دكتور السيد إبراهيم أحمد

 

لم تغب الجزائر عن المشهد الإبداعي والثقافي المصري بخاصة والعربي بعامة؛ فهيَّ وإن أعجزها الحضور بشخوص مبدعيها ـ أحيانًا ـ كانت قادرة بقوة على الوجود الدائم في ذهنية المثقف والناقد العربي بعامة والمصري بخاصة أيضًا.
   ويخطيء أولئك الذين حاصروا وحصروا العلاقة التاريخية القوية  "المصرية ـ الجزائرية" في مجرد صراع صاعد على و حول الساحرة المستديرة التي أججت العداوة الزاعقة ـ غير العميقة ـ بين بعض الشعبين، ذلك أن باطن وظاهر تلك الخصومة المفتعلة كان استجابة لدواعٍ سياسية نخبوية في المقام الأول، يؤكد افتعاليتها وسطحيتها ذلك الموقف الداعم من أكثر الشعب الجزائري وشعوب المغرب العربي المناصر للشرعية في الحقبة الأخيرة من المشهد المصري المأزوم، وتعاطفه مع ضحايا فض الاعتصامات والتظاهرات والذي ينبيء بصدق وثبات وعمق هذه العلاقة في جوهرها.
   يدافع الكاتب المصري أنور الجندي بحرارة عن عدم غياب الحرف العربي من ألسنة وقلب وذهنية المبدع والمثقف الجزائري، منتصرًا لتفوق المنتوج الجزائري المكتوب بالعربية داخل البيئة المحلية رافضًا كل الدعاوي التي تهمشه وتعلي من شأن الإبداع الجزائري المكتوب بالفرنسية وإن يكن من كتبه جزائري، ولا يخفي الرجل اعجابه بأصحاب الأقلام الناهضة بفكر الجزائر وتقدمه على المستوى العربي والإسلامي، أولئك الذين ساهموا في اثراء ميادين الشعر والمقالة الأدبية، واعادة كتابة تاريخ بلادهم من جديد.
    يلاحظ القاريء المتابع لفن القصيد في الجزائر من ربط الشعر الحديث ـ الزمني لا النوعي ـ نفسه بالإسلام كدين وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وجهاد الأوائل من الجزائريين ويأتي في مقدمتهم الأمير عبد القادر، كما لم تنفصل مسيرة ذلك الشعر بقضايا الأمة العربية التي ينتمي لها. وارتباط الشعر بالدين ليس غريبًا؛ فطبيعة الدين قريبة من طبيعة الشعر، فهما معًا يحضران الحياة، ويقودان إلى عالم الكمالات كما يقول الدكتورعبده بدوي، فالدين يلاحق الشاعر سواء أكان يكتب ليتجاوب عالمه الصغير مع العالم الكبير، أو ليغير الواقع الذي يعيشه إلى واقع أروع.
   لعل كلمة الإمام عبد الحميد بن باديس التي ألقاها عام 1934 في احتفال جمعية علماء الجزائر بوفاة الشاعرين المصريين حافظ وشوقي لتدلل أعظم دلالة على عمق الإسلام في التكوين الحضاري للجزائر، فيقول: (أن الأمة التي صبغها الإسلام وهو صبغة الله، وأنجبها العرب وهيَّ أمة التاريخ، وأنبتتها الجزائر، وهزمت العاتية على الرومان والوندال لاتستطيع أن تمسخها الأيام ونوائب الدهر).. ولا نستطيع أن ننسى مقولة شيخ المؤرخين الجزائريين الدكتور أبو القاسم سعد الله في أطروحته لنيل الدكتوراه والتي قال فيها: (إن الإسلام قد أعطى للشعب الجزائري حضارة كاملة تقوم على العربية كوسيلة تفكير وتعبير، وعلى الدين كطريقة حياه وسلوك) وفي المقابل (لم يتقبل الجزائريون هذه الحضارة فقط بل أسهموا إسهامًا فعالاً في تقويتها وتمكينها).
