دكتور السيد إبراهيم أحمد

 


  لم تكن تعلم ولا جال بخاطرها يوماً أن تكون زوجاً للرسول صلى الله عليه وسلم فقد كانت فى هذه الأثناء متزوجة من الصحابى السكران بن عمرو الذى روت له رؤياها الأولى التى فيها كأن النبي  صلى الله عليه وسلم  أقبل ماشياً حتى وطئ عنقها، فقال زوجها لها : وَأَبِيكَ لَئِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاكِ لأَمُوتَنَّ وَلَيَتَزَوَّجَنَّكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : حِجْرًا وَسِتْرًا . وهذا قول منها فيه من الموالاة لزوجها فى حضوره ، ففى الأمر رجولة وليس دين ، فموالاتها للرسول ظاهرها وباطنها من حيث هو رسول لا مراء فيها ، أما داخل البيت فالحرة لا تتمنى إلا زوجها ، ولم تكد تأتى ليلةً أخرى حتى رأت ثانيةًً أَنَّ قَمَرًا انْقَضَّ عَلَيْهَا مِنَ السَّمَاءِ وَهِيَ مُضْطَجِعَةٌ ، فَأَخْبَرَتْ بنقائها زَوْجَهَا ، فَقَالَ لها : وَأَبِيكِ لَئِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاكِ لَمْ أَلْبَثْ إِلا يَسِيرًا حَتَّى أَمُوتَ وَتَتَزَوَّجِينَ مِنْ بَعْدِي .


     إنها الصحابية الجليلة، والسيدة النبيلة سودة بنت زمعة ، ذات المكانة المرموقة فى مجتمع نساء قريش ، فهى عامرية قرشية من قبيلة النبى الكريم صلى الله عليه وسلم ، تزوجت ابن عمها السكران بن عمرو ، فأسلما وهاجرا معاً فى الهجرة الثانية إلى الحبشة ، وأقاما فيها دهراً من الزمن هرباً من أذى المشركين وامتثالاً لأمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، ثم عادا إلى أرض الوطن مكة بعد أن أنجبا ستة صبية، ليموت عنها زوجها الصحابى المهاجر بعد وقت قصير من داءٍ ألم به ، لتحيا بعده أرملة وحيدة ذات عيال فى بلد مازالت تعج بأذى طواغيت الكفر ، واضطهاد أهل الإيمان ، فتصبر محتسبة ، معتصمة بإيمانها بالله من فتنة قريبة تحيط بها من والدها القابض على كفره ، وأخوها عبد اللَّه بن زمعة الباقى على دين آبائه، وحاجتها لمن يعينها على أمرها وحاجات أولادها .
     سكن الحزن البيت النبوى بعد فراق الزوج الحنون ، والأم الرؤوم ، خديجة رضى الله عنها ، ليجتمع على الرسول صلى الله عليه وسلم عبءٌ فوق عبء ، فأما عبء الدعوة فكان قد أفرغ له وقته وجهده لأنه كانت هناك من تخفف عنه ما يقاسى فى سبيل ذلك ، وكانت تتحمل عنه عبء الأسرة لتفرغه لما هو فيه ، أما الآن فقد كان عليه أن يقوم بشئون بيته الذى ضم بنتيه أم كلثوم وفاطمة ، وأمر الدعوة أيضاً .
    والوقائع تشهد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجل بخاطره أمر الزواج أبداً و لا عرضه على أحد ،ولم يعرضه عليه أحد، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يطالعون حاله ، ويعلمون كم يقاسى رسولهم صلى الله عليه وسلم ، ويتمنون لو افتدوه بأرواحهم لو كان هذا سيخفف عنه ما هو فيه ، غير أنهم يعلمون أيضاً أن خديجة كانت لها المكانة العظمى فى قلبه وحياته كما هى فى قلوبهم ، فمن ذا الذى سيغامر ويقترح بل ويطرح الحلول على رجلٍ مغمور فى أحزانه ، ولم يبحر قاربه بعيداً عن شاطىء الذكريات مع امرأةٍ عاشها وعايشته قرابة الربع قرن ، كما أنها ليست كأى امرأة ، فليس هناك فى قريش كلها من يماثلها من النساء .
     استأذنت فى الدخول عليه الصحابية الجليلة خولة بنت حكيم زوج الصحابى الجليل عثمان بن مظعون ، فقالت: يا رسول الله كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة، فقال: ’’أجل، كانت أم العيال وربة البيت’’. كان هذا مدخلاً استهلالياً يأتى كمقدمة للخوض فى صلب الموضوع الأهم ، وهذا الاستهلال لا تفلح فيه غير النساء ، ولهذا فقد أتت بمفاجأتها من باب طرق الحديد وهو ساخن حين قالت: أفلا أخطب عليك ؟ وفى رواية : ألا تزوج ؟ قال: بلى ، فإنكن معشر النساء أرفق بذلك. فخطبت عليه سودة بنت زمعة .

