قراءة في رواية لويس سبوليفدا:
هل يمكن أن يكون للقراءة كلّ هذا السّحر؟*
فراس حج محمد/ فلسطين
لم أكن سمعت قبل جائحة كورونا، باسم الروائي لويس سبوليفدا الذي يُكتب الاسم الثاني منه سيبولبيدا أيضا في بعض الترجمات، فقد كان أحد ضحايا هذا الفايروس، هذا العجوز الذي تجاوز السبعين عاما، لم يحظ بفرصة أن نعرفه جيدا وعلى نطاق واسع عربياً، لولا هذا القدر الذي كان ينتظره، على الرغم من أنه مُترجَم إلى العربية منذ عام 1993 عندما نشرت له دار الآداب البيروتية روايته القصيرة "العجوز الذي كان يقرأ الروايات الغرامية" بترجمة د. عفيف دمشقيّة.
لم تكن هذه الرواية هي الوحيدة التي تنشرها دار الآداب للروائي التشيلي أو دور نشر آخرى عربية، لأكتشف عدة روايات أخرى مترجمة ومنشورة عربيا غير المذكورة آنفا، وهي: "قطار باتاغونيا السريع"، و"خط ساخن"، و"قصّة النورس والقط الذي علّمه الطيران"، و"مذكرات قاتل عاطفي".
اشتغل سيبولبيدا في الصحافة إلا أنه تركها ليتفرغ للكتابة الروائية، وقد عبّر عن وجهة نظره في الكتابة بقوله: "أنا لا أعتبر الكتابة هبةً من الآلهة، امتيازاً ما، الكتابة مجرد عمل، وإنه لأمر يدعوني للضحك حين أسمع عن مؤلفين يشكون من مكابدة المعاناة الكبيرة عندما يكتبون، فإن كانوا يعانون كثيراً، لماذا يكتبون إذاً؟ عليهم أن لا يكونوا مازوشيين يعذبون أنفسهم". ربما استشفّ القارئ من هذا القول أمرا آخر غير أن الكتابة عمل، إنها هي نفسها نوع من الحب أيضا، وليست تعذيبا كما يظن بعض الكتّاب.
لقد أغراني عنوان روايته "العجوز الذي كان يقرأ الروايات الغرامية"، فلا يكاد يخلو خبر عن الكاتب ووفاته إلا وأشار إلى هذه الرواية التي وصفت بأنها "رائعته"، وأنها ترجمت إلى خمس وثلاثين لغة. ثمة مدح مبطن لهذه الرواية القصيرة التي لم تكد يصل عدد صفحاتها إلى مئة وخمسين صفحة. ومن الجدير بالذكر أن الرواية كتبت كما جاء في نهايتها في عامي 1987 و1988 في مدينة أرتاتور/ يوغسلافيا، وهامبورغ/ ألمانيا.
ليس أمرا سهلا أن تقرأ رواية مترجمة في جلسة واحدة، تعجّ بأجواء غريبة عنك وتزخر بالأعلام الغريبة والأسماء الطويلة، صعبة اللفظ، بل أنْ تكون هي عملك الأول الذي تفتتح به نهارك. على الرغم من ذلك فقد قرأتها بشغف كبير، وعدا ما تركز عليه المواقع الأدبية التي كتبت عن الرواية، وتوجُّه المحررين إلى دفاع لويس عن البيئة وغابة الأمازون وضد تدمير الاستعمار والرجل الأبيض للغابات من أجل الحصول على الذهب وجلود الحيوانات، رأيت في الرواية أمرا آخر مهمّاً، ليس بعيدا عن العنوان، فأن يقرأ عجوز روايات غرامية لا بد من أنه لافتٌ للانتباه.
لعلّ هذه الرواية توجّه المتلقي إلى حقيقة مفهوم القراءة، وماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ ولماذا نقرأ؟ لا أظنني قد أخذت الرواية بعيدا عن هدفها عندما أطرح هذه الأسئلة، وأوجّه قراءتي لها نحو هذه الوِجهة، ولن أكون باحثا عن "تأويل التأويل"، ولا عن "معنى المعنى"، ولا ليّ عنق النص لأجعل الرواية محورها القراءة وما يتصل بها.
