غرفة من منزل ، في أحد المباني الواقعة في الحي الذي أقطن فيه ، هو جزء من مدينتي التي هي و عدة مدن تتكون منها دولتي ، الواقعة في قلب هذا العالم ، الذي أصبح في العصر الحاضر قرية صغيرة ، لأشخاص التواصل بينهم يكون بسرعة الضوء ...........
في هذه الغرفة وحدي جلست ، كما يجلس الملايين الآن ، أنا و نافذة دفتري على الحاسب ، أحببت أن أفرغ عليها كل ما أفكر به على شكل فقرات مرقمة و مجدولة ، هذا الأمر تعودت عليه منذ زمن ليس بقريب ..... كلما ضاقت علي الدنيا ، و حاصرتني الهموم أو المشاكل و لم أعد أركز في أمر ما ، و عندما يبدأ الاكتئاب يتسلل إلى صميم أعماقي ، أخرجه بهذه الطريقة ، فأجلب ورقة و أضع عليها الهموم بناءاً على أولويتها ، و المشاريع المعلقة ، و المهام التي أعتزم القيام بها ، ثم أترك فراغاً تحت كل فقرة ، و أضع الجدول الزمني و الحل لكل منها على حدة ، و التي تحتاج إلى زمن بعيد جداً أضعها في الآخر ......
و هكذا تكون همومي ، و مشاكلي قد نزحت من صدري إلى تلك الورقة ، و أكون قد أفرغت أكثر من نصف الشحنات ، التي كانت تملأ عقلي و فكري ، و بوضع الحلول لكل منها ، أكون قد تغلبت عليها متفرقة ، بعد أن كانت تزدحم في عقلي ، و تعمل ضجة ، كضجة فصل دراسي لم يقدم أستاذه بعد !!!
أما اليوم ، و في هذا الوقت من القرن الحادي و العشرين ، و تسارع المعلومات ، و الأدوات ، و شعورك بأنك لا بد أن تسبق الزمن لتلحق بآخر التطورات ، و المعلومات جعلني أشعر باكتئاب ، و ابتهاج بآن واحد سعادة و تعاسة ، تفاؤل و إحباط ، رغبة في التعلم مع رغبة بفترة نقاهة لعقلي ، و لم أعد أميز شعوري الحقيقي ؟ هل الزمن الحالي غيّر مفهوم الاكتئاب ؟
و اليوم قررت أنني مكتئب ، رغم أني لا أعرف بالضبط شعوري ، و لهذا لجأت إلى دفتري على الحاسب ، و هذه أول مرة أستبدل فيها ورقتي المشهورة ، و قلمي من الحبر ، بضغطات على لوحة المفاتيح .....
مضت عدة دقائق و لم أضغط أي ضغطة ، و بعدها ......
هل فقدت تلك المهارة بالتفريغ ؟ هل كانت الورقة أفضل ؟ .....
ثم تمالكت نفسي ، و بدأت ، و رتبت ، أولاً : الهموم الآنية و المباشرة ، و التي يجب وضع الحلول لها فوراً .
ثم ثانياً : الهموم المؤجلة إلى حين ، هذه نملك بعض الوقت لتنفيذها ، فنبعدها مؤقتاً .....
ووضعت ثالثاً : المشاريع و الطموحات القريبة جداً ، حيث يجب وضع جدول لتنفيذها بدءاً من اليوم ... ...
و اقترحت رابعاً : المشاريع البعيدة و الطموحات الكبيرة ، وهذه تتحقق بتجزئتها و ادخار طاقات متراكمة للوصول إليها بعد فترة .
وبعد قراءتها ... ... سألخص لكم ما جاء فيها ، بعد أن حلّلت الفقرات ، تبين لي أنه في هذا العصر الحديث ، لم يعد يظهر الاكتئاب رغم وجوده ذلك أن كل أمر يمر بنا فيه الحلو و المر مجتمعين معاً ....
