دكتور السيد إبراهيم أحمد

 

 

  يشغل الأفاكون أذهان الناس بما يشيعون من إفكهم حول الرسول صلى الله عليه وسلم وزواجه المتعدد ، ويصورونه كرجل لا هم له إلا الانتقال من فراش امرأة إلى امرأة أخرى .. وقد كذبوا ..

  لم يكد الرسول صلى الله عليه وسلم يأنس بزينب بنت جحش آخر أزواجه فى العام الخامس الهجرى ، حتى أتت الأحداث عاصفة تباعاً ، فمع انتصاف هذا العام داهم الأحزاب المدينة وحاصروها ، ليعيش أهلها أياماً قاسية ، لتبدأ بعدها أحداث حصار يهود بنى قريظة .

  ومع بواكير العام السادس يغزو الرسول عليه الصلاة والسلام بنى لحيان فى ربيع الأول أو جمادى الأولى مع مائتين من أصحابه ثم يتبعها غزوة ذى قرد ، ولم يمرالشهر أو بعضه ، حتى يبلغه صلى الله عليه وسلم أن بنى المصطلق- وهم حى من خزاعة- يجمعون الجموع لقتاله صلى الله عليه وسلم ، بقيادة زعيمهم الحارث بن أبى ضرار.
   وغزوة بنى المصطلق التى دفع إليها الرسول صلى الله عليه وسلم دفعاً ، فلم يفكر بغزوها ، ولا يعلم من أمر الحارث بن ضرار ولا ابنته شيئاً ، كانت هذه الغزوة على هوان أمرها من الناحية العسكرية ، على عظيم أمرها من نواحى أخرى كثيرة وجليلة .


    وخلاصة الأمر انتهى القتال , بنصر المسلمين حتى سيقت نساء الخزاعيين, ومنهن ابنة زعيمهم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بن حبيب بن جذيمة الخزاعية المصطلقية، وكانت متزوجة من ابن عم لها يقال له مسافع بن صفوان ، وقد قُتل في هذه الغزوة ،  فكانت من نصيب ثابت ابن قيس فكاتبها على مبلغ من المال ثمناً لعتقها , فذهبت جويرية لتجمع ثمن حريتها من الأسر وهى السيدة فى قومها ، فكيف تقاد لتكون سبياً لرجل لم تعرف عنه شيئاً ، ولما لم تفلح فى جمع هذا المال ، سمعت فى أثناء ذلك الكثير عن قائد جيش المسلمين ، وخلقه ، وكرمه ، ونسبه ، فحادثتها نفسها بالذهاب إليه ، وعرض مسألتها عنده ، لعلها تجد حلاً .

   وقفت جويرية الأسيرة ذات العشرين ربيعاً أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى حضور زوجه عائشة ، تعرض مشكلتها لا لتعرض نفسها رغم ملامحها الجميلة ، التى تبهر لب كل ذى عقل ونظر ، فقالت :  (يا رسول الله أنا بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخفَ عليك، فوقعتُ بالسهم لثابت بن قيس ابن شمّاس، فكاتبتُه على نفسي فجئتُك استعينُكَ على أمري)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فهل لك في خير من ذلك)؟ قالت: (وما هو يا رسول الله ؟) قال: ’’أقضي عنك كتابتك وأتزوجك’’، قالت: (نعم، يا رسول الله قد فعلت).
  
   قد يحدث أحدنا نفسه بأن جويرية لم يكن لها خيار فى أن ترفض فقبلت ، وهذا اتهام لخلق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يكن صلى الله عليه وسلم يعلم أنه وقع منها مثل ما وقع فى نفسه ماعرض هذا عليها ، ثم أن جويرية اختارت وذلك فيما رواه ابن سعد في الطبقات أنه لما وقعت جويرية بنت الحارث في السبي ، جاء أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن ابنتي لا يُسبى مثلها ؛ فأنا أكرم من ذاك ، فخل سبيلها ، فقال : ’’ أرأيت إن خيّرناها ، أليس قد أحسنّا ؟’’ ، قال : (بلى ، وأدّيت ما عليك) . فأتاها أبوها فقال : ( إن هذا الرجل قد خيّرك فلا تفضحينا )، فقالت : ( فإني قد اخترت رسول الله صلى الله عليه وسلم ).


  وحين نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جويرية كان ينظر إلى أسيرة ، ولو كانت حرة ما فعل ، ولهذا ذهبت مخاوف عائشة الفقيهة بأحكام الدين  حين قالت:(وكانت امرأة حلو مُلاحة (شديدة الحسن) لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، في نحو العشرين من عمرها. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتستعينه في كِتابتها، قالت عائشة: (فوالله ما هو إلا أن رأيتُها على باب حجرتي فكرهتها، وعَرفتُ أنه سيرى منها ما رأيتُ)  ، إذن فلو كانت جويرية حرة لاطمأنت عائشة نفساً من أن يملأ الرسول عينه منها، إلا أن تتجه نيته إلى نكاحها.