بداية يحدد العجوز اختياراته في القراءة، فيبتعد عن كتب الهندسة، فكأنها أحجيات أو بذاءات صريحة كما وصفها السارد، ولم يرغب أيضا في قراءة كتب التاريخ التي وصفها كذلك بأنها "سبحة من الأكاذيب"، وإنما تستهويه كتب الحب، وقد عبر السارد عن تلك الرغبة بقوله: "لقد كان (كتاب) السبحة لفلورانس براكلي يحتوي على الحب، وعلى المزيد من الحب ودائما على الحب. وكان الأشخاص فيه يتألمون ويمزجون الهناء بالشقاء بقدر كبير من الجمال". هذا المقتبس من الرواية مهم جدا في التأسيس للفكرة الأساسية لها، ولمؤلفها، ففي الرواية يظهر هذا الألم وهذا المزج بين الهناء والشقاء في نفوس الشخصيات، تلك الشخصيات التي تتحرك في فضاء من الغابة، وتواجه حيوانات خطرة وقاتلة ومميتة. لقد ظهرت إنسانية العجوز "أنطونيو خوسيه بوليفار" وحبه وألمه في الرواية في مواضع كثيرة؛ في علاقاته مع الشخصيات الأخرى، وفي علاقته مع الحيوانات، فهو كان يحب الشواريين على الرغم من أنه لم يكن واحدا منهم، "بيد أنه كان مثلهم"، وعندما لدغته الحية وشارف على الموت أنقذه الشواريون، وأما الحيوانات فإنه لم يكن ليصيد صغارها ولا يصيد إلا من أجل أن يأكل وفي أوقات معينة، حتى لا يستفزّ تلك الحيوانات وتصبح شرسة. لقد تجلى الحب في نفس "أنطونيو" عميقا، وصاحبه على مدى رحلته الروائية في الغابة، وهو يبحث عن البهيمة/ القطة التي استشرست وقتلت أربعة من البيض؛ لأن أحدهم قتل صغارها وجرح ذكرها، بقي يبحث عنها، ليخلص الصيادين ومرتادي الغابة وحتى سكان القرية المجاورة (أل إيديليو) من شرها، حتى استطاع أخيرا أن يقضي عليها، ولكن تلك المعركة والمناورة التي قامت بين "أنطونيو" والقطة الشرسة، كان فيها من الإنسانية ما فيها. فقد حرصت القطة، من خلال متعة السرد الشائق الذي نجح المترجم الدكتور عفيف دمشقية في نقله، على أن يقتل العجوز القطّ الذكر الذي أصيب وظل يتألم، فترشد القطةُ الرجل العجوز عبر سلسلة من المراوغات إلى موقعه ليقوم بقتله بإطلاق "رصاصة الرحمة" عليه ليتخلص من عذابه، لقد عرف العجوز بخبرته أنها كانت تريد أن يتخلّص ذكرها من العذاب بالموت، وقد حقّق لها مرادها، ولكن المعركة لم تنته مع القطة التي كانت تبحث عن الموت هي أيضا رحمة من عذابها بقتل أبنائها وذكرها، وتقوم المعركة الأخيرة التي تنتهي بقتلها. وفي نهاية هذا المشهد تظهر إنسانية "أنطونيو" حيث قام "ومسح عليها العجوز ناسيا ألم قدمه الجريحة وبكى من الخجل شاعرا بأنه خسيس ومحتقر وغير منتصر بأي شكل في هذه المعركة". وليس هذا وحسب بل إنه "دفع جسم الحيوان إلى ضفة النهر فجرفته المياه إلى أعماق الغابة نحو أراضٍ لم يقدّر قط أن دنسها الرجل الأبيض".
ربما أعادت مشاهد المعركة مع القطة الشرسة الثكلى بأبنائها وذكرها مشهد صراع الشيخ مع سمكة القرش في رواية آرنست همنغواي "الشيخ والبحر"، ولكن بإنسانية أوضح عند أنطونيو كونه بطلا ينتمي إلى أمريكا اللاتينية، هذه القارة التي استنزفت ثرواتها أطماعُ المستوطنين والرجل الأبيض. وإن تشابها قليلا في أن المشهد الأخير من صراع أنطونيو مع القطة كان صراعا على البقاء حيا، فإن لم يقتل القطة، فإنه لمن المؤكد أن القطة كانت ستقضي عليه، واكتسب صراع الشيخ مع سمكة القرش شيئا من صراع الوجود أيضا، فقد ناضل بكل قوته ليظل حياً وألا يصبح طعاما لها.
هذه الرواية المبنية على عدة مواقف سردية تكشف عن تلك الأطماع، ولكنها الأطماع التي خلت من الحبّ والإنسانية وعدم الفهم لحيوان الغابات وأهمية وجودها، لقد كان "أنطونيو" يكتفي مثلا بسحب السّمّ من الأفاعي ولا يقتلها، ويجمع سمّها القاتل ليبيعه دون أن يؤذي تلك الحيوانات.
