أيكم هو يوسف هذا العصر؟
قراءة في القصة القصيرة جدا "قصة يوسف"/ للكاتب كامل الدلفي
أولا النص:
{قصة يوسف
الإخوة لا ينظرون إلى أمام
الذئاب تحتاج إلى دفاع
الأب بمنأى عن البصر
يوسف يعلم ماذا يفعل
العزيز يقبض ثمن التاج
زليخا أكثر بشرية
من
كل
مرة..}
القصة منشورة في مختبر السرديات مجموعة على الفيس بوك
****
ثانيا القراءة:
ما زالت قصة سيدنا يوسف عليه السلام حيّة وحديثة، كأنها تحدث الآن! ربما تحدث التفاصيل كل ساعة مع أحد ما، قصة لا تنضب معانيها ولا مدلولاتها، وكثيرة الحضور في الأدب، ولعلني لا أبالغ لو قلت: إن قصة يوسف هي أكثر القصص الديني حضورا في النص الحديث من القصص الأخرى، شعرا ونثرا، ولعلنا ما زلنا نستمتع بقصيدة محمود درويش "أنا يوسف يا أبي"، ونترنم بموسيقى مارسيل خليفة الذي شدا بها معلنا موقفا إنسانيا غاية في الجمال والصلابة!
الكلّ يعرف قصة سيدنا يوسف، فهي إشارة ثقافية تشكل عنوانا لقضية واحدة، يتناسل منها قضايا، منها القضايا الاجتماعية، والسياسية، والنفسية، وربما الثقافية أيضا، ولكن ما الجديد الذي يقدمه الدلفي في قصته القصيرة جدا هذه؟
للوهلة الأولى قد تظن أنك تقرأ نصا مفككا، غير متصل المعاني، تتابع الجمل وتحتل كل جملة سطرا واحدا، حتى غدا شكل النص أشبه بنص شعري، ولولا أن العقد الضمني بين الكاتب والقارئ قد سبق في تحديد النص كونه (ق ق ج)، لقلنا إن النص هو قصيدة هايكو نثرية، يسود أجواءها التفكك والاضطراب، ولكن لا تتعجلوا ثمة أمر وراء ذلك فما هو؟
فلنعد إلى القصة مرة أخرى، لنرى أن النص قد وظف من القصة الدينية بعض شخوصها، الأخوة والذئاب، ويوسف والأب والعزيز وزليخا، ولكل منهم مهمة واضحة أو وصف مأخوذ من أجواء القصة الدينية، فالأخوة لا ينظرون إلى أمام، والذئاب تحتاج إلى دفاع، والأب بمنأى عن البصر، والعزيز يقبض ثمن التاج وزليخا أكثر بشرية، ويوسف يعلم ماذا يفعل.
والمدهش في هذا النص من وجهة نظري قضيتان، الأولى طريقة البناء المراوغة والتي تناضل دون أشكال فنية متأرجحة بين القصة القصيرة جدا والقصيدة النثرية من ناحية الشكل البصري، على ما ذكرتُ سابقا، بحيث أوحت بالتفكك النصي بين الجمل، ولعلّ هذا التفكك الظاهري في جسد النص، معادل موضوعي للتفكك في جسد الحياة وأشيائها، وما يحدث فيها من خداعات بصرية، وكأن النص في شكله هذا يقول للقارئ: قف وتأمل، ولا تؤخذ بالشكل، فربما اختبأ وراء الشكل أمر أكثر خطورة، ومن هنا قد يحمل الشكل الفني أحيانا جانبا مهما من جوانب المعنى في النص الأدبي، سواء أكان قصة قصيرة جدا أو غير ذلك.
والآن، كم كانت مسافة بين هذا النص والنص الأصلي؟ إن النص يقدم رؤيا الكاتب في مسألة إنسانية قد تكون أقرب للموضوع السياسي، فالأخوة الذين أضاعوا يوسف وفرّطوا فيه لا يتمتعون ببعد نظر، والذئاب المفترى عليها في الدم الكذب على قميص يوسف تحتاج إلى أن تبرئ نفسها، وربما كانت هنا الرؤيا الجديدة للكاتب، فكون الذئب ذئبا لا يمكن أن يكون مجرما بالضرورة، فثمة من يتهمه بالباطل، فحتى لو كان ذئبا، فهو بريء، والملاحظ أن الكاتب استخدم "أمام" و "دفاع" نكرتين، والتنكير يدل على التعميم، فما داموا لا ينظرون إلى "أمام" فإنه أي أمام، وقد انغلق أمامهم الأفق، وكذلك دفاع الذئاب، فهي تحتاج أي دفاع لتثبت أنها برئية من دم يوسف.
ثم يكون موقف الأب الذي ينأى عن البصر، لم ير شيئا، ولم يقم بين يديه شواهد على قصة الدم المكذوب فيه، وكأن العمى هنا عمى معنويّ، ولا يستطيع أن يقدم أي مساعدة، لأنه لا يملك الحقيقة، فهي غائبة عنه، والعزيز السلطان صاحب الجاه مطعون في سلطته المزعومة، إذ إنه يقبض ثمن السلطة، وزليخا أكثر بشرية، وتعلقا بشهوتها من كل مرّة، وهنا أيضا يظهر البناء على النص الأصلي، فقي القصة الأصلية تظهر زليخا مرتين، وتراود فتاها عن نفسه، وهذه هي المرة الثالثة، التي غدت فيها مستعدة لفعل المزيد لتكسب ما تريد، وفي منتصف الطريق القصصي، يقف يوسف شاهدا ومشاهدا، فهو وحده يعلم ماذا يفعل، أما الأخوة فهم لا يعرفون ماذا يفعلون بحكم أنهم لا ينظرون إلى أمام، والذئاب المحتاجة لدفاع لا تستطيعه، فهي عاجزة، والأب بمنأى عن البصر، وزليخا أكثر انغماسا في شهوتها، والعزيز صاحب سلطة موهومة، فكل من هم مع يوسف لهم نظرة الجهل والتيه، وهو وحده يعلم ماذا يفعل؟ فمن هو يوسف؟
يطلق على سيدنا يوسف بأنه يوسف الصِّدِّيق، وظلت صفاته وسماته في القصة هي هي لم تتغير، فهل كان يقصد الدلفي بذلك أن الحقيقة الذي يراها الكاتب أو أي إنسان ويتمتع بمعرفتها ويمارسها عن قناعة هو يوسف بغض النظر عن الزمان والمكان؟ ولذلك فإنك ترى الأديب أو الرائي والمفكر في جانب والآخرون في جانب مختلف، كلهم عميان وفي تيه لأنهم لا يعرفون الحقيقة، ويوسف وحده هو سيدها، ولذلك كان العنوان "قصة يوسف"، فمن منكم سيكون يوسف، لتظل الحقيقة ساطعة لا يعبث بها عميان هذا العصر، ومن هنا نقول إن القصة لها ظلال سياسية، ولكن ليست سياسة وحسب!!