الحياة شعلة- (Life is a flame) جبران خليل جبران
مادونا عسكر/لبنان
فراس حج محمد/ فلسطين
نواصل معا رحلة التّأمل في عالم جبران، فيقع اختيارنا هذه المرّة على لوحة من لوحاته التي يلخص فيها نظرته الإنسانية لحياة الفرد وعلاقتها المشبوبة بهذا الوجود، فالحياة ما هي إلا اتّقاد ولهيب، تحرق البشريّة أو تضيء سبيلها، فأمامك أيّها الإنسان واحد من طريقين لا ثالث لهما ما دمت محترقاً بلهيب هذه الحياة، فإما أن تكون إنسانا مضيئاً بإنسانيتك، وإما أن تكون ظلاماً بالشر الممتقع بين جوانحك، ولعلها هي رسالة جبران الرئيسية في هذه اللوحة.
نتأمل عناصر تلك اللوحة الموسومة ب (Life is a flame) وهي ثلاثة عناصر رئيسية متصل بعضها ببعض؛ تتمثل الأولى بأرضية اللوحة حيث كتلة من الرماد المحترق، تتخايلها وكأنها قلب إنسان، يشكو من ألم دفين، فيعكس لونه الرمادي ما به من ألم، ولكنه ليس الألم المشقي الذي يحرم الإنسان طعم الحياة ولذتها، بدمعتها وابتسامتها، لقد ذكرتنا تلك الخلفيّة الرماديّة للّوحة، التي تمزج بين السّواد والبياض، بأنّ الحياة دمعة وابتسامة تمتزجان في وجدان الإنسان خمرة معتّقة، يشرب منها ولا يرتوي، ويظلّ في ظمأ دائم إلى سرّ الحياة.
ولذا تخرج من رحم تلك الكتلة الرمادية المشبوبة يد حانية، يبدو عليها ملامح القوة والثبات والوضوح، فقد كانت اليد أوضح الأيقونات الخطية في لوحة جبران هذه، من خلال الملامح الخارجية واللّون المائل للأبيض، ومن ثَم تتابع الخطوط وتسير اللوحة لتكون اليد نفسها مشكاة تخرج منها كبة نور مشتعلة تتصاعد نحو الأعلى، وتتخذ شكل عوالم بشرية، فيلوح من خلالها بعض ملامح إنسان يحيا بل يتشكل من هذا النور الخارج من رحم تلك اليد المنبثقة من كومة رماد محترقة.
فإن رمزت اليد إلى شيء، فإنها سترمز إلى العطاء، وهي مفتوحة من جانب واحد لتعطي معنى شامل للعطاء، وغير محدود. وهي مقفلة من الجانب الآخر، وكأنّها تتمسّك بالشّعلة ولا تتركها. هذه اليد الممدودة من الدّخان الأسود الشّبيه بقلب الإنسان المتّقد والمتشوّق للحبّ والجمال وبالتّالي للحياة، لا يحترق عبثاً، ولا يذوب رماداً، وإنّما هو في اشتعال دائم، هو قلب يعطي بلا حدود ويمنح الإنسانيّة بغير حساب جمالاً وحبّاً.
لعل هذا التتابع الخطي الفني، يقود المتلقي والناظر والمتأمل ليتابع بصريا قراءة اللوحة، وكأنه يقرأ في كتابٍ، أفكارُه متسلسلة، فكرة تلو أخرى، فلا يحول بصره عنها إلا عند آخر نقطة علوية فيها، بتمازج فني بين العناصر التي بدت منسجمة ومتآلفة بأكثر من أمر.