لقد قامت الرواية على أمرين الحبّ والقراءة، فالحب بمفهومه الشامل هو الذي يمنح الإنسان عيشا طبيعيا حتى وهو في الغابة بين الحيوانات الخطرة، بل إن الحقد وسوء النية هو الذي يحوّل القرود والخفافيش والقطط إلى حيوانات قاتلة، ومن هنا يتبين القارئ أهمية القراءة، وأيضا القراءة بمفهومها الشامل، فقراءة الكتب تمنحنا شيئاً أكبر من المعارف والمعلومات، إنّها تروّضنا لنكون أكثر انفتاحا على الآخر، وتقبّله، واحترام أفكاره، وبالقراءة- كما ترى الدكتورة رزان إبراهيم- "نصبح قادرين على التخلص من إملاءات الآخرين ونشعر باستقلاليتنا، وتكون لنا رؤيتنا الخاصة وثقافتنا المميزة"**، وهذا ما يلاحظه القارئ في شخصية أنطونيو عموماً.
عدا أن الرواية لا تقف عند قراءة الكتب والروايات فقط، بل قراءة الطبيعة ومظاهرها في الصحو والمطر، وقراءة سلوك الحيوانات وفهمها لإيجاد أرضية للتعايش معها وتجنب خطرها. ويعطيها حقها في أن تعيش حياتها الطبيعية وتعتني بصغارها، وأن تكوّن أسرتها كما يحلو لها بعيدا عن تدخلات الجشع البشريّ.
بالإضافة إلى ما سبق ترشد الرواية من باب آخر كيفية قراءة الكتب، فالكتب لا تقرأ على عجل، وإنما بتؤدة وصبر لكي يفهم القارئ ماذا قرأ، فلا عجب إذن أن يكون العجوز قارئا ولا يحسن الكتابة، يقرأ الكلمات حرفا حرفا، وصولا إلى الكلمة كاملة، ثم الجملة، وكأنه يتذوق الكلام تذوقا بمتعة، ولم يكتف بذلك بل كان يعيش بفكره ويتخيّل ما هو مكتوب، "وكان يخصص سائر وقته لقراءة الروايات والهيام بأسرار الحب وتخيل تلك الأمكنة التي حدثت فيها تلك الحكايات".
هذا التأمل في الكتب الروائية وما فيها من أسرار الحب والمعرفة، هو الذي جعله يقرأ الغابة جيدا، ويستطيع أن يتعامل معها التعامل الذي يؤهل له سلامته الشخصية من أذاها، وقد أنقذ بفعل هذه القراءة الواعية للطبيعة والغابة وحيواناتها الرجل البدين ومن معه، وهم يتوغلون في الغابة بحثا عن القطة الشرسة، وخلّصهم من مواقف لولا وجوده معهم لكانوا في عداد القتلى والمفقودين.
لقد اكتسب الرجل العجوز "أنطونيو" قوة من هذا الحب ومن هذه القراءة/ المعرفة المعترف بها من رجل السلطة الغبيّ الذي مثّله المحافظ خير تمثيل، هذان الأمران اللذان كان يفتقد إليهما الرجل البدين بوصفه مسؤولا حكوميا، فقد كاد يودي به جهله وحقده إلى الموت خلال رحلة البحث تلك، ولذلك فإنه وجد أن من الأسلم له ولمن معه العودة إلى القرية (أل إيديليو) لحراستها، وترك العجوز وحده ليصارع البهيمة الشرسة، مقابل خمسة آلاف قالب من السكر تمنحه إياها "الدولة"، ولم يكن في نية المحافظ إلا التخلص من العجوز، ولكن هذا العجوز المسّلح بالخبرة والحب والإنسانية ينجح في مهمته، وبدلا من أن يعود ليقبض الثمن الموعود، يتخلص من بندقيته الملعونة بوصفها أداة قتل وكُرْهٍ و"بهيمة معدنية ملعونة من جميع المخلوقات". ويتوجه إلى (أل إيديليو) "نحو كوخه ورواياته التي تحكي عن الحبّ بكلمات هي من الجمال بحيث تنسيه في بعض الأحيان بربرية الناس". وهكذا تنتهي الرواية بهذه الفقرة التي تومئ إلى الفكرة الأساسية من الرواية، حيث الحب والقراءة كفيلان بجعل الإنسان أكثر إنسانية. فإن كان للحب كل هذه الفاعلية في حياة البشر، فهل للقراءة كل هذا الأثر أيضا؟
أعتقد أن الأمر بحاجة إلى مزيد من التعمق أكثر من مجرد تحويل الكلمات المكتوبة إلى معان ذهنية حبيسة النفس، بل يجب أن يكون للقراءة الإيجابية للموضوعات المؤثرة في تحسين ظروف الفرد والمجتمع واقع محسوس ومطبّق، وإلا ستبقى القراءة فعلا أحمق يستهلك وقت القارئ دون تلك النتيجة المتوخاة من القراءة الفاعلة المغيّرة لنفوس البشر وعقلياتهم وسلوكياتهم نحو الأفضل.