والسيارة تدخل متهادية مدار مدينة الحبيب ، كأنها تدلف براكبها حدود كوكب درى مبتورعن جغرافية كل العالم كجزيرة لا يحدها إلا طهورالنور .. يُعَبِّر المسجد النبوى الشريف عن وجوده قبل أن نراه بمئذنتيه الشهيرتين كذراعين من ضياء تناجيان السماء ، فإذا بالروح تسبح فى الملأ القدسى تعلو بالجسد حيث لا جسد و لا كينونة .الزمن البشرى بكل عقارب ساعاته قد توقف داخلى ، واشرأبت كل خلجة منى وكل لمحة فىَّ لتسجل بإنبهارٍ حبيب عظمة تلك اللحظات .
ما كدت أعبرعتبة حرمه الشريف صلى الله عليه وسلم من باب عبد المجيد حتى وقع نظرى على القبة الخضراء الشهيرة التى صارت علماً على المسجد والقبر وساكنه ، فيخفق قلبى خفقاناً يعلو وجيبه ليصم الأذنين فلا أكاد أسمع شيئا ، وحولى زرافات من محبيه وتابعيه وزائريه يرفلون كالملائك فى أزيائهم البيضاء يهرولون للقائه فى شوق محموم .
يملؤنى إحساس غريب بوجوده صلى الله عليه وسلم بأنه فى انتظارنا ببسمته الوضاءة .. يفرش لنا ردائه كيما نتحلق حوله صلى الله عليه وسلم وخبر السماء لازال يتنزل عليه وكأن جبريل لم تنقطع زيارته له ..
أحس بأنه حىٌ فى المدينة مازال دربه موصولاً بين بيته وأحبته ساكنى البقيع يصاحبه غلامه أبا مويهية رحلة العودة بعد أن يسلم ويترحم عليهم .. جميعنا من مختلف الجنسيات ومن شتى البقاع لم نأت لزيارة غائب بل حاضرٌيشتاقنا كما نشتاقه ، والشوق لايكون أعظمه وأوج حرارته إلا بين أحياء وأحياء .
أقف أمام قبره وصوتٌ داخلى يسرى يصاحب خُطُواتى إليه : هنا يرقد حبيبك وشفيعك الذى طالما قرأت عنه وقرأت له أحاديث شريفة غاية فى الإعجاز والبيان والفصاحة ودقة اللفظ دون ابهام أو غموض مع بلوغ الهدف من مراميها بأيسر السبل .. هنا يرقد معلم البشرية الخير ، من تحاول جاهداً أن تتبع سنته وتتأسى بخطاه . هنا قبر الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم .
أقف ..وكل هذه السنحات تمر برأسى . أقف.. وقفة المتهيب فى حضرته صلى الله عليه وسلم ، أنظر خلف تلك المشرفيات . لكأنه رآنى .. أرتعش أكثر . أتهيب أكثر .. ألقى عليه السلام بحبٍ عميق وخشوع ٍ جم .. وكأنى سمعته يرد على َّ السلام الذى عَبَرَ مسامعى وأطرافى وغزا قلبى كسريان النسيم البارد الناعم .. مُرحبّاً بى فى رحابه وحرمه ومسجده وبيته صلى الله عليه وسلم ..
يتحول نظري يمينه صلى الله عليه وسلم ـ ولا يتحول قلبى عنه أبدا ـ فألقى السلام على صاحبيه اللذين آثرا ألا يصاحباه رحلة الحياة وحسب بل ورحلة الممات ليظل الحب موصولاً والأنس غير مجدود ، فلقد كانا ـ رضى الله عنهما وعن سادتنا الصحابة ـ للرسول صلى الله عليه وسلم بمثابة السمع والبصر وأنىَ لبشرأن يستغنى عن سمعه وبصره ..؟!
لم تكن وقفتى عند قبر رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم وقفة للتحية وتمضى بل كلها دروس وعبر مستفادة يتوجها هذا الإخلاص من رجال تدربوا وتلقوا ونهلوا وشربوا وتضوعوا من أريج شجرة ومدرسة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقفة تردك للماضى السحيق قبيل زمن البعثة المباركة لنستطلع فيه حال الخليفتين وما كانا عليه، ثم حالهما فى زمن الهجرة ومقامهما بالمدينة ، والعودة مع فتح الفتوح لمكة المكرمة وصحبتهما للرسول القائد صلى الله عليه وسلم فى الغزوات والمواقف الحرجة التى مرت بها الرسالة ، ليتفجر من كل هذه المواقف تساؤل: ومن لنا بمثل الرجلين، بل ومثل الصحابة الكرام أجمعين رضوان الله عليهم ، لقد مضوا مع زمن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فكأنهم خُلقوا له لزمنه هو ثم آثروا الرحيل .. فهم رجال عشقوا الرجولة حياةً كما عشقوها مماتاً .. وعندما تنظر أمامك ووراءك وتستطلع محيط الكون كله لتبحث عن مثلهم .. فلا والذى سمك السماء لن تجد ، فقد كانواعلوٌ فى الهدف وسموٌ فى الحب لله عز وجل وللعقيدة السمحة ولرسولهم ومعلمهم صلى الله عليه وسلم ، حب لم يشكله اللفظ وحده من خطب رنانة وأقوال جوفاء بقدر ما كان نهجه كل ما هو عملى وفهم عميق لمعنى ومبنى الرسالة التى دانوا بها ؛ فإن دعاهم داعى القتال كانوا أول من قاتل ، أو نادى المنادى بالهجرة لم يتأخروا فهاجروا بحراً وبراً ، أو دعت الحاجة للمال بذلوه هيناً رخيصاً حباً وكرامة لقاء أجرالله تعالى ، يفتدون نبيهم وسيدهم بأرواحهم وأبنائهم وأهليهم إن طلب وإن لم يطلب فكلهم رهن الإشارة ورهن الأمر لا الطلب وحسب ..إنهم العترة المحمدية .. التلاميذ النجباء الأوفياء السابحون فى النهر المحمدى الصافى الفياض الطاهر ، نهلوا من ينابيعه ، وأُشرِبوا تعاليمه ، ووعت عيونهم وجوارحهم وأرواحهم وشغاف قلوبهم أقواله وأفعاله وسكناته وحركاته فتحلقوا حوله صامتين خاشعين كأن على رؤوسهم الطير ليسرى فيهم وبينهم نورُمحمدٍ صلى الله عليه وسلم فينصرفون يصاحبهم النور حتى لتكاد تصافحهم الملائكة فى الطرقات .
