التطور القانوني لمفهوم جرائم الحرب
إن جرائم الحرب بصفة عامة هي كل انتهاك لقوانين وأعراف الحرب، خاصة عندما ترتكب في إطار خطة عامة وسياسية مرسومة واسعة النطاق. وقد مر تقنين تلك الجرائم بمراحل عدة، ففي البداية كان ينظر إلي الحرب في حد ذاتها علي أنها عمل مشروع ووسيلة من وسائل فض المنازعات، وكان تقنينها يهدف لوضع قواعد تنظمها فقط دون أن تجرمها تماما، ثم تطور الفكر القانوني ليجرم أنواعا معينة من الحرب. ومع تطور وسائل وأساليب الحرب والقتال في العصر الحديث، جرمت التشريعات الحديثة اللجوء للحرب تماما، كان آخرها نظام روما الأساسي، فقد كانت المادة 8 الخاصة بجرائم الحرب التي تختص بها المحكمة أطول مادة فيه.
وتأسيسا علي ذلك، فسأتعرض في هذا المقام إلي جرائم الحرب من حيث تطور تقنينها في الوثائق الدولية والمحاكمة عنها في إطار المحاكم الجنائية الدولية الخاصة، وكذلك من حيث تقنينها في إطار نظام روما الأساسي.
التطور التاريخي لتقنين جرائم الحرب
كانت الحرب في نظر الكثيرين عملا مشروعا، بحيث لا يقيد الدولة في الالتجاء إليها سوي مصالحها الخاصة، وقد بذلت مجهودات كثيرة لتقييد سلطة الدولة في الالتجاء للحرب كوسيلة مشروعة، بل وإحاطتها بقيود تمنع اللجوء للحرب إلا في حالات الضرورة القصوي. وحقيقية الأمر أن القانون الدولي الإنساني قد لعب دورا في سبيل تجريم الحرب وتدوين العديد من القواعد التي تحكمها.
إن جرائم الحرب، بالمعني الموجود حاليا في العديد من المواثيق الدولية، لم تكن وليد تشريع فقهي واحد، بل تضافرت عدة مجهودات لتقنين هذه الجريمة علي نحو ما يقرب من قرن من الزمان. وكان أهم تلك المجهودات:
1- تصريح باريس عام 1856
جاء هذا التصريح عقب حرب القرم، حيث أعلنت خلاله إنجلترا وفرنسا بعض المبادئ لتنظيم الجوانب القانونية للحرب البحرية، كإلغاء القرصنة البحرية، ومد نطاق الحماية لبضائع الأعداء فوق سفن المحايدين، وبضائع المحايدين فوق سفن الأعداء.
2- تقنين القواعد التي تحكم الجيوش في الميدان وفقا لقوانين وعادات الحرب
قانون ليبر 1863
وهو عبارة عن مجموعة من القواعد الواجب تطبيقها أثناء الحرب الأهلية الأمريكية. وبالرغم من أنها لا تعدو أن تكون مجرد تشريع داخلي، فإنها تناولت العديد من الموضوعات التي تتعلق بإدارة الحرب، مما جعل منها نموذجا تحتذي به العديد من الدول. ويعد قانون ليبر أول محاولة جادة لتقنين قواعد وعادات الحرب، وبصفة خاصة الحرب البرية.
3- اتفاقية جنيف لعام 1864
دعا مجلس الاتحاد السويسري في أغسطس 1864 لعقد مؤتمر دبلوماسي دولي لبحث سبل تحسين مصير العسكريين الجرحي والمرضي في الميدان، وتمخض هذا المؤتمر عن إبرام اتفاقية دولية تعتبر الأولي من نوعها في شأن تحسين أحوال الجرحي في الجيوش الميدانية. وكان من أهم المبادئ الواردة لها: مبدأ حرمة وصيانة الجنود الجرحي والمرضي، وحماية عربات الإسعاف والمستشفيات العسكرية ضد الهجمات الحربية، والنص علي قواعد مقننة لحماية ضحايا الحروب.
وقد صدقت علي تلك الاتفاقية العديد من الدول، في مقدمتها أقطاب القوي الكبري آنذاك. وبرغم أن اتفاقية جنيف لعام 1864 كانت نقطة البداية لحركة إنسانية واسعة لضحايا الحروب، فإنها ظلت تشكو من نقائصها، فعدلت عدة مرات.
4- إعلان سان بترسبورج عام 1868
اهتم الإعلان بحظر استخدام الأسلحة التي تسبب آلاما لا مبرر لها، وإقرار أن الهدف المشروع من الحرب وغايته هما إضعاف القوة العسكرية للعدو، وقد تم الانتهاء من صياغة الإعلان في 11 ديسمبر عام 1868.