  تذكرنا عبارة خولة :( ألا تزوَّج؟ ) بعبارة مبعوثة خديجة نَفِيسَة بنت مُنْيَة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى مطالع الشباب: ( ما يمنعك أن تزوَّج؟) ، الدلالة واحدة ، وهى أن الرسول فى شبابه وفى شيخوخته لم يكن له صلى الله عليه وسلم ذلك النهم الجنسى الذى يلصقه به أصحاب العقول المريضة ، والأقلام المغرضة ، ولا ننكر عليه الميل الغريزى شأنه فى هذا شأن الرجال ، وشأن البشر ، غير أنه فى شبابه امتنع أولاً ، بينما هنا وافق سريعاً لاختلاف الموقفين ، فابنتاه والدار وهو  يحتاجون من يقوم على أمرهم .

 وعندما يأتى ذكر سودة يأتى بالتبعية ذكر عائشة رضى الله عنهما ، فقد عرضتها خولة علي الرسول صلى الله عليه وسلم ، فخطبها وأجل الدخول عليها لعدة سنوات ريثما تكبر ، بيد أن خولة ما أن سمعت الموافقة من الرسول صلى الله عليه وسلم حتى خرجت مسرعة لتبشر بها صديقتها سودة قائلةً : ماذا أدخل الله عز وجل عليك من الخير والبركة ، قالت: ما ذاك ؟ ، قالت : أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك عليه، قالت: وددت ذلك . وتزوجت سودة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسواءٍ أكان أبوها هو الذى زوجها أو الذى زوجها ابن عمها الصحابى حاطب بن عمرو الذى كان من أوائل المهاجرين إلى الحبشة ، وذلك بناءً على طلبه صلى الله عليه وسلم حين جاء يخطبها ، فقالت له: أمرى إليك ، فقال لها :’’ مُرى رجلاً من قومك يزوجك’’.

 شاء الله أن يتحقق لسودة مارأت فى مناميها ، ليكون زواجها من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم نعمةًً من الله عليها وتكريماً لها جزاء ما عانت من الهجرة والتغريب ، وفقد الزوج ، وأذى الأهل ومشركى مكة ، وجزاء إيمانها الصادق بالله ورسوله ، وأن يكون بزواج الرسول صلى الله عليه وسلم منها ، خير برهان أنه كان أبعد ما يكون عن التمتع بملذات الحياة الدنيا ، طمعاً لما عند الله ، فالرسول وإن عاش زمناً طويلاً مع من تكبره بسنواتٍ وسنوات ، فلمَ لما سنحت له الفرصة يرضى بالعيش تارة أخرى مع من تكبره بخمسة أعوام ، وهى أمرأة معيلة ، غير باهرة الجمال؟! ..  أما كان له أن يرفضها حين عرضتها عليه خولة من بادىء الأمر ؟! .. لما لا يسعى للزواج من شابة ؟ وهل نضب معين قريشٍ من النساء الشابات النواهد الأبكار ؟ .. أهذا مسلك يسلكه الرجل المولع بالنساء ..؟!

  كانت رضى الله عنها تعلم أن مقارنتها بخديجة سابقتها فى فراش زوجية الرسول صلى الله عليه وسلم ، تظلمها .. إذن فلا داعى لأن تلقى بالاً بمن سيقارنون ، ويتفاجئون ، ويتساءلون ، حسبها أنها صارت أماً للمؤمنين ، والزوجة التى اختارها الرسول صلى الله عليه وسلم خلفاً لخديجة ، وحسبها أنها اليوم فى ذات الدار التى سكنتها خديجة ، وحسبها أنها ستكون الأم الحانية ، الراعية لبنات النبى وخديجة ، فحسمت القضية لصالحها فأراحت واستراحت، علمت فى قرارة نفسها أنها لن تملأ ذاك الفراغ الهائل الذى تركته خديجة فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم  ، وقد كانت رضى الله عنها ذكية ، لماحة ، عفوية الطباع ، ضاحكة السن ، خفيفة الدم ، فأدركت من فورها ما هو الدور الذى تستطيع أن تضطلع به فى حياته صلى الله عليه وسلم .

