مع الحلقة الثالثة عشر نمضي في دراسات يسيرة في رحاب السيرة، وكنت قد طرحت رأي من قال بأن من أساءوا لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لا يعرفون من هو، ويجهلون قدره، وسأمضي مع صحة طرحهم، وأوجه لهم نصيحة: “اعرفوا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن تسيئوا له)، وذلك على الرغم من معارضتي لكونهم لا يعرفونه، كما ذكرت سابقًا وسأذكر لاحقًا بأنه لا عذر للغرب في جهله بالإسلام ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم خاصةً وقد شهد القرنان الأخيران جملة من التطورات كان يفترض بهما تصحيح هذه الصورة وجعلها أكثر موضوعية ونزاهة وقرباً من واقع الحال، مثل:
ــ الاطلاع المتنامي للغرب على المصادر الإسلامية للسيرة النبوية، وذلك بعد تحقيق الكثير من المؤلفات العربية والإسلامية على يد المستشرقين الغربيين في البداية، والباحثين المسلمين لاحقاً، وفي مختلف اللغات الشرقية، ونشرها.
ــ الاحتكاك الشامل مع الشعوب الإسلامية في فسح أكثر إنسانية ولا سيما في ظل تطور وسائل النقل والاتصال الحديثة التي يسّرت تواصلاً يوميًا ومباشرًا بين الغرب والشرق لم تعرفه القرون الخالية. وأكثر من هذا فقد باتت معظم المجتمعات الغربية تحتضن جاليات مسلمة وطنية ووافدة، وغدت أكثر معرفة وألفة للإسلام دينًا وثقافة وتاريخاً وطريقة حياة.
ـ اطلاع الباحثين الغربيين على كتابات المسلمين الحديثة عن السيرة النبوية، سواء أكان ذلك باللغات الشرقية، أم باللغات الغربية التي ترجمت إليها أو كتبت فيها؛ فضلاً عن إلمامهم بما أنتجه المسلمون من نقد وما أخذوه عليها من عيوب ونواقص لكتابات المستشرقين والغربيين عامة عن النبي صلى الله عليه وسلم وثغرات منهجية ومعلوماتية.
ــ التطورات المهمة التي حققتها تقاليد كتابة السيرة (biography) وطرائقها بشكل خاص، ومختلف العلوم الإنسانية المساعدة بشكل عام، أو عن التأثير فيها والتي يبدو أنها ظلت بعيدة عن ملامسة كتابة سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم على النحو المرجو، ولا سيما بعد تبيّن بعض المتنوّرين الغربيين ما تنطوي عليه شخصية النبى صلى الله عليه وسلم من عبقرية وتفوّق وعظمة وقيم سامية.
ــ التطورات الهائلة التي حققتها الحقول المعرفية المتصلة بدراسة ثقافة “الآخر” وتاريخه ومجتمعه، ولا سيما بعد التأثير الواسع الذي ولّدته منظورات متقدمة معرفيًا ومنهجيًا وفكريًا، مثل منظور إدوارد سعيد وكتاباته عن صلات الشرق بالغرب والثقافات المولّدة وغيرها، مما انعكس إيجابيًا في دراسات الغرب عن الآخر، ولكنه لم يمسّ بعمق دراسات هذا الغرب عن النبي صلى الله عليه وسلم [عبد النبي اصطيف، صورة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الكتابات الأنكلوــ أمريكية: مقدمة منهجية ونماذج مجلة التسامح العدد الثانى].
