فتحت " منى " عينيها على خيوط الشمس الأولى التي تسللت إلى الغرفة ، بيد متثاقلة تناولت الساعة ، تبينت الوقت ، هي التاسعة صباحاً ، إذا هي متأخرة ، قررت عدم الذهاب إلى العمل اليوم ، لا ينقصها بعض التأنيب منذ الصباح . نزلت من السرير ، تجولت في البيت ، بعد أن غسلت وجهها ، و فكرت : ماذا أفعل إذاً ؟ ... ... علي َّ أن أستفيد من هذا اليوم بعمل أو أي أمر ينهي الرتابة التي أعيشها و التكرار الممقت لمهام كل يوم ، يجب أن أبحث على أمر يعيد لي حيويتي ، التي فقدتها من سنوات ، رغم أن أيام الدراسة كانت متعبة و شاقة إلا أني كنت أجد ما يدخل الفرح إلى قلبي ، و يشعرني بأني جزء من نسيج هذا المجتمع . أما الآن حتى أخي الذي بقي لي من عائلتي ، فضل العمل في الخارج ، و تركني وحدي في هذا البيت ، لكني لا ألومه عليه أن يكّون نفسه و يدخر بعض النقود ، و لكن أنا ؟ و الوحدة ؟ و الفراغ ؟ عملي يؤمن لي أكثر من حاجتي ، و أكدس المال ، و لا أعرف من أجل ماذا ؟ و لمن ؟ لو كان عندي زوج ربما كنت أشاركه في المصروف ، أو كان عندي أولاد من الممكن أن أسعدهم ، و أشتري لهم ما يحبون و يشتهون !!!!!! أحلام ؟!! و أحلام ؟!! ... رسمتها ، كانت وردية اللون مزهرة ، غصونها تمتد لتصل إلى السماء ، و لكن القدر أبى إلا أن يؤخر علي تحقيق تلك الأحلام ، و ألوانها تخفت بكل يوم يمر ، و لا يمكنني توقع أي مستقبل ينتظرني !!! باعتقادي أن المستقبل وصل إلى هنا و توقف ... ... لا أحلام ، لا طموح ، لا مشاريع ، لا شيء أبداً ... أتحرك كآلة تعمل وفق برمجة معينة ، لا جديد و لا تطوير في برنامجها !!! ... لذلك قررت اليوم أن أعمل أي شيء يدخل السرور إلى قلبي ، أي شيء ... !!! لا أعرف بالضبط ، و لكن عليَّ كسر هذه الرتابة ... حسناً : سأذهب إلى صديقة كانت معي في الدراسة ، كانت هي أكثرنا مرحاً ، و كانت البهجة و الفرح سمتها العامة ، ربما تخرجني من جو الكآبة الذي أعاني منه ، أو ربما تدلني على أمل جديد ... جهزت " منى " نفسها للخروج ، أغلقت الباب ، وقفت تنتظر أول سيارة أجرة ، و تمنت أن يكون السائق مهذباً ، و لا يستغل كونها وحدها ... ... توقفت السيارة يبدو أن السائق محترم ، هذا ما كان يبدو عليه ، صعدت إلى المقعد الخلفي ، و إذ بطفل صغير في اللفة نائم ؟؟؟ !!! ... تعجبت ! و سألت السائق عنه ؟ توقف نهائياً و التفت بسرعة ، و سألها ماذا تقولين : طفل ؟؟؟ !!! ... أجابت : نعم ، هو ذا . أخذت عينيه تدور بسرعة ، و كأنه ينبش في عقله عن مصدر هذا الطفل ، و أجابها : منذ قليل كانت معي سيدة ، عندما صعدت ، نعم ، كان معها طفل ، و لكن عندما نزلت لم أتأكد أنها حملته ، أيعقل أن ينسى الإنسان أبنه ؟ أكيد أنه لها . و لكن الآن ماذا علينا أن نفعل ؟ يجب أن نرجعه لها ، و لكني رجل ، و لا أستطيع أن أدق الأبواب من الصباح ، هل تساعديني في هذه المهمة ... ؟ فكرت " منى " : هو واجب إنساني ، و في كل الأحوال ، عندي من الوقت الكثير ، و أنا أبحث عن أي شيء أعمله ... ... أجابت السائق : لا مانع عندي ، سوف أساعدك ، أذهب بنا حيث نزلت تلك السيدة . و عندما وصلا ، نزلت " منى " و معها الطفل ، أخذت تدق كل أبواب هذا المبنى ، و لكن لا أحد يتعرف على هذا الطفل ! أو حتى مواصفات الأم ! عادت إلى السيارة ، و أعلمت السائق بما جرى ، جلسا في السيارة و بدأا يفكرا بحل ما لهذا الأمر ، و إذ ببواب المبنى يأتي ، تذكر السائق أنه لما نزلت السيدة كان هذا البواب هنا ، نزل مسرعاً ، سأله عنها ؟ نفى البواب أن تكون إحدى سكان المبنى ، و كان كل اعتقاده أنها زائرة ، دخلت لزيارة أحد ما و لم تجده ، وخصوصاً أنها خرجت بعد خمسة دقائق ، رجع السائق إلى السيارة ، و كانت الصورة قد تبلورت عنده ! ؟ إذا هي فعلاً أرادت التخلص من هذا الطفل ؟؟؟ !!! ... فكر السائق و كذلك " منى " بهذا الطفل و مصيره ، قال السائق : خذيه معك ربما نتوصل إلى والدته ، أفضل من أن يربى في دار الأيتام ، معك سيكون بأمان أكثر ... ردت " منى " على الفور : مستحيل ! فأنا لست متزوجة و لا يمكنني أن آخذه ، إلى من سأنسبه ، و ربما يكون من أسباب المس في شرفي ، لا ، لا يمكنني ... إذا كنت خائف عليه خذه أنت ... ... ... رد السائق : معك حق . و لكن أنا أيضاً لا يمكنني أن آخذه ، فأنا أعيش وحدي ، ليس عندي زوجة أو أخت ترعاه ، و أغلب وقتي أكون في العمل ، مع أني أحببت هذا الطفل ، و كنت أتمناه كل الوقت و لم أرزق به ... سألته متعجبة : لم أعد أفهم عليك ؟ أنت متزوج ؟ أم لا ؟ أجاب : زوجتي طلبت الخلع ، بعدما تبين أن سبب عدم الإنجاب مني ، و أنا عذرتها و طلقتها ، و هكذا بقيت وحدي أعاني الأمرين ، و لا أفكر أن أظلم امرأة أخرى . و ها أنا ذا أعمل و أكدس المال ، و لا أعرف لماذا ؟ أو لمن سأتركه ! ... ... هذه الجملة استوقفت " منى " حيث كانت تفكر في نفس الأمر منذ الصباح ، مما جعلها تضع نفسها بمقارنة بينها و بين هذا السائق الطيب ، هو يبحث عن زوجة تملأ حياته ، و هي تتمنى أن تجد من تلجأ إليه و تكمل مشوارها معه ، و هو متلهف للولد ، و هي أكثر منه في شوق لحضن طفل تضمه إلى صدرها ... ... صمتت برهة ، و هي تفكر ، و تفكر و ترتب الأحداث ، استغرب السائق من صمتها و سألها : ما الأمر ؟ أين وصلت بأفكارك ؟ !!! أجابت : أفكر في وضعنا أنا و أنت و الطفل بيننا سأل السائق : ماذا يعني ؟ لم أفهم ... هل وجدت الحل أين سنأخذ الطفل ؟ أجابت : لا أعرف كيف أوصل لك الصورة واضحة ، و كيف سأتكلم ، لكن علينا أن ننهي هذا الأمر الآن ... سألها : و كيف ؟ . أجابت : من المعروف في بلدنا أن المرأة لا تخطب لنفسها ، و أعرف أن الأمر يكون بالعكس ، و لكن يبدو علي أني سأخالف التقاليد ، هل تقبل بالزواج مني ؟؟؟ ... ... ... ذهل السائق ، و تعجب من سؤالها ، حيث أنه لم يكن متوقع ... ... و لكن بعدما شرحت له الأمر ، بأنها قد تجاوزت الثامنة و الثلاثين ، و أن زمن الإنجاب بالنسبة لها شارف على الانتهاء ، حتى و لو خطبها أحد الآن ، سيكون ربما كبير السن ، أو أرمل و له أولاد ، و هذا المتعارف عليه بالنسبة للمرأة التي فاتها قطار الزواج باكراً ، و أنه هو أفضل من غيره ، لتقارب السن بينهما . أعجب السائق بهذا التحليل للموضوع ، و شعر بأنها فعلاً طيبة القلب و متفهمة ، و جديرة بالثقة ، صمت برهة ثم قال : و الله معك حق ، لقد أحسنت ترتيب الموضوع ، نحن الثلاثة في هذه السيارة ، نحتاج بعضنا البعض ، و ربما حكمة القدر جمعتنا هنا ، و لن أجد امرأة متفهمة مثلك ، لذلك : أنا أوافق على طلبك و يسعدني أن أقترن بك !!! ... ... تابع : و لكن خذي الطفل الآن ، إلى أن نجري أمور الزفاف بشكلها الطبيعي !!! ... ... شغل المحرك ، و أوصل زوجة الصدفة إلى بيتها ، صعدت ، فتحت الباب ، و لم تذهب إلى صديقتها الأكثر مرحاً ، لتعطي لها بعض الأمل ، فهي الآن تحمل أملاً صغيراً ، و بعد أيام سيكتمل الأمل عندها بحياة مفعمة بالحيوية و النشاط ، و ربما التعب و الصبر و المعاناة و المشقة ، و لكن من المؤكد أنها ستكون أفضل من أيام الوحدة .
أقسام الموقع
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
36,759