في النقد والنقاد:
الأدب بين خطيئة النشأة وجرأة الانتقاد
فراس حج محمد/ فلسطين
نشرت الكاتبة اللبنانية مادونا عسكر مؤخرا مقالة بعنوان "الفخّ السّرديّ وانفلات القيمة الفكريّة" حول رواية "برهان العسل" للكاتبة السورية سلوى النعيمي، جاء فيه: "ما تطرّقت إليه الكاتبة لم يبرز بالعمق المطلوب، ولم يناقش في الرّواية، وإنّما اقتصر على سرد أحداث سطحيّة ومغامرات جنسيّة استندت معرفيّاً إلى التّراث أو بعض منه بشكل سطحيّ".
شخصيا قرأت الرواية منذ ثماني سنوات تقريبا، ولم أحبها، وتجاوزت عنها ولم أتناولها بالعرض والنقد في كتابي المخصص لنقد الرواية "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، على الرغم من أنني أفردت للأدب الأيروتيكي وقفة خاصة، ولاحظت الملامح الأيروتيكية في كثير من الروايات التي درستها، ولم أرغب حينها بالإشارة إلى رواية "برهان العسل"؛ لأنها ليست مشغولة بحرفية الروائي الخبير، بل عملتِ الرواية على مشاكسة السلطة الدينية والاجتماعية بفجاجة واضحة، ولعبت على دغدغة مشاعر القارئ الغِرّ الذي تستهويه المشاهد الجنسية الفظة المنفّرة في الروايات غالبا، كأنه وجد عنها بديلا لأفلام "البورنو"، وتذكرني هذه الرواية من باب آخر برواية باولو كويللو "إحدى عشرة دقيقة"، في أن كلتا الروايتين تعملان بسذاجة على موضوع فلسفي وحيوي وهو موضوع الجنس، فتوظيف هذه الثيمة في العمل الأدبي لن يجعله عملا إبداعيا رائجا أو عظيما، وحتى وإن راج لفترة بين الساذجين من القراء إلا أنه سرعان ما ينطفئ ويموت، ولا أحد يتذكره، إنه لن يخلّف عملا روائيا يتحدى الزمن.
إن ارتكاب خطيئة كتابية بمثل هذه الخطايا جدير ألا يمرّ دون عقاب نقدي حادّ، لأن السكوت عليه والترويج له والاحتفاء به يجعل كاتبه تأخذه العزة بإثم هذه الخطيئة غير المغتفرة. ولن يقف الأمر عند حد الكتابة التي تدغدغ المشاعر الذاتية العاطفية والغريزة الحيوانية في القارئ، بل يمتد أيضا لكتابات أخرى تعالج بسذاجة موضوعات أخرى متصلة بالقدسية الدينية أو المشاعر الوطنية، فهذه الموضوعات لا يكفي وجودها أو اتّكاء النص عليها أن تنتج بالضرورة نصا جيدا، بل ربما على العكس تماما أوقعت الكاتب في التسطيح والهشاشة الفنية واللغوية، ظنا منه أنه في منأى عن المحاسبة الفنية، فكأن مجرد تناول تلك الموضوعات يعطيه حصانة ضد النقد السلبي الموجه للعمل الأدبي.
لقد انتبه الكاتب الشهيد غسان كنفاني في بعض مقالاته التي جمعت تحت عنوان "فارس فارس" إلى هذه المسألة، وهو يتناول بعض الأعمال الأدبية التي اتخذت من هزيمة حزيران متكأ لها، أو جعلت من الوطن بركة تسبح فيها، إلا أن هذا المجال الموضوعاتيّ لم يخلّصها من النقد والسخرية الغسانية، ولم يسلمها من السقوط في ترهات التعبير والسذاجة اللغوية التي قادت كنفاني للتهكم منها ومن أصحابها تهكما يتجاوز أحيانا حد الطرافة. فكتب معلقا: "إن جواز السفر الذي يدخل الرجل إلى وادي عبقر ليس نظافته الوطنية ولكن أيضا موهبته"، ويمكنني أن أضيف على ما قال غسان كنفاني أيضا: "إن النوايا الحسنة لا تصنع إبداعا". فلا بد من تحقق تجليات الموهبة ونحن نناقش أي موضوع من موضوعات الكتابة سواء أكان موضوع الجنس أو الدين أو الوطن أو أي موضوع قد يبدو هامشيا، فلولا ذلك الإكسير الفني لا يصلح موضوعا ليتحد بالفن ويعرف من خلاله.