ولعل أوضح تآلفات ذلك الانسجام هو في تدرجات الألوان؛ فقد بدأت اللوحة بأرضيتها بلون رمادي يميل إلى السواد، وأخذ هذا اللون يتفتح حتى إذا تشكلت اليد جاء اللون متخلصا من سواد الاحتراق متهيئا للإنارة، فكان اللون قريبا إلى الأبيض، حتى إذا ما أخرجت اليد ما فيها من قوة وعطاء، بدا ذلك في كبة من النور بلون أرجواني يريح النفس، فلقد كانت التآلفات اللونية مانحة اللوحة تآلفا بصريا وانسجاما للناظر فيها، غير شاعر بالنفور مطلقاً، تبدو في شّعلة أرجوانيّة، وكأنّها تحترق بذاتها ولا تنطفئ. لا تلسع اليد ولا تشوّهها، بل تمنحها لذّة وسعادة، لا يدرك معناها إلّا من لسعته نار الشّوق والاحتراق. كما تمنحها نعمة العطاء النّابع من التّوق للبحث عن الحبّ والجمال. فالبحث عنهما يتطلّب قلباً معطاء ومتعطّشاً إلى الحقيقة، ويتألّم في سبيلها، ولا أقول يتوجّع؛ فشتّان بين الألم والوجع. الوجع داء مؤقّت، تسكّنّه الأدوية، والعقاقير، أمّا الألم، فلا يرتقي بالنّفس الإنسانيّة إلّا إذا ازداد لهيبه توهّجاً واضطراماً.
فإن كانت الحياة دمعة خالصة، غرق الإنسان في سراديب اليأس والقنوط، واعتاد النّواح والشّكوى، وانتهى إلى جحيم يخنقه فيميته. وإن كانت الحياة ابتسامة، غرف الإنسان من ترفها حتّى التّخمة، وبات يتأرجح بين السّطحيّة والسّذاجة والملل. ولا يختلف جحيم اليأس والقنوط عن جحيم السّطحيّة والملل، فالنّتيجة واحدة، جثّة تتنفّس في قعر الحياة.
لقد سبق لجبران أن قال في كتابه (دمعة وابتسامة): "أريد أن أموت شوقاً ولا أحيا مللاً، أريد أن تكون في أعماق نفسي مجاعة للحبّ والجمال لأنّي نظرت فرأيت المستكفين أشقى النّاس وأقربهم من المادة، وأصغيت فسمعت تنهّدات المشتاق المتمنّي أعذب من رنّات المثاني والمثالث"، هكذا يعبّر جبران خليل جبران عن المعنى الحقيقيّ للحياة، الّذي هو الجوع إلى الحبّ والجمال. ولعلّ هذا الجوع إلى الحبّ والجمال هو الشّعلة الّتي تضرم نار الحياة في كيان الإنسان، بل هي جوهر الإنسان الحيّ. وإن خلت الحياة من هذا الجوع، أسرتها المادّة وخنقت آمالها ورؤاها. وإن شبع الإنسان واكتفى، دفن ذاته في رمس الخمول والفراغ، ونعب كغراب يبحث في قلب الموت عن غصن أخضر، فلا يجد سوى يباس وجفاف.
وهكذا تتشكل الحياة، فما الحياة إلا شعلة منيرة بهية، خارجة من رحم الضعف والقوة والدموع والابتسامات، فالألوان الرمادية المائلة للسواد تمنح اللوحة بعدا رمزيا في أن مادة الحياة حيث أصل اللوحة لم يكن سوى شيء فيه من الدموع ما فيه، وفيه من الحزن ما فيه، ولكن فعل الإنسان وطاقته وإرادته المتمثلة باليد المعطاءة، تصنع الشعلة بأرجوانيتها الدالة على حب الحياة وابتسامتها، وخصب معانيها بما يلوح في آفاقها من كائنات بشرية تعيش وتتشكل من النور وفي النور.
هذه هي لوحة جبران كما استنطقتها نفوسنا، وحركت فينا الحب لكل كائنات الله السابحة فينا، فليس مهما بعدها أن نموت أو نحيا، فقد منحتنا أيقونات اللوحة البصرية فكرة كلية عن الحياة ملخصة في جملة واحدة هي إن الحياة دمعة وابتسامة، فاصنع من الدموع ابتسامتك لتستحق أن تعيشها، ولتكون فعلا حياتك شعلة وليس مجرد حياة عابرة في زمان عابر.
ألم يقل جبران كذلك في الكتاب نفسه: "من وراء جدران الحاضر سمعت تسابيح الإنسانيّة، سمعت أصوات الأجراس تهزّ دقائق الأثير معلنة بدء الصّلاة في معبد الجمال. أجراس سبكتها القوّة من معدن الشّواعر ورفعتها فوق هيكلها المقدّس، القلب البشريّ.".
إذن هو القلب البشريّ جوهر الإنسانيّة، وما دام مشتعلاً ومتشوّقاً إلى سرّ الحياة، بدأ منذ الآن يحيا سماء جديدة، وحياة أبديّة.