 ومثلما عاشت خديجة سنوات عمرها لا يشاركها فى زوجها امرأة أخرى ، منح الله سودة مثل هذا الشرف وإن لم يكن بنفس طول مدة خديجة ؛ إذ عاشت فى كنف النبى صلى الله عليه وسلم نحواً من أربع سنين حتى دخل بعائشة لا تشاركها فيه أخرى ، وهى ماتميزت به وسابقتها السيدة خديجة عن سائر نساء النبى ، وكأنما أراد الله تعويضها عما ينتظرها عندما ستتقدم فى السن ، وورود عائشة ثم حفصة عليها وهما شابتان صغيرتان عنها بكثير ، الأمر الذى سيدفعها لئن تضحى بليلتها فى سبيل البقاء بجوار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .

   لم يكن يصلح بعد خديجة للعيش مع رسول الله سوى سودة ، فقد كانت امرأة كبيرة وواعية، رزان ، مؤمنة ، ومن فواضل نساء عصرها ، ولهذا فلم تكن أماً لبنتيه وحسب بل أيضاً أماً لزوجتيه الصغيرتين ، وتكاد أن تكون أماً له أيضاً ؛ فلم تكدر للرسول صلى الله عليه صفو عيشه ، بل كانت ترضيه كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً ، فقد كانت رضى الله عنها تحبه حباً كثيراً ، وكانت إحدى أحب زوجاته إلى قلبه ، لصلاحها وتقواها ، ومسيرة إيمانها ، ولعلمه بسعيها لإدخال السرورعلى قلبه بما تختاره من كلمات تشيع فى أرجاء نفسه البهجة ، حتى لما فطنت إلى أن مشيتها تضحك الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك من اكتناز جسمها ، كانت تتعمد المشى أمامه لتضحكه أكثر .


     لم تفتعل المشاكل من غيرة بعد زواجه صلى الله عليه وسلم من عائشة ، بل عاش بينهما فى مودةٍ خلقاها حوله كزوجتين صالحتين على الرغم من فرق العمر الذى بينهما .. وذات مرة دخلت عائشة على سودة فجلست ، ورسول الله بينهما وقد صنعت حريرة ، فقالت لسودة : كلي ، فقالت سودة : ما أنا بذائقتها ، فأصرت عائشة : والله لتأكلين منها أو لألطخن منها بوجهك ، فقالت سودة : ما أنا بذائقتها ، تقول السيدة عائشة : فتناولت منها شيئا فمسحت بوجهه ، فجعل رسول الله يضحك وهو بيني وبينها ، فتناولت منها شيئا لتمسح به وجهي ، فجعل رسول الله يخفض عنها ركبته وهو يضحك لتستقيد مني ، فأخذت شيئاً فمسحتُ به وجهي ، ورسول الله يضحك.

   ولم تكن رضى الله عنها تقبل المزاح من عائشة فقط بل ومن حفصة أيضاً ، وقد علمتا عن سودة مقدار إيمانها ، وورعها ، وتقواها ، ومخافة أن يظهر الدجال الذى حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين ، فأخبراها بأن الدجال قد خرج ، فما كان من سودة إلا أن اختبأت في بيت كانوا يوقدون فيه، واستضحكتا ، وجاء رسول الله فقال:’’ ما شأنكما؟ ’’ ،  فأخبرتاه بما كان من أمر سودة ، فذهب إليها وما إن رأته صلى الله عليه وسلم حتى سألته مستفسرةً : يا رسول الله ، أخرج الدجال؟ ، فقال:’’ لا ، وكأنْ قد خرج ’’ فاطمأنّت وخرجت من البيت ، وجعلت تنفض عنها بيض العنكبوت .