لعل فيما كتبته الكاتبة مادونا عسكر في مقالتها المشار إليها أعلاه يعيد الاعتبار لأهمية تحقق الجرأة في النقد، وتعرية تلك الأعمال الأدبية التي توصف مجازا بأنها "أدبية"، لقد وجد هؤلاء النقاد على مدار تاريخ الكتابة العربية منذ مقولة "استنوق الجمل" إلى مقولات نقاد النهضة العربية مرهوبي الجانب والجناب؛ العقاد والمازني وطه حسين وميخائيل نعيمة على سبيل المثال، وصولا إلى ثلة من النقاد المعاصرين، مع قلتهم وندرة وجودهم أحيانا، إلا أنهم يقفون بالمرصاد لكل متقوّل متطفل على الأدب وصنعته.
لقد بتّ على قناعة أنه لا يصلح الأدب إذا لم يوجدِ الناقد الجريء الذي يضع جانبا العلاقات الشخصية ويتجرّد من كل شيء، بما فيها هيبة الكاتب وشهرة الكِتاب، لينغرس في العمل الأدبي كاشفا ومعرّيًا، موجها ومرشدا، مع ضرورة ألا يُفهم من هذا أن الناقد سيتحول إلى معلم يحمل صولجانا يهدد به الأدباء، أو شرطي مرور على مسارب الإبداع، ولكنه يعني أن الناقد أولا يجب ألا يخاف أو يتوجّس ريبة ويتوارى، لأن في خوفه كارثة تؤدي إلى صناعة الرداءة الأدبية وتمركز تلك الأعمال لتصبح عناوين مرحلة ستمرّ ويأتي غيرنا ليحكم عليها، كما حكم نقّادنا الأجلاء مثلا على حقب الأدب المختلفة فاكتشفوا كم كانت تغصّ بالبلادة الأدبية في عصور كاملة، كالعصر المملوكي الذي ساد فيه التصنع، وتضاءلت فيه الصنعة الأدبية. ويجب ثانيا على الأديب أن يعي حقيقة أنه يصنع تاريخا لأمة كاملة، فبيديه مع غيره من الأدباء أن يكون هذا التاريخ مجيدا أو جليدا ميتا، وأن يحترم القارئ وعقليته وذكاءه والابتعاد عما سماه كنفاني "الاستغباء" "أي الاعتقاد بأن القارئ رجل تافه لا يفهم". وعلى القارئ المثقف ثالثا أن يدرك أن الخطايا الأدبية يجب ألا تمرّ من غير عقاب أدبيّ نقديّ قرائيّ جريء، فيبتعد عما يشوّش ذائقته ويهشم جماليات الروح.
ربما احتجنا إلى أكثر من هذا القول، ونحن نشاهد ما نشاهده من انفجار كتابي، أصبح يلزمه الكثير من الترشيد و"التنخيل"، وكم تصبح العملية صعبة ومعقدة ونحن نرى الذائقة تتشكل بفعل تلك الأعمال، وأشد ما يخشاه المرء حقيقة أن يصبح الناقد الجريء شخصا غير مرغوب فيه، فيوصف بما لا يجب أن يوصف به، حتى وهو يرى الخطايا ويشير إليها ويحذّر من طرف خفيّ من الانزلاق في وهادها الشائكة.
منشورات موقع صحيفة ليفانت