قراءة نقدية:
العتبات النصية في ديوان "سرايا" للشاعر الفلسطيني خليل عانيني
فراس حج محمد/ فلسطين
صدر ديوان الشاعر خليل عانيني عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل مطلع عام 2019. جاء الديوان قصيرا في (63) صفحة من القطع المتوسط، يضم ثلاثين نصا، تناول فيها الشاعر مفردات الحياة الفلسطينية، من المعاناة الفردية إلى المعاناة الجماعية، وحضر الشهداء في عدة نصوص، كما حضر الأب، والشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد في نص واحد لكل منهما.
تبرز في الديوان الصنعة الجمالية، فالقصائد منسجمة فيما بينها، تتمحور حول فكرة محددة، وجاء الديوان منسجم الإيقاع، ولا يوجد فيه ما يخرجه عن مساره اللغوي أو مضمونه الفكري.
حضرت "سرايا" في العديد من القصائد أسهمت في زيادة لحمة الديوان السردية، كأن الشاعر يكتب لمحاته مشاهد شعرية قصصية، حول هذه الفتاة التي أنقذها من الحكاية الشعبية، وأعاد إنتاجها بنص يأخذ مكوناته من الشعر والسرد، فثمة "تواطؤ إيجابي" على هذه الوحدة ما بين الجنسين الكتابيين لكتابة الرؤيا الشعرية.
استوقفتني العتبات في الديوان، والعتبات هي كل ما يحيط بالنص ويتوازى معه من الغلاف الأول حتى الغلاف الأخير، ويشمل العناوين، ولوحة الغلاف والتقديم والإهداء والإشارات الأولى، والتنويهات، وما يكتب على الغلاف الأخير.
وأول تلك العتبات بطبيعة الحال عنوان الديوان، فقد جاء كلمة واحدة، اسم علم مؤنث مجتلب من الحكاية الشعبية الفلسطينية، وسرايا هذه كما وردت في الحكاية، "فتاة صغيرة في السن اختطفها الغول، ثم يحررها ابن عمها". هذا باختصار شديد، ثمة رمزية إذن في العنوان، فهو علم مؤنث، يذهب في القارئ نحو دلالتين متشابكتين، وهما: المرأة الفلسطينية، وفلسطين ذاتها. هذه الفكرة لم تعد توقعية، فقد عبرت عنها صورة الغلاف التي رسمتها ابنة الشاعر (جلنار خليل)؛ فتاة ذات ملامح جمالية تتماهى وخريطة فلسطين. ما الذي دفع الشاعر إلى أن ترسم ابنته لوحة الغلاف؟ الأمر لا يتعلق بالمشاعر ولا باحترام الموهبة الخاصة لابنة الشاعر وإشهارها. ربما أراد الشاعر أن يرى سرايا الطفلة الصغيرة بعيون ابنته التي ربما التقت مع سرايا في العمرنفسه. مع أن هذه التجربة ليست الأولى من نوعها، فقد رسمت ابنة الشاعر المصري رفعت سلام بعضا من الرسومات الداخلية لديوانه الأخير "أرعى الشياه على المياه". وقد تحدث في لقاء تلفزيوني معه حول ذلك، والمبرر الفني لتلك التجربة التي تتلخص في كون تلك الرسومات تعبر عن أفكار الشاعر والنص، ووصلت إلى مستوى مقبول من النضج الفني.
تسلمنا العتبتان الأوليان العنوان ولوحة الغلاف إلى العتبة الثالثة وهي "الإهداء". يكتب الشاعر: "إلى أمي وهي تقترب من أن تكون سرايا، وإلى سرايا وهي تتجلى في أفق القادرين على إعادة صياغة الوجود الفلسطيني من على أرض هي عقدة الأرض وحجر رحى وجناح لا تستمر بدونه الحياة". لم يأت الإهداء على هذه الشاكلة من الترتيب الخطي، كما أعدته، بل احتلت عبارة "إلى أمي صدر الإهداء بالبنط الأسود العريض، ويكمل بسطر جديد، ولكنه يبدأ حيث انتهى طرف العبارة السابقة "إلى أمي"، فقد ترك فراغا في السطر الثاني يوازي حجم عبارة "إلى أمي"، ويكمل إهداءه. أما إهداؤه لسرايا فلم يبرز الاسم باللون الأسود الغامق، وجاءت العبارتان في متواليات الأسطر، وقد احتل الإهداء بكليته خمسة أسطر: اثنين للأم وثلاثة لسرايا. ويظهر انسياق الشاعر اللاواعي وراء الفكرة والتوضيح لرمز سرايا.