قال "السهيلى" فى الروض الأنف: "وأما نظره عليه السلام لجويرية حتى عرف من حسنها ما عرف، فإنما كان ذلك لأنها امرأة مملوكة، ولو كانت حرة ما ملأ عينه منها .. وجائز أن يكون نظر إليها لأنه أراد نكاحها .. وقد ثبت عنه عليه السلام الرخصة فى النظر إلى المرأة عند إرادة نكاحها.

  دائماً نبحث عن السبب وراء كل زيجة من زيجاته صلى الله عليه وسلم ، وترتاح نفوسنا كثيراً حين يتزوج الأرمل والأكبر منه سناً ، أويقترن بأزواج التى استشهد رجالهن فى الحرب ، ونقبل أن يتزوج الأقل جمالاً ، ونأتى بالسبب السياسى ، والسبب الاجتماعى وراء اقترانه من هذه أو تلك ، وكأنه حرام عليه أن يختار لنفسه ، أو يهز طبيعته البشرية جمال امرأة ، وهو حق مكفول لأقل رجل فى أمته .

   وقد أحسن الشهيد سيد قطب ، بعد أن استعرض قصص أمهات المؤمنين حين قال :  وهكذا ترى أن لكل زوجة من أزواجه صلى الله عليه وسلم  قصة وسببا في زواجه منها . وهن فيمن عدا زينب بنت جحش ، وجويرية بنت  الحارث , لم يكن شواب ولا ممن يرغب فيهن الرجال لجمال كانت عائشة  رضي الله عنها  هي أحب نسائه إليه . وحتى هاتان اللتان عرف عنهما الجمال والشباب كان هناك عامل نفسي وإنساني آخر - إلى جانب جاذبيتهن - ولست أحاول أن أنفي عنصر الجاذبية الذي لحظته عائشة في جويرية مثلا , ولا عنصر الجمال الذي عرفت به زينب فلا حاجة أبدا إلى نفي مثل هذه العناصر الإنسانية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم  وليست هذه العناصر موضع اتهام يدفعه الأنصار عن نبيهم . إذا حلا لأعدائه أن يتهموه ! فقد اختير ليكون إنسانا . ولكن إنسانا رفيعا . وهكذا كان . وهكذا كانت دوافعه في حياته وفي أزواجه صلى الله عليه وسلم على اختلاف الدوافع والأسباب.
 
  كانت جويرية رضى الله عنها بركة على قومها بزواجها المبارك من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ، وما الجديد فى هذا ؟، فقد كان صلى الله عليه وسلم بركة على كل من عرفه واتصل به فى كل مراحل حياته ، مثلما هو بركة على كل من آمن به إلى يوم الدين ، قالت عائشة فيما رواه أحمد فى مسنده: (وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية بنت الحارث)، فقال الناس: (أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا ما بأيديهم)، قالت: (فلقد أُعتِقَ بزواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مائة بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها ).

وبرغم قلة ما نقلته كتب الحديث من مروياتها ، إلا أنه اشتهر عنها أنها كانت صوامة ، ذكارة لله كثيراً ، تحلت بالصبر ، وطول التعبد لله عز وجل ، وليس أدل على هذا من الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بُكرةً حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: ’’ما زلتِ على الحال التي فارقتك عليها؟’’ ، قالت: نعم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ’’ لقد قلتُ بعدكِ أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزِنت بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن "سبحان الله وبحمده ، عدد خلقه ورضا نفسه وزِنةَ عرشه ومِدادَ كلماته’’.

    وهذا الحديث التى كانت فيه أمنا جويرية بركة علينا كما كانت بركة على قومها بطول عبادتها التى استخرجت مثل هذه الكلمات الطيبات ـ الخفيفات على اللسان ، الثقيلات فى الميزان ، الحبيبات إلى الرحمن ـ من الفم النبوى الشريف ، والتى لم نزل نرددها وسترددها الأفواه الطاهرة من أمة الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين .

    توفيت أمنا أم المؤمنين جُويرية في المدينة سنة خمسين، وقيل فى شهر ربيع الأول سنة ست وخمسين للهجرة وهي يومئذ ابنة خمس و ستين سنة في إمارة معاوية، ودفنت بالبقيع ، فصلى عليها مروان بن الحكم وهو يومئذ والي المدينة ، فرضي الله عنها ، وعن أمهات المؤمنين أجمعين.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 110 مشاهدة
نشرت فى 2 سبتمبر 2012 بواسطة elsayedebrahim

ساحة النقاش

السيد إبراهيم أحمد

elsayedebrahim
الموقع يختص بأعمال الكاتب الشاعر / السيد إبراهيم أحمد ، من كتب ، ومقالات ، وقصائد بالفصحى عمودية ونثرية ، وكذلك بالعامية المصرية ، وخواطر وقصص و... »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

70,014