جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
من أجمل لحظات المتفرج المولع بفن المسرح أن يتقابل مع النص مكتوبًا أو مجسدًا على خشبة المسرح، وهو يجهل الخصائص الأسلوبية، والقدرة الإبداعية عند كاتبه، إن هذه اللحظة الكاشفة تعري كل من المتلقي والمبدع، وتظهر إما أصالة كل منهما أو تظهر إفلاس أحدهما وعليه حينئذٍ أن يصارح ذاته بمواصلة التعلم أو بالدأب في سبيل التعرف على المبدع وإنتاجه أكثر وأكثر.
ولعلها من اللحظات الرائعة أن تتلقى دعوة لحضور عرض وأنت تظنه لكونه على خشبة مسرح من قصور الثقافة، وفرقة محلية، أن العرض سيفقد أكثر أو أقل أدوات الفرجة المعتادة لا الفائقة، ولكن حين يصدمك عنوان العمل المكتوب بحرفية يجعلك تنتبه: هل وراء العنوان ما يحققه؟.. وعليك الانتظار حتى تحكم.
والدعوة الكريمة كانت لحضور عرض مسرحية “كوميديا الأحزان” من إنتاج فرقة بيت ثقافة فيصل المسرحية، على مسرح قصر ثقافة السويس، والتي سمحت لي أن أتعرف على عمل فاجأني كاتبه بأنه محترف شره أراد أن يجمع كل فنون اللعبة أو قل معظمها في عملٍ واحد، فالفصحى تجاور العامية في رضا دون تنافر أو منابذة، أو استعلاء من الكاتب بفرد عضلاته اللغوية في النص، ودون اجحاف أو اقحام، وبلغة عربية شعرية غير مترهلة، يملك بوعي ناصيتها، ويروضها في المكان والزمان الذي يريد، فجاء بالراوي (ضمير الشخصية) دون أن يصيب متفرجه بالملل لا من تعاطيه مع العربية الفصيحة، ولا من حيث أن الصوت لايطابق الصورة، فالراوي/الضمير يتحرك وجودًا أمامنا، ونحن نتحرك فيه من خلال مونولوجه الذي نستبطنه معه.
وغلب الموقف حيادية الكاتب الذي انحاز لشخصيات النص والجمهور المتلقي في آنٍ واحد حتى كأننا أمام نص يكتب طازجًا على المسرح بفعل وتفاعل أحداثه، وتبني وجهة نظر المتفرج الموافق ضمنًا أو صراحةً بما يُتلى عليه.
هرب المؤلف ببراعة من قتامة المشهد المأزوم والذي مازال يفور بأحداثه، بشخصيات تعتصر الضحكات من ينابيع الحزن مثل "الكلب/النقرزان"، والرومنسية التي ضاعت في ميادين الثورة، والأحلام التي اغتالتها رصاصات البطش، والرمزية التي جسدتها "ضحى" مصر التي تنكر من أحبها، ومن أحبها مازال يحبها ويستنهضها لكي تعرفه، والملحمية التي لامسها دون أن يغور فيها باجترار ذكريات الماضي التي تتصل وتصب في نفس سياق الحدث دون أن تخرجنا بخيالنا عنه، والسريالية من خلال ضمير كل شخصية وحوارها مع ذاتها، ورفض الواقع من خلال النزوع نحو وجود مغاير سابق أو لاحق متخيل، أو باستجلاب الأحلام يقظة أو منامًا، في مثل قول يوسف: (تـُري هل أحلم، لم أتعـوّد أن تزورني الأحلام وعينـاي مفتوحة .. هل جاءت ضـُحي، أم أن الكوابيس مازالت تهزأ بي؟)، والعبثية أو اللامعقول في تكوين مشهد الموتى الذين يبعثون من جديد، ويموتون ثانيةً ليعودوا، ثم يشكلون من أنفسهم قضاة يحاكمون ضمائر كل متفرج، وكأن اللعبة قد انقلبت عليه وكأنه صار مشاركًا في أحداث المسرحية، أو صار هو اللاعب، والشخصيات متفرج، والتجريب من حيث الانقضاض على الشكل المكاني للمسرح بأرسطيته العتيدة، في محاولة للإمساك بخيوط الأحداث ورؤوس المتفرجين من أجل بث الفكرة دون فواصل من خلال لوحات تشكيلية التكوين، يستشف منها ما لا يقول أكثر مما يقول، وكسر حاجز التقريرية والمباشرة مع عمل واقعي تلوكه الألسنة وتتعاطاه الأقلام سواء في المقاهي أو البيوت أو برامج التوك شو اليومية المملة، وهيَّ عوامل لو لم يستطع المؤلف الالتفاف حولها وتجاهلها للفته في خيوطها المتشابكة وأحبطت عمله.