5- مؤتمر لاهاي الأول للسلام عام 1899
عقد مؤتمر لاهاي الأول للسلام بناء علي دعوة من قيصر روسيا، لعقد مؤتمر دولي لوضع بعض القواعد التي تحكم الحرب. وأسفر المؤتمر عن توقيع عدد من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بقانون الحرب، منها: الاتفاقية الثانية الخاصة بقواعد وعادات الحرب، والاتفاقية الثالثة الخاصة بالحرب البرية، وتم بموجبها مد نطاق تطبيق اتفاقية جنيف لعام 1864 لضحايا الحرب البحرية، فضلا عن ثلاثة تصريحات لتحريم إلقاء المقذوفات من البالونات، وتحريم استخدام المقذوفات التي لا ينتج عنها سوي غازات ضارة، وكذلك تحريم استخدام المقذوفات التي تتفتت داخل الجسم(7).
6- مؤتمر لاهاي الثاني عام 1907
أسفر مؤتمر لاهاي الثاني عن تبني عدد من الاتفاقيات الدولية، فضلا عن التركيز بصفة خاصة علي تقنين قانون الحرب، بحيث اعتبرت فيما بعد أساسا للنظرية التقليدية في قانون الحرب. أيضا، فقد حلت اتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1907 الخاصة بقوانين وأعراف الحرب البرية محل اتفاقية لاهاي لعام 1899.
وقد شكلت قائمة جرائم الحرب الواردة في تلك الاتفاقية أساس محاكمات ليبزج Leipzig، حيث تضمنت المادتين 223و 230 من اتفاقية فرساي - التي قضت بإنشاء المحكمة- ضرورة المحاكمة عن الجرائم المخالفة لقوانين وأعراف الحرب
7- عهد عصبة الأمم 1920 - 1946
لم ينص ميثاق عصبة الأمم علي تحريم الحرب بصورة قاطعة وصريحة، بل نص علي حالات معينة تكون الحرب فيها غير مشروعة، كحالة الالتجاء للحرب لفض نزاع ما بدلا من عرض هذا النزاع علي التحكيم أو القضاء أو مجلس العصبة(11)، أو إعلان الحرب علي الدولة التي قبلت قرار التحكيم أو القضاء أو التزمت بقرار المجلس الصادر بالإجماع. كذلك، فقد نص علي أن الدولة التي تشن حربا غير مشروعة، سيوقع عليها الجزاءات الاقتصادية والعسكرية المنصوص عليها في المادة 16.
وعلي الرغم من فشل عصبة الأمم بصفة عامة، فإنه لا يمكن إغفال بعض الاتفاقيات المهمة التي أبرمت خلال قيامها، مثل:
1- بروتوكول جنيف الخاص بتحريم الالتجاء إلي حرب الغازات والحرب البكتريولوجية عام 1925.
2- تنقيح نصوص اتفاقية جنيف لعام 1906، وهي التي حلت محل اتفاقية جنيف لعام 1864، والخاصة بتحسين أحوال الجرحي والمرضي من أفراد الجيوش في الميدان، وأسفر ذلك عن وضع اتفاقيتين، تختص الأولي بتحسين أحوال الجرحي والمرضي من أفراد الجيوش في الميدان، وتتناول الثانية كيفية معاملة أسري الحرب.
8- ميثاق باريس عام 1928
بغية سد الثغرة الواردة في عهد عصبة الأمم من عدم تجريمها للحرب بصفة قاطعة، قامت الولايات المتحدة وفرنسا بإبرام ميثاق بباريس عام 1928، ليكون بمثابة ميثاق عام للسلام تشترك فيه جميع الدول، ويحرم استخدام الحرب كوسيلة لفض المنازعات. وعرف هذا الميثاق باسم 'ميثاق بريان كيلوج' نسبة لوزيري الدولتين صاحبتي الفكرة فيه، وقد انضم للميثاق ما يزيد علي ستين دولة(15).
9- اتفاقيات جنيف لعام 1949
رغبة في كفالة أكبر قدر من الحماية لضحايا النزاعات المسلحة، تم إبرام أربع اتفاقيات لحماية ضحايا الحرب عام 1949(16). وقد ورد بتلك الاتفاقيات تعداد لبعض جرائم الحرب، التي تلتزم الدول الأطراف بالمعاقبة عليها، وهي:
1- جرائم منصوص عليها في الاتفاقيات الأربع:
- القتل العمد، التعذيب، التجارب البيولوجية، إحداث آلام كبري مقصودة، الاعتداءات الخطيرة ضد السلامة الجسدية والصحية، المعاملة غير الإنسانية.
2- جرائم منصوص عليها في الاتفاقيات الأولي والثانية والثالثة:
- تخريب الأموال والاستيلاء عليها بصورة لا تبررها الضرورات العسكرية، والتي تنفذ علي نطاق واسع غير مشروع وتعسفي.