    أكرم الله السيدة سودة بنت زمعة بالإسلام فالهجرة مع زوجها الأول السكران إلى الحبشة كمؤمنة من المؤمنات فلقبت بالمهاجرة أرملة المهاجر ، ثم أتم الله عز وجل عليها فائق كرمه حين أصطفاها من بين نساء المسلمين لتكون زوجاً لخاتم النبيين صلى الله عليها وسلم ، لتحظى بلقب أم المؤمنين وتهاجر إلى المدينة بهذا اللقب ويستقبلها صلى الله عليه وسلم فى بيتها الذى بناه لها ، لتنال شرف الهجرتين ، وتكون أم المؤمنين الأولى بالمدينة المنورة ، ويصبح لقبها سودة أم المؤمنين ، المهاجرة وثانى أزواج سيد العالمين صلى الله عليه وسلم.

      كانت السيدة سودة تحمد الله كثيراً على كل هذه النعم التى تفضل بها عليها ، ولهذا لما تقدم بها السن وكانت تعلم فى حنايا نفسها أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما تلطف بها وبحالها حين اختارها زوجاً له ، وما كانت تريد أن تخرج من هذه المعية ، كما كانت تعلم أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم عادلاً ،ويحب أن يقيم شرع الله فى بيته وبين أزواجه ، أليس هو القائل صلى الله عليه وسلم: ’’من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط ’’ وما كان من خلقه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أمته بأمر ولا يلتزم هو به إلا ما كان من خصوصياته ، يشهد بعدله قول عائشة أنها :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندنا, وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها ). فخشيت سودة أن يطلقها صلى الله عليه وسلم ، فصارحته بما فى نفسها لكى تحمل من فوق كاهله مخافة و مظنة التقصير فى حقها : (يارسول الله، لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة) ، وذلك لغرض نبيل أخروى ، من حقها أن تتمسك به :
( أود أن أحشر في زمرة أزواجك ).

        أحبتها عائشة ، واحترمتها وتمنت أن تكون مثلها : ( ما رأيت امرأة أحب إلي أن أكون في مسلاخها – صبرها وهديها وصلاحها - من سودة بنت زمعة من امرأة فيها حدة) ، وقصدت عائشة من الحدة : قوة النفس وجودة القريحة ، ولم ترد عائشة عيب سودة بذلك بل وصفتها وهي الحدة .

     حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنسائه عام حجة الوداع ، ثم قال : ’’هذه الحجة ثم ظهور الحصر’’ ، أى الجلوس في البيوت، وكان كل نساء النبي صلى الله عليه وسلم يحججن إلا سودة بنت زمعة، وزينب بنت جحش، ولا يقدح فى هذا أن عائشة خالفت أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو كانت أقل وفاءً من سودة وزينب ، ولكن الْعُذْر عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا تَأَوَّلَتْ الْحَدِيث الْمَذْكُور كَمَا تَأَوَّلَهُ غَيْرهَا مِنْ صَوَاحِبَاتهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجِب عَلَيْهِنَّ غَيْر تِلْكَ الْحَجَّة ، وَتَأَيَّدَ ذَلِكَ عِنْدهَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :’’ لَكِنَّ أَفْضَل الْجِهَاد الْحَجّ وَالْعُمْرَة ’’ ، وَكَانَّ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مُتَوَقِّفًا فِي تفسير ذَلِكَ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ الْجَوَاز فَأَذِنَ لَهُنَّ ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الصَّحَابَة مِنْ غَيْر نَكِير .
     
       كان إعراض سودة عن الخروج من بيتها ، امتثالاً ووفاءً وتأول منها يدل على مدى حزنها على وفاته صلى الله عليه وسلم ، فلم تزل كذلك حتى توفيت رضى الله عنها في آخر زمن عمر بن الخطاب، ويقال إنها توفيت بالمدينة المنورة في شوال سنة أربعة وخمسون، وفي خلافة معاوية.

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 82 مشاهدة
نشرت فى 1 سبتمبر 2012 بواسطة elsayedebrahim

ساحة النقاش

السيد إبراهيم أحمد

elsayedebrahim
الموقع يختص بأعمال الكاتب الشاعر / السيد إبراهيم أحمد ، من كتب ، ومقالات ، وقصائد بالفصحى عمودية ونثرية ، وكذلك بالعامية المصرية ، وخواطر وقصص و... »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

70,091