اللقاء السابع والستون
01.01.2022
ديوان (وشيء من سرد قليل) للشاعر فراس حج محمد
مع بداية العام الجديد افتتح ملتقى بلاطة الثقافي جلساته الأدبية بمناقشة ديوان (وشيء من سرد قليل) للشاعر فراس حج محمد وقد صدر الديوان عن وزارة الثقافة الفلسطينية، الطبعة الأولى، 2021، وكان هذا اللقاء الثاني على التوالي لمناقشة أعمال الشاعر والكاتب، وقدمت عدة قراءات في اللقاء، وكانت على النحو الآتي:
سردية الرغبة وسيادة المرأة في ديوان (وشيء من سرد قليل) بقلم الشاعر عمار خليل
يعتمد الشاعر فراس حج محمد على تقنية السرد المتتابع، محاولا إحداث طفرة جديدة في منهجية الكتابة، فالسرد يُعرف في الرواية والقصة، وأقرب مفهوم للذائقة العامة عن السرد هو: النسيج، "وهو المفهوم القرآني في قوله تعالى "أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ، وَاعْمَلُوا صَالِحًا".
في هذا الديوان يأخذنا الشاعر لوحدة الموضوع، بل يأخذنا أيضا إلى مركزية الفكرة، وكأنّ الشاعر يريد أن نكون شهودا عليه في مدى ذوبانه، وتوحده وتماهيه مع القصائد وشكلها ومضمونها، فالمرأة هنا هي بطلة وقائد هذه المحافل الوجدانية والغرامية.
وهنا أجد نفسي أمام سؤال، فهل لو قمنا بحذف العناوين من كافة القصائد وقرأناها كاملة بغير عناوين سوى من عنوان واحد هو- وحسب رغبة الشاعر حين اختار- (وشيء من سرد قليل) كيف ستبدو النصوص كلها؟ في رأيي ستبدو منسجمة تعيش في ذات الرغبة مع اختلاف الحالة الوجدانية للشاعر، فكثيراً ما تراه يركض بين الأسطر ليعطي المعنى والرغبة كامل إمكانياته، فتراه أحياناً يتسول العاطفة، ولكن نجد أن صوت المرأة المتخيلة غائباً تماماً، فكان الشاعر يناجي طيفاً أو خيالاً مفترضا.
لقد حاول الشاعر استحضار الحالة الصوفية، ولكن ليس التصوف الإلهي، بل التصوف الأنثوي، وهنا أرى أن الشاعر استخدم المصطلحات الصوفية مع عدم قدرته على إقناع القارئ بهذه الحالة المبالغ فيها إلى حد تضخم الأنا لدى الكاتب.
اللغة في الديوان، سهلة طائعة، وبياضها مطلق وناعمة إلى حد الانسياب، لغة تأثرت بالمفردات القرآنية، محدثاً تناصا واضحاً بمدى التأثر الكبير به، ومع العلم أن التناص القرآني يعتبر من أقوى أنواع التناص الأدبي، ونرى الشاعر كيف يتحكم بالمفردات لتخدم الفكرة التي يريدها، ويتجلى ذلك في عنوان الديوان (وشيء من سرد قليل) تناصاً مع الآية القرآنية "فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَٰهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍۢ وَأَثْلٍۢ وَشَىْءٍۢ مِّن سِدْرٍۢ قَلِيلٍۢ"
أما العتبة الأولى للديوان وهو الغلاف: فقط استخدم اللون البنفسجي، هذا اللون ذو المدلول الروحاني والفكري، وهذا منسجم مع المضمون في الديوان، ولعل غياب صورة للمرأة عن تصميم الغلاف لهو دليل على حالة الشاعر الغرامية، والتي نقولها بلغتنا البسيطة (حب من طرف واحد).
ثم تحدث الكاتب عباس دويكات عن الديوان قائلاً:
في مجموع النصوص بين دفتي الكتاب (وشيء من سرد قليل) نجد أن هذه النصوص تمثل عقدا جماليا، لكنه لا يحوي في حبات نظمه تنوعا تنغيمياً يضفي جمالاً يدفع المتأمل فيه إلى البحث والتأمل والجنوح بمخيلته إلى تلمس موضوعات متعددة الألوان والدلالات، فبالرغم من أن الكتاب يتعدى المئتين وخمسين صفحة إلا أنه محكوم من قبل الكاتب بالدلالة الواحدة والمسيطر عليها بالأنا المتضخمة عند الشاعر. حتى غدت صفحاته لا تخلو أي منها من دلالات الأنا. وعند تتبعي لهذه الأنا في الصفحات الأولى من 1-15 وجدت الأنا تنمو وتتضخم لدرجة مجنونة، فهي في كل سطر تقريبا ففي الصفحة الخامسة مثلاً تتكرر إحدى عشر مرة، وفي الصفحتين السابعة والثامنة تتكرر عشر مرات، وفي الصفحة العاشرة تتكرر خمس مرات، وفي الصفحة الثالثة عشرة تتكرر ثماني مرات، وهكذا نجد هذه الأنا تتكرر في كل صفحات الديوان.