وأضيف إلى ما سبق الفيلم الوثائقي: “محمد: ميراث نبي” الذي يتحدث عن سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام بشكل تفصيلي يستغرق ساعتين، وقد عرضته قناة PBS وهي قناة رسمية واسعة الانتشار على مستوى الولايات المتحدة الأميركية، وأعده “مايكل وولف وأليكساندر كرونيمير”، ألم يشاهده أحد ممن طمس الله على قلوبهم فرسموا، وصوروا فيلمًا مسيئًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
ألم يقرأوا ـ وهم المشهورون بالقراءة ـ قول المفكر الإيرلندى الشهير برنارد شو عن الإسلام، ورسوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان لديانة معينة أن تنتشر في انجلترا، بل في أوروبا, في خلال مئات السنوات المقبلة, فهي الاسلام.. لقد نظرتُ دائمًا إلي ديانة محمد بأعلي درجات السمو بسبب حيويتها الجميلة، إنها الديانة الوحيدة في نظري التي تملك قدرة الاندماج في هذه المرحلة من مراحل البشرية بما يجعلها جاذبة لكل عصر، لقد درست تاريخ حياة محمد, ذلك “الرجل العظيم”، وفي رأيي يجب أن يطلق عليه لقب “منقذ البشرية”، إنني أعتقد أنه إذا قدِّر له أن يتولى مسئولية قيادة العالم, فلاشك أنه سيستطيع حل مشكلاته وإقرار السلام والسعادة، لقد تنبأتُ بأن عقيدة محمد ستكون مقبولة لأوروبا غدا, كما هي مقبولة لأوروبا اليوم) [برنارد شو، مقال الإسلام الحقيقي عام1936].
وبرنارد شو لم يمنعه إلحاده من الاعجاب بشخص وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم الجهادية المناضلة، التي طمح أن يتمثلها، كما هم بكتابة مسرحية عنه صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان ينبذ التعصب، ويكره افتئات رجال الدين في حقبة العصور الوسطى على شخص رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (إنّ رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجةً للجهل أو التعصّب، قد رسموا لدين محمدٍ صورةً قاتمةً، لقد كانوا يعتبرونه عدوًّا للمسيحية، لكنّني اطّلعتُ على أمر هذا الرجل، فوجدته “أعجوبةً خارقةً”، وتوصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أنْ يسمّى “منقذ البشرية”، وفي رأيي أنّه لو تولى أمر العالم اليوم، لوفّق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها).
ليت من أساء تمثل ماقاله الكونت هنري دي بولانفلييه عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم : أنه أداة الله التي قضي بها علي العبادة الباطلة وأحل محلها العبادة الحقة [هنري دي بولانفلييه (1658 – 1722): مؤرخ فرنسي، كتاب “حياة محمد” عام 1730].
كما تأثر فولتير بما كتبه الفرنسي هنري دي بولانفلييه بعد أن قرأ كتابه ، الأمر الذي حدا به أن يؤلف كتابه: (بحث في العادات) سنة 1765م، دفاعًا عن الإسلام ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن أقل ما يقال عن محمد أنه قد جاء بكتاب وجاهد، أما عيسى فلم يترك شيئًا مكتوبًا ولم يدافع عن نفسه، لقد امتلك محمد شجاعة الإسكندر الأكبر وحكمة نوما، أما عيسى فقد نزف دمًا بمجرد أن أدانه قضاته. والإسلام لم يتغير قط، أما أنتم ورجال دينكم فقد غيرتم دينكم عشرين مرة) [فولتير الأعمال الكاملة جـ16 ص 385].
أما تولستوى الذي دفع ثمن مجاهرته بالحق فحرمته الكنيسة بسبب آرائه التي انتشرت في وقته، يصف إعجابه الشديد بالرسول صلى اله عليه وسلم وسيرته العطرة: (أنا واحد من المبهورين بالنبي محمد الذي اختاره الله الواحد لتكون آخر الرسالات على يديه، وليكون هو أيضًا آخر الأنبياء، ويكفيه فخرًا أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح للسكينة والسلام، وفتح لها طريق الرقي والتمدين).
يقول رودي باريتRudi Paret: (لقد كان النبي محمد هادفًا ومتَّسِق التصُّرف منذ تجربة الوحي الأولى في الغاية التي لم يَحِد عنها طوال حياته، وهي هداية بني قومه من العرب إلى الإيمان الصحيح) [أحد أهم المستشرقين الألمان المعاصرين«محمد والقرآن، دعوة النبي العربي ورسالته»، والذي صدرت ترجمته مؤخرًا ضمن مشروع «ترجم» التابع لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم (ترجم النص عن الألمانية وراجعه على مصادره دكتور رضوان السيّد].
عند مقولة “باريت” سنتوقف ونستأنف نصيحتنا لمن أساءوا أن يعرفوه صلى الله عليه وسلم.. في أمان الله وسلامه أترككم على أمل اللقاء بكم في دراسات يسيرة في رحاب السيرة.
ساحة النقاش