3- جرائم وردت في الاتفاقيتين الثالثة والرابعة:
- إكراه شخص علي الخدمة في القوات العسكرية لدولة العدو، حرمان شخص محمي من حقه في محاكمة قانونية وحيادية، حسبما تفرضه الاتفاقيات الدولية، إبعاد الأشخاص ونقلهم من أماكن وجودهم بصورة غير مشروعة، الاعتقال غير المشروع، أخذ الرهائن.
4- جريمة وردت في الاتفاقيتين الأولي والثانية:
- سوء استخدام علم الصليب الأحمر أو شارته، والأعلام المماثلة.
وقد طورت اتفاقيات جنيف مفهوم جرائم الحرب الوارد في ميثاق نورمبرج، الذي عرف جرائم الحرب كالتالي: إن مخالفة قوانين وأعراف الحرب تشمل - ليس علي سبيل الحصر- القتل، المعاملة السيئة، ترحيل السكان المدنيين للعمل كعبيد أو لأي غرض آخر، ويشمل في الأرض المحتلة القتل، سوء معاملة الأسري، قتل الرهائن، نهب الممتلكات العامة أو الخاصة، التدمير العشوائي للمدن والقري، التدمير الذي لا تبرره الضروره الحربية.
10- بروتوكولا جنيف الملحقان لعام 1977
نتيجة العديد من توصيات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكثر من مناسبة، لضرورة وضع قواعد جديدة لتأمين حماية أفضل للمدنيين والأسري والمقاتلين في النزاعات المسلحة قاطبة، قامت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بوضع مشروعي بروتوكولين تكميليين لاتفاقيات جنيف، تم عرضهما علي المؤتمر الدبلوماسي الخاص بتطوير القانون الدولي الإنساني، والمعقود بجنيف، بناء علي دعوة حكومة الاتحاد الفيدرالي السويسري. وعقد المؤتمر أربع دورات متعاقبة خلال أعوام 1974، و1975، و1976، و1977، حتي تم توقيع البروتوكولين في 10 يونيو عام 7791.
ويتعلق البروتوكول الأول بحماية ضحايا المنازعات المسلحة الدولية. أما الثاني، فيتصل بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية. وفي أثناء التصديق علي البروتوكول الثاني، كان الخيار للدول بين التصديق، وبالتالي الاعتراف بالمسئولية عن جرائم الحرب في النزاعات المسلحة غير الدولية، وبين عدم التصديق فتعترف بالمسئولية عن جرائم الحرب في النزاعات المسلحة الدولية فقط.
وبصفة عامة، فإن الفترة الممتدة، منذ بدايات تقنين جريمة الحرب وحتي بروتوكولي جنيف الملحقين، لم تشهد تقنينا شاملا لجرائم الحرب، أوحماية لكافة الضحايا، فقد اقتصرت علي تقنين أشد جرائم الحرب قسوة وبشاعة، وعلي حماية الضحايا من المدنيين أو غير المقاتلين فقط.
11- المحاكم الجنائية الدولية الخاصة
عند وضع تعريف جرائم الحرب بالنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في مايو 1993، لم يكن هناك من سوابق سوي 'قانون جنيف' Geneva Law الذي يشمل الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف لعام 1948 ويتضمن حماية ضحايا النزاعات المسلحة، و'قانون لاهاي' الذي اعتمد عليه ميثاق نورمبرج، ويتضمن طرق ووسائل الحرب، وبالتالي فقد شملت المادة الثانية الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف ، في حين شملت المادة الثالثة انتهاكات قوانين وأعراف الحرب كما هي معرفة في قانون لاهاي.
وبهذه المناسبة، فقد أكد السكرتير العام للأمم المتحدة آنذاك أن النظام الأساسي لن يبتكر جديدا، وإنما سيتقيد بالجرائم المعترف بها بصفة عامة في القانون الدولي العرفي. وعليه، فلم يكن هناك احتمال بإمكانية إقرار المسئولية عن جرائم الحرب في النزاعات المسلحة غير الدولية. وبعد ذلك بعام، تم تبني النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية برواندا، وقد إعترف مجلس الأمن خلاله بإقرار المسئولية الدولية عن جرائم الحرب المرتكبة في المنازعات المسلحة غير الدولية، الأمر الذي حدا بغرفة الإستئناف بالمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة إلي إعلان قراءة جديدة لطائفتي جرائم الحرب الواردة بالمادتين الثانية والثالثة من نظامها الأساسي في قضية Tadic، مؤكدة حقيقة أن المسئولية الدولية عن انتهاكات قوانين وأعراف الحرب تشمل الأفعال المرتكبة خلال النزاعات المسلحة غير الدولية أيضا.
نشرت فى 26 إبريل 2011
بواسطة foxrever
عبدالوهاب اسماعيل
عدد زيارات الموقع
812,566
ساحة النقاش