الأحزان في هذه المسرحية ليست أحزان المذهب الواقعي التي تبث الحسرة في جنبات النفس، وإنما هي أحزان ثائرة استطاع المؤلف تجميعها وضخها من جديد، طازجة ساخنة لتتوازى مع حدث المسرحية على الخشبة وعلى الأرض، (تلك تركيبة قدرية.. مضي الليل.. مضي من باعونا وشردونا وصنفونا وعذبونا.. مضي الليل ونحن الآن في انتظار الفجــر.. سقطت رأس الأفعي، لكن جسدها مازال ينتفض بقـوّة.. سقط جدار الخوف، ومازالت عشرات الجدران الأخري باقية.. هــُـنـا مـُـتعهد حــُـريات ، وذاك مزوّر أفكار، وهذا مستثمر ثورات، وهناك مـُـشعل فـِـتـن دولية، ومازال يطل برأسه مؤلـِـه حــُـكام، وطوائف محتكروا صكوك التوبة، وخلف الصورة يتخفي قاتل أحلام، ومُـصدِر أوهام، ومُهرب ثروات قومية.. تـُـجـار الآلام اليوم أكثر من كل الأيـــــام.. علي بـُـعد خـطوات يأتي الفجـر.. خـبئـوا النور.. خبئـوا أحلامكـم.. خـبئـوا ثوراتكم فخـلـف كل نبي يحـلـم يوجد صانع شر، وخلف كل ثائر يـُـضحي يختفي قاطع طريق.. إيها السادة.. مازلنا في انتظار الفجر.).
أما مؤلف العمل فهو "إبراهيم الحسيني" حاصد الجوائز، وقد سبق له أعمال أخرى، منها: الغواية، متحف الأعضاء البشرية، وشم العصافير، وغيرها.
ولم تفت الجوائز مخرج العمل محمد حامد حيث حصل على عدة جوائز بالمهرجان الختامي لنوادي المسرح، والذي تظهر رؤيته جيدًا في التعامل مع النص بحرفية ورؤية قد تتفق ورؤية الكاتب أو مغايرة لها، ولكنه وفريق العمل الذي معه أدركوا تمامًا بل أزعم أنهم وحدوا التوجه من خلال التعاطي مع هذه الرؤية أكثر من التعاطي مع النص فجاء ديكور رامي دافنشي متوائمًا مع الطرح، وكذا الإعداد الموسيقي لكريم كوكو، والتفهم والتناغم بين أشعار عمرو حسن وألحان أحمد القاضي التي جاءت مواكبة ومكملة للخط الدرامي للعمل.
والمجهود المبذول من مساعدي المخرج محمد الشامي وشادي عزت والذي يبدو في الصورة النهائية للعمل من خلال هذا الأداء الرائع والمتميز لكتيبة الشباب الذين أدوا هذا العمل وكأنه بحق عمل ثوري في صورة فنية، تتضح آثارها في كل سكنة وحركة منهم وأغلبهم ممن شاركوا في ثورة يناير، وكان العمل بالنسبة لهم نوع من الوفاء لأصدقاء شهداء لهم ماتوا بين أيديهم أو فقدوهم برصاصات القمع، فصبوا غضبهم وغضب المخرج والكاتب فوق أصحاب الأحذية الثقيلة، ليعلنوها بحماس: (اليـوم نصرخ لا لشيء إلا لكي نقول: نحن مازلنا نعيش.. إما نحن وإما هـُـم)، فتحية خاصة لهم ولفنهم ولفهمهم وتفاعلهم الصادق والجاد: كامل عبد العزيز، محمد محي، أحمد أبو الحسن، مريم محمد، آيات زيدان، عباس عبد المنعم، إيهاب عادل، حسين محمود، مصطفى خليفة، مهند عبد المنعم، ريم، هاجر، عمر نخلة، عمر ميرو، محمد إبراهيم، محمد بكار، إسراء، وغيرهم من الواعدين والواعدات.
غير أن الصوت وخفوته كان عاملاً معاديًا للاستمتاع بالعمل، يتجلى هذا في صوت ضمير حافظ أكثر، غير أن اختيار محمد حامد لعمل تم إخراجه أكثر من مرة محليًا وعالميًا ليشكل بطولة له، حيث جعلته وكل من معه يقفون في موقف التحدي على محك الصعود أو السقوط المدوي، وبكل حيادٍ وتجرد أثمن هذا العمل رغم أي هناتٍ فيه، فسيبقى علامة فارقة في تاريخ كل من شارك فيه.
ساحة النقاش