أما العتبة الرابعة كانت بعنوان "من هي سرايا؟"، يوضح فيها الشاعر المرجعية التي يستند إليها الديوان ويشير إلى إميل حبيبي الذي سبقه في توظيف هذه الحكاية في رواية "سرايا بنت الغول". وفي هذه العتبة أيضا يواصل الشاعر تجلية الرمز، ماذا يريد أن يقول الشاعر؟ هل فعلا دفعته الرغبة في الإيضاح ليفسر أم أنه كان يظن في القارئ سوء نية، فيفترض أنه غير مثقف وغير واع تماما لمثل هذه المرجعيات؟ ثمة صورة سلبية للقارئ المفترض في عقل الشاعر خليل عانيني، وهذا أيضا دفعه إلى عدم اكتفائه بهذه الإشارة التي عنونها بـ "من هي سرايا؟؟" مع وضع علامتي سؤال بل سيعود إلى التوضيح مرة أخرى في العتبة السادسة المعنونة بـ "تقديم"، وماذا تمثل له سرايا على المستوى الشخصي، ولماذا كانت عنوانا لمجموعته الشعرية هذه.
أما العتبة الخامسة التي توسطت بين "تقديم" الشاعر للديوان وبين توضيح "من هي سرايا"، كانت مقطعا شعريا للشاعر عبد اللطيف عقل:
هو الشعر
لما يقاتل يزهو
ولما يداهن يكبو
ولما ينافق أقسى من الطعن في الخاصرة
وردت هذه الأسطر في ديوان عبد اللطيف عقل "بيان العار والرجوع" الصادر عام 1992، (الأعمال الشعرية الكاملة، مجلد2، ص 290)، وتعيدنا هذه العتبة إلى الدور التقليدي للأدب الفلسطيني المقاوم، الشعر خاصة، فللشعر دور في المعركة مع الاحتلال، والشاعر في هذه العتبة، ومن قبله عبد اللطيف عقل، لا يسعى إلى تعريف الشعر، وإنما يؤكد وظيفته النضالية، هذه الوظيفة التي جاء الديوان مبينا لها في نصوصه الشعرية. لينحاز بوضوح إلى شعر المقاومة الكلاسيكي المعروف في الشعر الفلسطيني عبر استدعاء الفكرة وأحد شعراء المقاومة البارزين، هذه الفكرة التي كان لها صدى واضح في الشعر الفلسطيني وعبر عنها محمود درويش منذ بداياته الأولى في ديوانه "أوراق الزيتون"، ففي قصيدته "عن الشعر"، يقول:
"قصائدنا بلا لون
بلا طعم بلا صوت
إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت" (المجلد الأول، ص 53)
سأتجاوز عن العناوين الداخلية، وأذهب نحو الغلاف الأخير للديوان الذي احتلت فيه صورة الشاعر الركن الأيمن العلوي منه مع إعادة نص كامل، وهو النص الأخير في الديوان الذي يتحدث فيه عن الشهيد عمر النايف. وهذا الاختيار، كونه يحتل مكانا بارزا من الديوان، بصفته الكائنة كمنتج ورقيّ، يثير في نفس القارئ تساؤلات عدة عن مدى ارتباطه بالفكرة الأساسية للعمل الأدبي، وعن وظيفته الإشهارية أو التحريضية أو التلخيصية، إذ يشكل إعلانا أوليّا يجابه به الشاعر قراءه أو متصفحي ديوانه. وربما وجد الدارس المتفحّص للديوان أن ثمة ما هو أكثر ملاءمة من هذا النص يمكن أن يشكل إغواء أو تحريضا على القراءة، أو استكمال عملية التوضيح التي انتهجها الشاعر وحرص أن تكون موجودة في كل العتبات السابقة.
هذه كانت أهم عتبات ديوان "سرايا"، تلك العتبات التي تحمل القارئ إلى الديوان، وتشكل لديه أفاقا محددة للقراءة، ساهمت بشكل جليّ بتوضيح الديوان وأفكاره، بعيدا عن تقييم تلك الوظيفة بين طرفين حادين، أحدهما النجاح، لكنها تبقى رؤية الشاعر الذي يقدم نفسه للقراء أول مرة، ومن حق الشاعر أن يعبر عن رؤاه كما يرتئي، ولكنه بالمقابل عليه ألا يغلق النص، على رؤيته وحده، عملا بنظرية "موت المؤلف". لقد انتهى دورك أيها الشاعر الآن، عليك أن تستريح، وجاء دور المتلقي. ولذا يمكن أن نختلف مع الشاعر أو نتفق معه ونحن نفسر نصه وعتبات ذلك النص، "ويسهر الخلق جراها ويختصمُ"، والمسألة هنا ليست صوابا أو خطأ، وإنما هي تأويلات يقبلها النص، أو ربما يستدعيها استدعاء اقتضائيا ضروريا من وجهة نظر الدارس دون أن يصادر حق الآخرين في التأويل المختلف بطبيعة الحال.