وجهة نظرٍ ليس أكثر!!
التقويم الواقعي والإرباك المقيت!
فراس حج محمد
هل شكلت التعليمات الأخيرة الصادرة عن وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية فتحا جديدا فيما يتصل بالتقويم الواقعي، لتحسين ظروف التعليم وإخراج جيل من المتعلمين أكثر وعيا وانتماء؟
إن ما يحتاجه الطلبة جميعا، ليس تقويما واقعيا وحسب، وإنما يحتاجون تعليما حقيقيا، فهل السواد الأعظم من المعلمين يعلمون كما ينبغي أن يعلموا؟ لا أريد أن أجيب، عليكم فقط الاستفسار من أبنائكم وبناتكم الذين ينفقون الساعات الطوال في مقارعة الملل في يوم دراسي يتمطى مثل ظل ثقيل!
حاولت فيما يأتي وضع مجموعة من الملحوظات حول تلك الضجة المثارة في الفترة الأخيرة والتي تتصل بالتقويم الواقعي، والتي وصلت إلى حد تهديد بعض هيئات التدريس بالإضراب، وبعض الطلاب بالامتناع عن الدوام بسبب تلك التعليمات الجديدة.
إن أول تلك البدهية المرتبطة بعملية التقويم بأنواعه كافة، ومنها الواقعي، أنها لا ترتبط بنظام المجموعات ارتباطا حتميا، بل يمكن أن يكون التقويم الوقعي (الحقيقي) فرديا، وزوجيا كذلك، كما أنه لا يرتبط باستراتيجية تعليم واحدة، فيمكن أن ينفذ مع أي إستراتيجية تدريس حتى مع طريقة المحاضرة، فأسلوب التدريس شيء وأدوات التقويم شيء آخر، فهما يكملان العملية التربوية التعليمية، فليس شرطا أن أستخدم أسلوبا تعليميا معينا ليكون هناك تقويم واقعي- حقيقي.
وترتبط عمليات التقويم ومراحله وأشكاله كلها بالهدف العام من التدريس؛ فعملية التقويم تقيس ما تعلمه الطالب من مهارات ووجدانيات ومعارف، وعدم الاقتصار على جانب معين في التقويم بغض النظر عن الأداة المطبقة في التقويم، يجعل التقويم تقويما واقعيا وحقيقيا.
لعله من الصادم معرفة أن بعض المعلمين يعرفون أشكالا متعددة من التقويم، وينفذونها بين حين وحين؛ بل إن بعض المعلمين يمارس التقويم الواقعي منذ زمن بعيد، وذلك ببعض الأبحاث والتقارير المدروسة التي يقوم بها المتعلم ويختبر فيها المادة النظرية في المقرر، وينقل المعرفة الذهنية إلى واقعه، فيعمل بناء عليها، ليكون هناك بعض المخرجات المتصلة بالمحتوى التعليمي، ويستطيع التوصل إلى فهم ذاتي وواقعي لهذه المعارف من خلال ارتباطها بواقعه. فمعلم اللغة العربية يمارس التقويم الواقعي عبر الأعمال الكتابية للطلاب وخاصة في متابعة أعمال الطلاب الكتابية (الإملاء والتعبير والخط) وبعض جوانب من مهارات الأداء الأخرى اللفظية والجسمية التي تنقل بعض القضايا المعرفية من حال إلى حال، فيكون لها ارتباط بواقع الطلاب، من مثل: إلقاء القصائد والخطابة وتمثيل المعنى والدراما، والرسم والغناء والتلحين، وغير ذلك.
كما أن معلم العلوم يستخدمه في المختبر، وفي غير ذلك من أنشطة حياتية يعدها الطلاب، ومعلم التربية الإسلامية يقوّم طلابه واقعيا في تلاوتهم للقرآن الكريم وتجويده وإتقان أحكامه، أو في تمثيل بعض الشعائر الدينية من مثل الحج والصلاة، ومعلم الرياضة كذلك الأمر، وكل المعلمين بلا استثناء، وإن لم يستخدموه كسلا إلا أنه بإمكانهم تنفيذه بسهولة دون ضجة كبرى كالتي حدثت!
ورب سائل يسأل ولماذا كل هذه الضجة إذن؟
لعل الضجة والبلبلة الحادثة من الموضوع تتحملها الوزارة أولا وقبل أي جهة أخرى التي لم تكن تعليماتها منطلقة من هذا الفهم العميق للتقويم الواقعي، وكان يظن من قام بهذه الخطوة أنه أتى بالفتح العظيم! وقد سبق للوزارة أن دربت المعلمين على ذلك في دورات مهمة ونوعية من مثل الدورات الخاصة بالمساقات العلمية والعلوم الاجتماعية، ودورة التعلم بالحياة، ودورة التحفيز الذهني، ودورات متعددة حول التعليم المتمركز حول الطفل، لقد ألغت الوزارة كل ذلك وأخرجت الكتاب كأنه جديد جدا لم يسمع به المعلمون، ولم يوضع بسياقه الطبيعي، وكأنها لم تكن تؤمن في أي يوم من أيامها المهدرة بجدوى ذلك الجهد الذي أنفقته خلال ساعات متطاولة من التدريب!
ويتحمل ثانيا المسؤولية عن البلبلة الحادثة أقسام الإشراف في المديريات، تلك الأقسام التي اكتفت بإرسال الكتب الرسمية إلى الميدان دون أن تقوم بخطوة من التعريف والبيان، معتمدين على مديري المدارس الذين بدورهم نقلوا حرفيا، وأحيانا بتفسيرات مغلوطة، للمعلمين فحوى الكتب الرسمية، فصارت الكرة في ملعب المعلم، فأراد أن يتخلص المعلم من تبعاتها (المشؤومة) عليه بتكليف الطلاب بأبحاث، يجهزها ثلاثة أو أربعة طلاب طباعة عن شبكة الإنترنت وتسلم في اليوم الثاني وفي النهاية، نقول: الحمد لله نفذنا التعليمات وها هو ما طلبته الوزارة، وكفى الله المؤمنين القتال!
لعل الجديد المرهب في هذا السياق كله، كما سمعت من الطلاب، وكما سمعت من كثير من أولياء الأمور هو العلامات، وتخصيص (20) علامة للتقويم الواقعي، وهذا مطبّ تربوي وتعليمي وقعت فيه الوزارة، إذ لا يجوز منطقيا أن يتعامل مع عملية التقويم بهذه الصورة، كان واجبا على مصدر التعليمات أن يتابع مسؤولوه عملية التقويم بشكل عام، ويركزون على تنوع عملية التقويم، كما جاء في التعليمات الصادرة قبل ذلك من الوزارة فيما يخص بنود المتابعة الشاملة، وبنود تقويم الأداء للمعلم، إذ أخذت بعين الاعتبار تعدد أنماط التقويم ووسائله.
إن ارتباط التقويم الواقعي بأداة المشروع عبر استراتيجية التعلم بالمشروع، هو خطأ آخر فادح وقعت فيه التعليمات، فللتقويم الواقعي عدة أدوات وليس أداة واحدة، وعليهم أن يراجعوا الأدب التربوي قبل عملية البتر المخل المربك الذي ينم عن استعجال وعدم تأنٍ، بعيدا عن الاتهام بالجهل والتهور!
علينا جميعا أن نتدبر، ونتأمل، لنرى بكلتا العينين، ومن كان يعاني من العشى عليه ألا يتجول أعمى في ليل يودي به إلا حفرة، لا يقوم منها إلا وقد تعفّرت بدلته المتأنق فيها كلما هلّ موعد اجتماع أو مؤتمر أو ملتقى!!