إنها ظاهرة غريبة بهذه الصورة المكررة وتشي بأن مبدع النصوص يحاول أن يفرض ذاته التي لا يراها مفروضة إلا في نصوصه، وهذا يؤكد فقد الشاعر لإحساسه بقيمته في الحياة ظناً منه أن الآخرين لا يحترمون مكانته ولا يقدرون قدراته، فيلجأ إلى تأكيد كل ذلك في نصوصه، وكأنه يريد أن يوصل رسالة إلى الآخر يقول فيها ها أنذا.
وعند اقتران هذه الأنا المكررة مع وجود المرأة المخاطبة في نصوصه والمشتهاة عنده ننسى بأنه متلهف إلى هذه المرأة والتي قد يطولها أو لا يطولها. وبذلك فهو يحاول من خلال أناه والتي عمل على تضخيمها لإظهار نفسه دائماً بأنه المشتهى والمطلوب من قبل المرأة. وهذا واضح في كل قصائده المشكلة لمجموع الديوان.
مرة أخرى نجد أن الشاعر بأنا المتضخمة في نصوصه قد جاءت واضحة في دلالتها مؤكدة نظرته الفوقية للمرأة فهو المشتهى وهي الباحثة عنه وحتى في نصوصه التي يحاول من خلالها تأكيد صورة المرأة الجميلة فإنه يعمد في ثناياها إلى إشارات تشي بدونية المرأة وفوقية الرجل. صورة أخرى تؤكد تضخم الأنا عند الشاعر
فعل الأمر ودلالته
يعمد الشاعر في نصوصه إلى استخدام فعل الأمر بحديثه عن المرأة بشكل واضح ومسطح، وهو بذلك يدفع بالمتلقي إلى التساؤل عن ماهية الشاعر ونظرته إلى المرأة ومكانتها في نفسه وحياته.
أولاً: علينا، أن فعل الأمر يحمل في ثناياه دلالة على الاستعلاء والفوقية. فالأمر يأتي من آمر لآخر مأمور عليه الاستماع والتنفيذ غالباً، وبهذه النمطية الممجوجة استخدم الشاعر فعل الأمر بخطابه للمرأة في نصوصه، إذن فهذا الخطاب يؤكد في دلالته إيمان الشاعر بفوقيته واستعلائه ودونية المرأة.
إذن فالأنا تتحقق هنا مرة أخرى، أنا الشاعر المتضخمة والظاهرة في خطاب الشاعر على مدى صفحات الديوان.
ففعل الأمر ينتشر في خطاب الشاعر بشكل غريب وممجوج وكأنه بتكراره يؤكد إحساس الشاعر بضعفه أمام الآخر محاولاً أن يشعر الآخر بعكس ذلك من خلال تتالي فعل الأمر في نصوصه.
ففي صفحة (5) نجد فعل الأمر يتكرر (سبع) مرات وفي صفحة (8) ثلاث مرات وفي صفحة (9) إحدى عشرة مرة وفي صفحة (10) ثلاث عشرة مرة وفي الصفحات من (13 – 20) يتكرر فعل الأمر بشكل واضح وجلي.
الأنا المتضخمة الواضحة الظهور بشكل يحمل دلالات كثيرة وفعل الأمر المؤكد لهذه الأنا في طياته، كل ذلك يؤكد ما كنا نشعر به أو يحاول الشاعر أن يؤكده لنا من دلالات لمثل هذا الاستخدام المفرط للأنا في نصوصه.
لا شك عندي بحرية الشاعر وبالأفق الممنوح له للتعبير عن عوالجه وما يراه ولا نراه، ولكنني أرى أن هذا الأفق مقيد بشيء من الأعراف والعادات بشكل أو بآخر حتى يبقى مقبولاً في ذائقة المتلقى، ففي قصيدته أو نصه بعنوان أيتها النفوس ائتدمي / سور القبل/ وقف الملائك شاهدين/ اغتسلوا بألحان المقام / كلما هزت النشوة ردفيها ونارت يا إمام العاشقين تبتل/ اطمأن الأنبياء على شريعتهم، وهكذا لقد كرر الشاعر في نصوصه دالة أظنها غير ذات دلالة لما أراده الشاعر فهو يكرر لفظة ألف ونون/ أن/ وهي تكتمل الدلالة في النصوص إذا كانت (ألفان ونون) أو ألف ونونان/ أنا / أنّ إلا إذا أراد الشاعر بذلك شيئا آخر أراده هو ولا نعلمه لخروجه عن مألوف اللغة.