ويقطع عبق وقفتى الألسن اللهجى بشتى اللغات واللهجات من شعوب شتى عُرب وعجم كلهم جاءوا من فِجاج الأرض يقرؤنك يا سيدى السلام ويستظلون بروضتك الهنية ويتنسمون روائحك الطاهرة الزكية ويستشرفون آفاق تلك الروح العالية .. وأنت ياسيدى يارسول الله صلى الله عليك وسلم قائماً بينهم لاتمل منهم ولا يملون منك ، يستعذبون وجودك ، ويرفضون مغادرة حضرتك الندية . فإذا فارقوا فالدمع الثخين ينثال لاهباً الخدود مخافة ألا اللقاء بك مرة أخرى .. فيناشدونك أن تطلبهم وتدعوهم إلى مدينتك مرات ومرات .
ويغلق مسجدك ياسيدى أبوابه بعد التسليم من العشاء بوقتٍ قصير ، فنمضى وملء جوانحنا وتحت جنوبنا ومضاجعنا نارالشوق تلهبنا .. فأطل على مآذنك السامقات لا أقطع ما بيننا من حديث ووجد ، وأحياناً ألف ماشياً حول الأبواب كالطير روحاً خفاقة لاتمل ولا تكل .. وهل إلى مزارك ومسجدك جئت لكى أنم ، وهل قطعت تلك الأميال الطوال لتكون مدينتك مضجعى ، بل حرمت على عينىَّ الكرى كى تقر برؤياك ياحبيبى يارسول الله .
لم يكد يسرى آذان الفجر منساباً كالنور فى أنحاء المدينة المنورة حتى دبت الحياة فى الشوارع تقطع سكون الليل حركة دبيب الأقدام المهرولة إلى المسجد النبوى العامر لتؤدى فرض الله ثم تتواصل مع الحبيب صلى الله عليه وسلم حتى تباشيرالصبح لتصل ماانقطع من حديث ووجد ما انقطع أبداً .. فأنت يارسول الله فينا قائماً، حياً داخلنا ، فوالذى نفس محمدٍ بيده لم تغب عنا حتى ونحن فى بلادنا وبين ظهرانينا وداخل ديارنا وبين الأهل نتعطر بذكرك ، ونتذكر مآثرك ، وندعو بدعائك المأثور ، ونتدثر بنورك ، ونستشفع بك صلى الله عليه وسلم فى دعائنا لربنا سبحانه وتعالى .
وها قد دعا داعى الرحيل وعلىَّ أن ألملم شتاتى لرحلة العودة ، فأستثقلت الخطوات التى كانت تهرول إليك مسرعة ومالها لاتفعل فقد أتت تحمل صاحبها مودعة ، ولست أحسن حالاً منها فالدمع يذيبنى والحسرة تملك مجامع قلبى خوفاً ويأسا كى لا ألقاك بعدها ولكم تمنيت الموت بالمدينة وأنا فيها إعمالاً لقولك صلى الله عليك وسلم : ’’ من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل فإني أشهد لمن مات بها ’’. حتى لا أفارق ديارك أو أبرح مدينتك ، ولكن وجب الرحيل فوجب الوداع ووجب أن أقول بملْ القلب : السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته .. السلام عليك يا سيدى يارسول الله .. السلام عليك يا خير خلق الله .. السلام عليك يا من أرسله ربه عز وجل رحمة للعالمين .. السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين وإمام المتقين ، وقائد الغر المحجلين .. السلام عليك يا من وصفه الله بقوله : ’’ وإنك لعلى خلق عظيم ’’ وبالمؤمنين رؤف رحيم .. السلام عليك وأسألك الصحبة . وأسألك مرافقتك بالجنة .. فاللهم عوداً إليك .. حباً وكرامة واقتداء .. عليك يا رسول الله ومن مجامع قلبى الذى ينبض بحبك وحدبك عليك الصلاة وأزكى السلام .
ساحة النقاش