   ولهذا هام شيخ العروبة شكيب أرسلان ـ اللبناني المولد والمصري الهوى والتأثر ـ بشاعرية الشاعر الجزائري الكبير محمد العيدال خليفة، فيقول في كلمته التي أرسلها لمجلة الشهاب الجزائرية: (كلما قرأت شعرًا لمحمد العيد الجزائري، أخذتني هزة طرب تملك عليَّ جميع مشاعري، وأقول: إن كان في هذا العصر شاعر يصح أن يمثل البهاء زهير في سلامة نظمه، وخفة روحه ورقة شعوره، وجودة سبكه واستحكام قوافيه، وأن التكلف لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه يكون محمد العيد الذي أقرأ له القصيدة المرتين والثلاث ولا أمل).
   ومرد تلك الظاهرة التي رصدها العلامة عبد القادر المغربي ـ اللاذقي المولد والتونسي الأصل ـ  هيَّ وحدة اللغة العربية الفصحى بين المشارقة والمغاربة تلك نتيجة لتوحد المنازع والمشارب، وتلك مزية القرآن وهو العروة الوثقى التي تضم إليها ما تفرق من أقطار الأمة الإسلامية).
   ويؤكدها أبلغ تأكيد وصف الكاتب المصري أنور الجندي للشاعر الجزائري مفدى زكريا بـ "حافظ" ويقصد شاعر النيل حافظ إبراهيم، ويصف الشاعر محمد العيد بـ "شوقي الجزائر" ويقصد أمير الشعراء أحمد شوقي، كما أن الذي ذهب إليه أمير البيان شكيب أرسلان في وصف العيد بالبهاء زهير وهو شاعر من خير من يعبرون عن الروح المصرية في العصر الأيوبي كما يصفه الدكتور شوقي ضيف، واقتران العيدال بزهير من وجهة نظر أرسلان لا تأتي مجاملة أو عن اطلاق القول على عواهنه؛ فزهير يتميز في شعره بخفة الروح والعذوبة في الأسلوب، ويميل إلى الأساليب السهلة الرقيقة موشيًا أبياته بضروب البديع، وهيَّ ذات النعوت التي أضفاها أرسلان على العيدال، وتأتي من شاعر خبر الشعر من صباه وشهد له الخبير بالشعر الإمام الشيخ محمد عبده، يضاف إلى هذا خبرة أرسلان بالنشاط العلمي والفكري والسياسي للجزائريين، وإعجابه بكتاب "تاريخ الجزائر في القديم والحديث" لابن الشرق الجزائري الشيخ مبارك الميلي والذي نهض مع بن باديس والإبراهيمي برسالة الإصلاح الديني والوطني في الجزائر.
    ولعل ما سقناه ليؤكد اجتماع الذائقة "المصرية ـ الجزائرية" بخاصة، على مزاج واحد لأنهما ينهلان من معين واحد بحيث اجتمع على الرأي في "العيدال" الجندي وأرسلان رغم اختلاف السنوات بينهما؛ إذ كتب أرسلان رأيه وأرسله للشهاب من جنيف عام 1937، بينما سجل الجندي رأيه في القاهرة 1978.
 ولايتوقف الاهتمام المصري بالإبداع الجزائري عند جيل شعراء الثورة فقط بل طال جيل مرحلة الاستقلال أيضًا والذي ولد في أثناء حرب التحرير وواصل المسيرة بعد جيل الثورة، وقد تمثل هذا في كتاب: "شعراء الشباب في الجزائر بين الواقع والمأمول" للدكتور المصري حسن فتح الباب، وتناول في الجزء التطبيقي منه بالتحليل والتقييم تسعة شعراء من خلال مجموعاتهم المنشورة، وقد كان دافعه لهذا هو إلقاء الأضواء على القيمة التعبيرية لإنتاجهم، ويرى من خلال تنظيره لتطور الشعر الحديث في الجزائر أنه مر بثلاث مراحل، أولاها: مرحلة المحاكاة، ثم تبعها مرحلة تمثل واستيعاب شعر الرواد، ويأتي التفرد والخصوصية في المرحلة الأخيرة.
