراء الدينية المحافظة والقادمة من الجزيرة العربية ذات الطبيعة القبلية أيضا. والنائب محمد العمدة في رأيي هو نموذج مثالي لهذا القطاع المحافظ من المصريين والذي أعتقد أنه قطاع الأغلبية منهم.
وبحسبة بسيطة فلا يمكن أن يكون الإخوان والسلفيون يمثلون ٧٧% من المصريين وهي النسبة التي تكررت في كل من استفتاء ١٩ مارس ٢٠١١ التي أيدها الإخوان والسلفيون وكذلك هي نسبة تمثيلهم في البرلمان. لكن هذه النسبة هي نسبة المصريين المقتنعين بمجموعة الأقكار والقيم المحافظة اجتماعيا ودينيا التي تمثلها قوى الإسلام السياسي في مصر. ولهذا فأنا مقتنع أن التقسيم الطبقي الذي يعتمد على الجانب الاقتصادي غير كافي في تحليل اختيارات المصريين السياسية فمثلا كيف يكون تمثيل التيارات اليسارية بهذا الضعف في البرلمان وهي التي تعتمد على خطاب يلعب على معاناة الفقراء والمطحونين في شعب يعيش ٤٠% منه تحت خط الفقر!!! ولهذا فأنا على ثقة أن النائب محمد العمدة قد حصل على النسبة الأكبر من أصوات النساء في دائرته .فمن تجاربي الشخصية فإن أعنف معارضة أواجهها أثناء الحوار مدافعا عن حقوق المرأة تأتي -وياللعجب- من النساء.
وهنا تكمن -من وجهة نظري- العقبة الأكبر أمام القوى السياسية المدنية -ليبرالية أو يسارية- في مصر. فمثلا فكرة دولة المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الجنس أواللون أوالدين -وهي من ركائز الدولة المدنية- تتعارض بشكل مباشر مع قيم القبيلة التي يدافع عنها قطاعات كبيرة من المصريين حتى لو كانوا من المتضررين من هذه القيم. والتحدي أمام هذه القوى المدنية هو كيف يمكن صياغة خطاب يجتذب قطاعات كبيرة من المصريين دون الانجراف في الشعبوية والحنجورية أوالتنازل عن مبادئها الأساسية وفي نفس الوقت يمكن أن يجتذب قطاعات واسعة من المصريين لإحداث تغيير سياسي حقيقي في مصر.
وكما ذكرت في العنوان أن محمد العمدة ليس مجرد نائب في مجلس الشعب بل هو ظاهرة يمكن من خلالها فهم الكثير عن المجتمع المصري ... أو هكذا أعتقد.