اليوم في مقهى الهموز
فراس حج محمد| فلسطين
الثلاثاء: 8/3/2022
[1]
لولا الأصدقاء لا أفكر بدخول أي مقهى على الإطلاق، أحمل عن المقاهي فكرة سيئة جدا، على الرغم من ارتباط بعض المثقفين بها، وكتابتهم لأعمالهم فيها أو لذكرها في رواياتهم وأشعارهم. منذ كنت طفلا وأنا أكره المقاهي، كانت دائما مرتبطة في ذهني أنها مكان للعاطلين عن العمل، أو الحزانى الهاربين من همومهم، وأنها مكان لتضييع الوقت بلعب الورق أو القمار أو الفرار من البيوت. صورة روادها كما كنت أراهم في الأفلام والمسلسلات المصرية فقراء ومدينون دائما لصاحب المقهى. عدا أنهم ذوو هيأة رثة تثير الشفقة كحد أدنى من المشاعر.
لا أستسيغ فكرة أن تخرج من بيتك لتجلس في مقهى، فكرة عبثية. بعد أن تجاوزت الخامسة والأربعين جلست في مقهى شعبي لأول مرة، كنت برفقة ناشر وكاتب، ثم تكررت المسألة بعد ذلك كثيرا، ولكن على فترات متباعدة، لا أحفظ أسماء المقاهي في نابلس أو في رام الله، فقط مقهى الهموز هو الوحيد الذي أحفظ اسمه، أشعر أنه كمقهى ريش في القاهرة، مقهى الحرافيش، هل هذان اسمان لمقهى واحد أو مقهوان لا أدري!
عندما قرأت في إحدى المجلات العربية تحقيقا حول علاقة المثقفين بالمقاهي لم يرق لي الموضوع، كأن الكاتب أو المثقف متشرد، صعلوك لا يضمه إلا المقهى. كثيرة هي أخبار المقاهي وقصصها فيما يكتبه الكتّاب في سيرهم الذاتية.
لم يكن اليوم هو أول مرة أتشمس فيها على طاولة صغيرة في مقهى الهموز في الساحة الأولى المطلة مباشرة على الشارع. لكنها المرة الأولى التي ألتقي بها الكاتب الصديق زياد الجيوسي، والدكتور عادل أبو عمشة، أما الدكتور عادل الأسطة فسبق أن جلسنا كثيرا بصحبته في "الهموز".
[2]
في المقهى موعد مضروب مع الكاتب زياد الجيوسي، سيكون معنا أو سأكون معهما، هو والدكتور الأسطة. ينضم إلينا بعد فترة الدكتور عادل أبو عمشة. العادلان مدرساي في جامعة النجاح الوطنية، في مرحلتي البكالوريوس والماجستير، تذكرت بيت شعر محرف لزميل لنا ونحن طلاب يذكر فيه "العادلين" أبو عمشة والأسطة:
يجود علينا العادلان بعلمهم// ونحن بعلم العادلين نجودُ
ذكرتهما بالبيت فانبسطا وانفرجت أساريرهما.
الدكتور أبو عمشة، طيب وودود وهادئ منذ أيام الجامعة وفيه شيء من بساطة أهل الريف المحببة، كان يحبنا، كان دائما ودودا يمزح معنا أحيانا، اليوم يرانا ببصيرته ويسأل عنا، متذكرا هذا الجيل الذي كنا سوية. أبو عمشة والأسطة يحباننا نحن الطلاب، ولكلٍّ طريقته في هذا الحب وفي التعبير عنه. الأسطة كان على الدوام جادا ورصينا ونهابه نحن الطلاب، كنا نتحدث معه بتوجس وخوف وتردد.
الدكتور أبو عمشة يدخن كثيرا، ويتذكر كثيرا، ولا ينسى التفاصيل الصغيرة، كان منفتحا وهو يدرسنا الأدب، عدة مساقات درستها معه حفظه الله، الأدب الحديث شعره ونثره والعروض ثم في الماجستير درسنا الخبز الحافي لمحمد شكري، وتعرفنا على الأوديسة والإلياذة وعلى مسرح توفيق الحكيم الذهني، وعرفنا كيف نكتب المقالة بحجم محدد، بهذه أيضا يشترك العادلان، إذ لا بد من أن تكون الإجابة مقالة بمساحة محددة.
بدا لي أن أبو عمشة- وهو يستذكر عمله رئيس قسم- يكره العمل الإداري، ولا يستطيع الإداري إلا أن يكون تحت الأوامر والنواهي، أما كونك محاضرا وأستاذا فأنت سيد نفسك، لا تتلقى الأوامر افعل أو لا تفعل من أحد.
[3]
يتناغم الأسطة والجيوسي كثيرا فتجربتهما متشابهة ومتقاطعة، يتذكران الأحداث نفسها تقريبا، ويتقاسمان الرواية ذاتها، كأنهما ابنا صف واحد، سيطرت السياسة ببعدها الثقافي على الحديث. تجربة غنية، أسفار، حكايات، طُرف، كتب وقراءات.
هما من جيل واحد وأبو عمشة زميل للأسطة، إذاً، أصبحت للحظة خارج الدائرة، حتى الكتب التي قرأوها لم أقرأها، وأغلبها لم أسمع عنها، كانت أسماء رائجة في عصرهم، الآن لا أحد يسمع عن هذه الكتب من جيلنا. أعتقد أنني كنت اليوم في غربة، ورجع إليّ شعور أنني ما زلت طالبا لا يعلم شيئا. شخص مثلي في حضرة أساتذته، كيف يمكن له أن يتصرف؟ لم أشارك في الحديث والمناقشة، فأنا كنت جاهلا جدا بما طرحه الأساتذة اليوم، مداخلاتي كانت خجولة ومتواضعة وليس لها أي وزن، فمن الأجدر أن أسمع إذاً اكثر مما أتحدث.
لقد كان هذا الأمر طبيعيا، ليس لأنني كنت في المقهى وحسب، بل لأن الحديث كان عن تجربة ثقافية سياسية واجتماعية ليس لي فيها نصيب ولم أعش شيئا منها. ما طُرح أمامي اليوم في أكثر من ساعتين كثير وكثيف، لكنه لن يدوم في ذاكرتي، سيمر عابرا وسريعا لأنها ثقافة لم أعشها ولم أجربها ولم أتقاطع معها ولو بجزء يسير.
كم كان مختلفا أن تعود تلميذا وأنت على مشارف الخمسين عاما من عمرك!