   ولاينفي هذا تداخل المراحل الثلاث عند معظم الشعراء، الأمر الذي يسلمنا إلى مناقشة فكرة الأجيال في موكب قرض الشعر بما يضفيه من بعد زمني وآخر فني، خاصةً وأننا لا نستبعد البعد الزمني لكننا لا نحكمه تحكيمًا مطلقًا بل نتعامل معه بقدر ما يؤثر في الأدب كظاهرة لها خصوصيتها أو كما يقول الدكتور أحمد درويش في "القصيدة المعاصرة بين الاستقلال والانتماء": (ضرورة البدء من العمل الأدبي ذاته لمتابعة تطوره الفني لما يحمله هذا العمل من استقلال نسبي دون غض الطرف عما يحمله العمل ذاته من مظاهر الانتماء لظرف تاريخي محدد).
   ولم تغض العين المصرية الطرف عن إبداع أجيال ما بعد مرحلة الاستقلال أو ما شئت سمها مرحلة الاستقرار والنهضة للجزائر وربما خير من يمثلها في الآونة الأخيرة شعراء بئر العاتر أو ما يعرفون بـ "مجموعة الحواس الست"، وقد أفردت عنهم دراسة تعريفية نقدية غير طويلة : "عترة العاتر .. والست الجواهر"، وقد نبهتُ في آخرها على دور النقد والتقييم لانتاجها والتي تنبأت بل أوصيت بأن تكون مدرسة شعرية لها قوامها ومنهجها كأبوللو، والديوان، والمهجر، على أن تتخذ لنفسها مكانة تحت سماء الإبداع الجزائري ثم العربي، ذلك لما نعيه ونعانيه تمامًا من أزمة النقد العربي المعاصر.
 وإن كنت قد نبهت على ضرورة النقد بالنسبة لشعراء المجموعة المشار إليها وهم يبدعون في أكثر أعمالهم القصيدة الخليلية، وأقلها في القصيدة الحديثة، ذلك أن فتح الباب في دراسته تلك كان قد أطلق ذات الدعوى بيد أنه قصرها فقط على شعراء القصيدة الحديثة دون غيرهم، والذين استرعت تجاربهم أيضًا نظر الناقد ووزير الثقافة المصري الأسبق الدكتور جابر عصفور فكتب متنبئًا بانبعاث حركة شعرية واعدة منهم ومن سائر شعراء بلدان المغرب العربي، بينما تنبأ الأديب الكبير الراحل يحي حقي بمستقبل زاهر واعد للأدب المغربي كله.
 إن عين الرعاية والاهتمام والمتابعة والنبؤة والدراسة الأكاديمية المنهجية المصرية للإبداع الجزائري بخاصة والمغاربي بعامة لتدل أعظم دلالة على شدة التلاحم ووشائج التواصل بين جناحي الأمة العربية مشرقًا ومغربًا، وتعكس عمق الحب المتجذر في أرضية العلاقات المصرية ـ الجزائرية على المستوى الشعبي والثقافي، والتي لو طاوعنا القلم في رصدها أكثر لما توقفنا عند حدود هذا النص، ولكن سنستكمله ونبينه في دراسات أخرى قادمة لو كان في العمر بقية.   

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 96 مشاهدة
نشرت فى 19 نوفمبر 2013 بواسطة elsayedebrahim

ساحة النقاش

السيد إبراهيم أحمد

elsayedebrahim
الموقع يختص بأعمال الكاتب الشاعر / السيد إبراهيم أحمد ، من كتب ، ومقالات ، وقصائد بالفصحى عمودية ونثرية ، وكذلك بالعامية المصرية ، وخواطر وقصص و... »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

70,117