كل منا يحب التطور و امتلاك أحدث الأجهزة و يسعد بذلك ، و لكن فرض على نفسه أعباء مادية كبيرة لم تكن تدخل في خطة مصروفه ... من تقليد لغيرنا فيما يمتلكون من تكييف ، و جوال ، و أنترنت ، و تحديث هذه الأجهزة الذي لا ينتهي .
و عندما نجلس لنرتاح ، و نتابع التلفاز ، نجد قنوات علمية ، و قنوات مفيدة جداً ، فنسعد بذلك ، ثم نجد قنوات تحمل كل الأمور الفارغة التي لا معنى لها ، و التي تهدم الأخلاق ، ومن الممكن أن نتابعها دون شعور ، و كذلك الأمر نفسه بالنسبة إلى المواقع الإلكترونية .
تنظيم الوقت بين حب الاطلاع ، و التعلم ، و متابعة آخر الاختراعات ، حيث الانعزال خلف الشاشة ، و الاعتكاف عليها ، و التمتع بما وصلت إليه البشرية من علوم ، و بين تفرغنا لأمورنا الحياتية من الاستمتاع بجو العائلة، و السهرات ، و تجاذب الأحاديث ، و كذلك النزهات التي تعيد لنفوسنا رونقها .
نتعرف على أصدقاء جدد على الشبكة ، فنهنئ أنفسنا بهذا التقدم ، ثم نفاجأ من بعضهم بعدم الاهتمام ، ربما بقصد أو بدون قصد ، أو أن نصادف شخصاً تافهاً يجعلنا ننقم على هذه الصداقات .
عند دخولنا الشبكة نتعرف على معلومات في شتى المجالات ، و ذلك يتم بسرعة كبيرة في هذا الوقت ، كان يلزمنا الكثير من الزمن لتصل إلينا تباعاً ، مما يرهق العقل في متابعتها و حفظها .
نحب شخصاً ما ، و نشعر بأنه قدوة حسنة و نتابعه ، و نتعلم منه ثم نفاجئ بهجوم كبير من الآخرين على هذا الشخص ، و تتكرر هذه العملية و تسقط القدوة ، مما لا يجعلنا نتخذ مساراً واضحاً ، فنسلك كل المسارات .
نتابع العلم و المعرفة ، و نهتم بأن نتعرف على الماضي و الحاضر ، و إذا فكرنا ما هو المستقبل ، نفاجئ بكم كبير من المعلومات التي تتجه لنهاية العالم ، من كوارث ، و تصحر ، و احتباس حراري ، و ثقب في الأوزون ، و كواكب متجهة إلى الأرض ربما تصطدم بها ، و عاصفة شمسية مقبلة ..... فتتولد عندنا رغبة في عدم التعلم كي لا نخاف على أنفسنا و أولادنا أكثر من ذلك .
كلما فكرنا في مشروع لعمل ما ، وجدنا أن هناك من سبقنا بأشواط في هذا المجال ، نقرة زر واحدة ، و نتعرف على أرباب هذا المجال ، و ما وصلوا إليه ، فيصيبنا الإحباط و الضعف ، و نشعر بأن هذا المشروع لن ينجح .
نخطط للمستقبل ، فلا يمكننا تصور شكل المستقبل ، بعد التسارع الكبير في التكنولوجيا و المتغيرات و المفاهيم الحياتية .
نحاول أن نلجأ للعبادة ، كملاذ آمن لرضى النفس و الضمير ، و كزراعة للآخرة المرتقبة ، فتكون كل هذه الأمور التي ذكرت آنفاً ، مدعاة لعدم وجود الوقت الكافي لذلك ، و ربما أتهمنا بالتحجر و التخلف .
و النتيجة أن ما وصله الإنسان في عصره الحاضر ، رغم جماله و شكله الجذاب ، حيث يعيش في قرية مشتركة صغيرة ، أحدث في أنفسنا أعباء و هموم جديدة ، البعض يشعر بها ، و البعض لا يدرك السبب في عدم السعادة ، فأصبح الآن الكثير و الكثير من مقاييس للسعادة .