في تأمل تجربة الكتابة
الناشر والتدقيق اللغوي
فراس حج محمد
لا يوجد عند الناشرين الذين تعاملت معهم مدققون لغويون ولا محررون أدبيون ويكتفون بأن يكون الكتاب رواية ليكون المبرر لنشره، أو أن تدفع فيكون لك الحق في أن تنشر ما أردت، لا سيما إن كنت صاحب سلطة ما، وبعض هذه الدور أيضا تفتقر إلى لجنة قراءة، تجيز الأعمال القادمة إليها من الكتّاب.
دارا نشر عند حساب التكاليف وضعتا عليّ من بين التكاليف أجرة التدقيق اللغوي، والأدهى أنه لا يوجد لدى تينك الدارين مدقق لغوي. كيف اكتشفت اللعبة إذن؟
أولا عند متابعة النسخ الأولية المرسلة بعد التصميم أكتشف وجود أخطاء فأعدلها أنا مرة ومرتين وربما ثالثة، أراها موجودة حتى في النسخة الثالثة. في هذه المرحلة من الطباعة أكون في حالة نفسية تعيسة، أكون قلقا جدا، وأتوتر، فلا أشعر بطعم النوم أو الراحة وأمتنع غالبا عن التلذذ بطعام أو شراب. فلا أرتاح إلا والكتاب بين يديّ.
ثانيا من عادتي أن أقرأ كتبي بعد الطباعة، لأكتشف مجموعة من الأخطاء. لا أثر للمدقق الذي دفعنا له جزءا من القيمة تشعر أحيانا كأنها ضريبة على لا شيء تحسب عليك لزيادة ما تدفعه من مبالغ. ليت الناشر لا يكذب ولا يحشر التدقيق في الحساب، لكان والله أكثر أخلاقية وصوابا واحتراما.
ومن طريف ما حدث معي في هذا المجال:
عندما نشرت ديوان "أميرة الوجد"، كنت أفاخر أنه كتاب يخلو من الأخطاء. فانتبهت ابنتي لذلك فقالت لي: مستحيل أن يخلو كتاب من الأخطاء. أنا أصررت أنه لا أخطاء فيه، وهي أخذت في القراءة فاكتشفت خطأين، وحمدت الله أنني لم أراهنها على شيء، وإلا كنت خسرت الرهان. ابنتي كانت في ذلك الوقت في الصف التاسع الأساسي.
أدرك أنه لا كتاب تقريبا يخلو خلوا تاما من الأخطاء، لكن وجود أخطاء كثيرة وبسيطة وفي كل صفحة يجعلك تتأكد أن الناشر الذي جعلك تدفع من أجل التدقيق لم يقم بدوره. والموازنة بين النسخة المصفوفة على الحاسوب والمرسلة أولا للناشر عند مقابلتها مع النسخة المطبوعة ستكتشف أنهم لا خلاق لهم لا في الدنيا ولا في الآخرة. فليس معقولا أن تكتشف طالبة في الصف التاسع أخطاء الكاتب، ولا يلتفت المدقق اللغوي المفترض، وحتى الناشر نفسه لتلك الأخطاء. تشعر كم أن الكاتب شخص مخدوع، والناشر شخص مخادع و"نصّاب" بالفطرة.
حدث هذا أيضا في الكتب المقررة في المدارس وكتب اللغة العربية تحديدا. الأمر ليس غريبا ألبتة، هناك من يأخذ أجرة على التدقيق ولم يدقق، فقط ليكتب اسمه على الكتاب، وليكون مبررا له أن يأخذ حصته من لحم هذه الأضحية. أحد الذين يعملون في التدقيق اللغوي، يتسلم النسخة من الكاتب وتمكث في بريده الإلكتروني عدة أيام، ثم يعيدها كما أتته ولكن برسالة جديدة.
بالمناسبة أنا لا أحب التدقيق ولا أرغب فيه، على الرغم من أنه يدرّ منافع مجزية، ولا أقوم به إلا مضطرا. وعملت سابقا مدققا لغويا لواحدة من دور النشر المحلية. ورفضت رواية لمؤلف شابّ، لا يعرف من صنعة الكتابة أبجدياتها الأولى، ونصحته الناشر ألا يغامرا ويطبعا ذلك الهراء المقيت.
عملت كذلك مدققا لغويا في مجلتي الزيزفونة، وكثيرا ما كان يتندر عليّ المسؤول عن المجلتين الكاتب شريف سمحان في أنني مدقق أحتاج إلى مدقق، وكان يدسّ لي في نصوصه أو افتتاحيات المجلة خطأ أو خطأين ليمتحنني، ولسوء طالعي لم أكن لأكتشف الخطأ، فيتصل بي ساخرا متندرا. وكذلك كنت أطلع، بوصفي من لجنة القراءة لجمعية الزيزفونة، على مخطوطات الكتب الواردة من الكتاب، ورفضت بعضها، كنت متشددا ومتطرفا جدا في تطبيق المعايير اللغوية والفنية التي تتصل بأدب الأطفال، وسبب لي ذلك بعض التعب والغضب والحرد من هؤلاء الكتاب.
ومارست أحيانا التدقيق اللغوي دون مقابل غالبا، شريطة أّلا يحشر اسمي في خانة التدقيق اللغوي، ويكون خاصا جدا للأصدقاء المقربين مع أن هذه المهمة، وهذا هو السبب الثاني، لم تكن مهمة ناجحة تماما إذ كثيرا ما بقي أخطاء بعد التدقيق، ما جعلني أتبرأ من هذه المهمة وأتجنبها حتى لو قرأت المخطوطة المعدة للنشر أقول لصديقي الكاتب كتابك يحتاج مدققا ولكنني لست أنا هو. لقد اتهمتني مرة أكاديمية تربوية أنني "نصاب" بعد أن دققت لها رسالة الدكتوراه قبل طباعتها، وقالت إنني لم أفعل شيئا. إنني أعذرها، ولكنها لم تكن تعرف الحالة التي كانت عليها رسالتها أيضا.
حالات قليلة تلقيت عليها أجرا جراء التدقيق اللغوي أندم عليها ندما شديدا لأنني في واحدة منها خسرت أصدقاء كانوا يعشمون عليّ بحكم الصداقة ولكنني خذلتهم. لكنك الآن تتذكر أن الحاجة أحيانا تدفعك لتحلب النملة التي تسير آمنة في هذا العالم.
وحدث أيضا أن شهّر بي الشاعر خالد جمعة في أمسية إطلاق أحد كتب الصديق عبد الغني سلامة، وكنت قد دققته دون مقابل كونه صديق وأحببت أن أسدي له شيئا من محبة وصداقة، فما كاد ينهي خالد جمعة كلامه حتى ضرب الطلقة الأخيرة، وقال إن الكتاب فيه الكثير من الأخطاء مع أنه مرّ على مدقق لغوي. يا لتفاهة هذا الوصف ساعتئذ! ولكنني لم أحرج بيني وبين نفسي، مع محاولة خالد جمعة التبرير أو الاعتذار. لم ألق بالا لما قال، كونه شخص يحب الوقوف على التفاصيل وهذا من حقه طبعا.
لقد وقعت في هذه المواقف بسبب ناشر ما أهمل أهمية أن يكون لديه مدقق لغوي ومحرر أدبي، ولجنة قراءة معتبرة ومحكّم علمي للمادة التي يريد نشرها. وأخيرا أرجو ألا يكون هذا الذي كتبته بحاجة إلى تدقيق لغوي مع أنني حريص على ألا أقع في شرك الأخطاء هنا تحديدا.