لا شك أن الملتقي يقف حائراً أمام نص كالوارد في صفحة 34 حول دور النقاد في تفكيك النص وفي صفحة 63 يحتار المتلقي أمام نص إذ يخرج به الشاعر عن المنطق والأعراف والمعتقدات.
كل ما سبق لا يعني أن الشاعر لا يقبض على دلالات جمالية في نصه ففي كثير من المواقع والجمل النصية نجده مبدعاً في استخدام الألفاظ ليشكل صوراً فنية رائعة نجدها بكثرة في نصوصه ومنها على سبيل المثال
ترتل في السماء نقي سردك . صفحة 7
لعلني أخلع عني...... الكثافة في الفراغ صفحة 8
واتركي مني يدي تسبح في جلالة حرّ نارك صفحة 8
تجرد نفسها من نفسها أنفال فائك صفحة 8
تعالي مثل عصفور شهي النقر في شفتي صفحة 12
تعلمت الرواية وتركتها مكتوبة على جدران ظلي صفحة 19
علميني أقلم وحشتي صفحة 21
واغتسلوا بألحان المقام
جائع لسيل الضوء من قمر يضاجع غيمة على أطراف كون، صفحة 37
نشبت أظافر لحمها في عروق أصابعي صفحة 52
أما الكاتب مازن دويكات فقدّم رؤيته للديوان قائلاً:
ما زالت العلاقة الجدلية قائمة بين الشكل والمضمون في العمل الإبداعي .. صراع من الصعب تحديده وتوقيفه بجلاء مطلق، له في الشعر مساحات أبعد من السرد فالشعر لا يحتمل الزوائد كالسرد مثلا، وفي الشعر أيضاً من يحدد تفوق المضمون على الشكل أو العكس.. هو الشاعر المبدع ذاته.. ثقافته ونصوصه المعرفية، ولا نتجاهل الانتماء الفكري للشاعر في تحديد هذه الحالة .. برأيي المتواضع أن الشاعر المنتمي لفكر ما والمؤدلج يكون لهاثه نحو المضمون أكثر بغية إيضاح ونشر الفكر المنتمي إليه..
أمّا الشاعر المنتمي للفن وروح الشعر فقد يلجأ للشكلانية الشعرية أكثر من إبراز المضمون.. ولكن هناك قلة من الشعراء ممن يمتلكون طائر الإبداع الشعري بكلتا جناحيه الشكل والمضمون في آن وكأنهم يصوّبون الوسيطة الإبداعية على ذائقة المتلقي بكل جدارة واقتدار وقد يكون الشاعران محمود درويش ومظفر النّواب أكثر وأعمق نموذجين يجسدان هذه الحالة الشعرية المتفردة.
وأما صديقنا الشاعر فراس فقد حاول بكل جهوده واجتهاده أن يعدل بين كفتي ميزان شعريته وشاعريته على اعتبار أن الشعريّة نصيرة للمضمون والشاعرية نصيرة للشكل.. ولكن فراس في مجموعته الضخمة والمتعبة بجماليات مرهقة "وشيء من سرد قليل" وفي الاعتقاد أن هذا العنوان جاء بكامل التحدى لحالة الصراع الدائرة بين الشكل والمضمون على اعتبار أن هذا العنوان هو لمجموعة شعرية وهذا يعني فرضاً أن المضمون هو الانزياح الكلي في هوية هذه المجموعة خاصة وأن المضمون يميل للسرد أكثر من ميل الشكل للسرد.
يقول الشاعر فراس في صفحة 40
أنا جائع لأرى الكلام بلا زوائد
لا سماء له
يشبع السرد
يكتب الراوي حكايته
وتنتهي اللعبة كلها
ثم يقول في صفحة 42
يقف الوزن العروضي الجبان عائقا بين السماء
وبين أرض السرد
بيني وبين اللغة التي تندس بين أصابعي خلسة
كي تضيء الطريق إلى القمر.
وأمام كل هذا الانتماء للسرد تقف الشكلانية حزينة رغم جوع شاعرنا كي يرى الكلام دون زوائد، وكذلك هذا اللعين الوزن الشعري والذي هو قد يكون كمقص الشجر الذي يقلم الغصون الذائدة عن أشجار الحديقة الشعرية الوارفة بظلالها وظله.