لوحة النبي لجبران خليل جبران
مادونا عسكر/لبنان
فراس حج محمد/فلسطين
هذه هي اللوحة الثالثة التي نحاول قراءة مكوناتها التشكيلية والفكرية للكاتب المتميز جبران خليل جبران، لوحة تعطي الفكرة والشكل لما يتصوره جبران لوجه النبي، ولقد أحسن جبران وأبدع في اختياره الوجه ليدل على النبيّ، فما هي دلالة الوجه الفكرية والفلسفية أولا؟
يعد الوجه أبرز ما في هذا الكائن البشريّ، وقد اتخذته اللغة دلالة على الإنسان بأبرز ما فيه، ليدل على قيمة الوضوح والحضور، فقد غدا الوجه في الثقافات عامة مرتبطا بالفكر والحياة معا، ويحمل الوجه فيما يحمل مشاعر الإنسان وتقلباته النفسية، وقد كشفت لغة الملامح الجسدية (Body language) عن كثير من تلك المعاني التي ترتسم على وجه الإنسان من حزن وفرح وشقاء أو ارتياح، واهتم الفكر الديني كذلك بالوجه، ففي القرآن الكريم ورد قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة"، إن الوجه هو الإنسان وفكره ومشاعره.
كيف عبر جبران عن النبي وجها وفكرا في هذه اللوحة؟
جاءت اللوحة برسم فحميّ على ورقة بيضاء، تتلألأ فيها ملامح النّبيّ، الحاضر في العالم، ولكنّه يدرك أنّه ليس منه، فتغرق العينان في التّأمّل بالنّور الأزليّ بهدوء لا متناهٍ، وسكينة تُغرق الوجد في صمت مهيب. عينان تنضحان صبراً ورزانةً، تمنحان الطّمأنينة للنّاظر إليهما، فيختلج قلبه ويلج عمق أعماقه ليبحث فيها عن الكلمة، عينان مفتوحتان على ما يريد أن يرى، وعلى ما يريد للآخرين أن يروا، على اعتبار أن النبيّ هو الرائي والقائد الروحي، لذلك ترى العينين مصوبتين تحملان ما تحملان من أفكار تتعلق بالمصير الإنساني والحياة البشرية.
لعلنا نلاحظ بياضا أساسيا في قاعدة الصورة بياضا متجمعا يشبه الغيوم، تتجمع ليخرج منها وجه النبي كاملا ودالا، وكأن النبي ليس منبتا بشريا فقط وإنما منبت علوي سماوي كذلك، يتجلى بالرحمة والحياة!! لقد بدا الوجه بملامح إنسانية متبلجة تبلج اليقين، بملامح صافية نقيّة، تتزاوج وأزليّة النّور وتمنح العالم معنى الوجود. فمهمّة النّبي هي الدّعوة إلى لقاء الحبّ الأزليّ وتنقية النّفس من شوائب العالم. هو الحاضر أبداً والمناضل في سبيل نشر المحبّة والسّلام وهو النّاقل الأمين للكلمة الإلهيّة، فالنّبيّ هو حامل هذه الكلمة، كلمة الحبّ الإلهيّ، الّتي تتجلّى نوراً في قلبه، فيتفاعل معها ويبلّغها إلى النّاس. وكلمة الحبّ ليست موجّهة إلى أشخاص معيّنين وإنّما يتفاعل معها من هم منفتحون على الحبّ الأزليّ، فيتميّزون عن سواهم بالتّجاوب معها وبالثّقة بها، إن كلّ واحد منّا هو مشروع نبيّ، إذا ما سمع بقلبه صوت ذلك الحبّ ورأى بروحه نوره البهيّ، وكلّ منّا، إذا ما حمل الكلمة الإلهيّة، وزرعها في النّفوس، استحقّ أن يكون نبيّاً.
وتقودنا هذه القراءة إلى كلام جبران نفسه عن وجه النّبيّ، دوّنته ماري هاسكل في يوميات 16 حزيران 1923:
"ألم أخبرك كيف رأيت وجه الّنبي؟
"ذات ليلة كنت أطالع كتاباً، وأنا في فراشي، تعبت. توقفت وأغمضت عينيّ… وخلال هذه الغفوة رأيت ذاك الوجه واضحاً وجلياً... ودامت الرؤيا على وضوحها دقيقة ودقيقتين ثم اختفت). و(النبي)، كان محاولة مني لإعادة رسم (وجه يسوع)، وما أكثر ما عانيت في (النّبي). أكون إلى مائدة… وإذا بالوجه يتراءى فجأة. فأرى منه ظلاً، أو خطاً معيناً... فأتمنى الذّهاب الآن إلى المحترف لأضع هذا الخط مكانه في اللّوحة. وأكون أحياناً نائماً، فأستيقظ فجأة، وقد اتّضحت لي تفاصيل جديدة، فأنهض وأرسمه."
لوحة أخرى من لوحات الفنان والشاعر والمفكر جبران خليل جبران فيها من مباهج الرؤيا ما فيها، وفيها من الأحلام ما تجعلها حافلة بالمعاني، فهل نحن على استعداد أن نتأمل وجوهنا التي قد تحمل بعض ملامح نبي، ونطرد عن ظلالها متاعب الروح لنتمتع بحياة أصفى وأجمل وإن كانت متعبة، فما التعب إلا غبار حياة إنسانية يزول لو أدركنا قيمة ذواتنا!!