لم يتحمل شعب من شعوب مصر مثلما تحمل شعب السويس من غطرسة وازدراء الرئيس السابق مبارك ، فالرجل منذ توليه الحكم وكأنه أقسم مع أداءه اليمين الدستورى ألا يزور محافظة السويس أبداً وطالما كان رئيساً لتلك البلاد ، وبر الرجل بقسمه . فهذه المدينة المدللة فى عهد عبد الناصر وزارها ربما فوق الست مرات وقابله شعبها بحفاوة وحب شديدين ، لم يحظ منهما خلفه السادات بمثلهما مع أن السويس كانت أثيرة لديه فى بداية عهده ، ولكنها لما تدللت عليه هجرها إلى الإسماعيلية التى عشقها حتى النخاع ، وكأن الله يقتص للرجل بأن سلط على السويس من تولى بعده فهجرها هو الآخر هجراً غير جميل .
ثلاثون عاماً مضت والرجل على عناده وغطرسته ، يأتى حتى مقر الجيش الثالث الميدانى أكثر من مرة عند مشارف المدينة، وتأبى خطواته إلا النكول والنكوص مولياً خلفه الديار والأهل عطشى لمروره الكريم على أرضها وديارها ، ثم يأتى مفتتحاً عدد من المشروعات عند أطراف خليجها ، فيأبى إلا أن يحط رحاله طائراً محلقاً فى سماواتها بعيداً عن ثراها ، حتى سرت فى أذهان الناس إشاعة مؤداها إن إحدى العرافات همست فى أذن الرئيس أن مصرعه سيكون بالسويس ، فأقسم الرجل فى سريرته ألا يطأها مادام حياً .
كبر الحاجز النفسى بين الشعب ورئيسه وحزبه فلم يكونوا ينتخبوا مرشحيه سواء فى المحليات أو مجلس الشعب ، فأوغروا صدر الرجل أكثر فزاد مقتاً وسخطاً على السويس وأهلها ، ولما أتى الراحل الرائع اللواء أحمد تحسين شنن محافظاً من قبله عليها أحبه شعب السويس حباً لم يحبوه لمحافظٍ قبله سوى الراحل حامد محمود فى العهد الناصرى ، وبلغ من حبهم لشنن أن اختاروا مرشحى الوطنى إرضاءً لشنن وحباً فى استبقائه بينهم مخافة أن يسببوا له حرجاً مع النظام . والرجل فى قلعته بالقاهرة نقل له البصاصون هذا الحب المتبادل بين المحافظ وشعبه ، فأبى إلا أن يفسد عليهم فرحتهم فعزل الرجل لأنه كان محسوباً على المشير الغزالى رحمه الله ، فأوغر صدور السوايسه عليه وزاد مقتهم وسخطهم خاصةً وأن من ولاهم بعد شنن لم يلقوا ترحيباً يذكر من شعب السويس وآخرهم اللواء سيف الدين جلال الذى يبغضونه كبغض مبارك بل أشد .
فهذا (السيف) خدع شعب المحافظة حين أخبرهم بأن سلطان البلاد لن يرضى عنهم حتى ينتخبوا أعضاء الوطنى فى مجلس الشعب ، وصدق الناس وعدهم معه ، غير أن الأمر لم يتغير ، فلما سألوه السبب ، أجابهم بأن السلطان رأسه وألف سيف أن يختاروا المحليات أيضاً كذلك ، وفعل الناس إرضاءً لجناب السلطان ، لكن الأمر لم يتغير ولم يدخل الرجل البلاد ويطل بسحنته الجميلة على العباد ، فأضمرها الشعب فى نفسه .
جاء المجلس الأخير ـ ما قبل المزور ـ فانتخب الشعب عن بكرة أبيه أعضاء الإخوان وأسقطوا أعضاء الوطنى فصرخ السلطان من قاهرته غضباً حتى وصلت صرخته أعماق القناة غير أن لا الشعب ولا السمك اهتم بأمره ، فسأل وزيره العادلى ما العمل ياوزير ؟! .. وتفتق ذهن الوزير النحرير فأطلق العسس والبصاصين فجالوا وصالوا خلال الديار من رجال مرور وكمائن ولجان مكبرة تأتى من مصر المحروسة بغتة فتهجم على المحلات وهاتك يا غرامات ، وعلى السيارات أتلال من المخالفات ، وقضايا إغلاق ، وسجن وسحل و مطاردات للشباب المتدين من رجال أمن الدولة لأنهم عندهم كلهم أخوان .
ضج الناس بالشكوى .. ولا مجيب ، اعتصامات أمام مبنى المحافظة .. والسيد المحافظ يدخل ويخرج وكأنه لايراهم ، رائحة فساد تزكم الأنوف وتعمى العيون والمحافظ وحاشيته سادرون ماضون فى غيهم فلا رقيب ولا حسيب ، حتى كانت القشة التى قصمت ظهر الجميع بهذا المجلس المزور الذى أطاح بالشرفاء ليأتى بمن تعود الشعب فسادهم من المقربين للسيد المحافظ ، ووجوه جديدة سيرة بعضهم وبعضهن لاتبعد بعيداً عن مدار خط الشبهات .
وانفجرت السويس .. الباسلة .. الصابرة .. فاستشهد شبابها .. ولم يكن غريباً عليها الاستشهاد .. وثأرت لنفسها من مبارك ونظامه ورجاله .. وصور الانتقام والثأر نقلتها كاميرات الدنيا ، وأعادت المدينة اسمها لتنطقه الشفاه بكل اللغات وهى المعروفة بقناتها ، وفى الأدبيات السياسية مشهورة بحرب السويس وأزمة السويس ، لتنتقم من غطرسة رئيس طالما طردها من أحلامه ومن كلامه ومن مناسباته ، فطردته هىَّ بكبريائها وشموخها ليس من أحلامها وأمانيها فقط بل من كرسيه وقصره وسلطاته ، ومثلما نحاها عنه مختاراً تنحى هو مكرهاً ومجبراً ، وذهب الرئيس وبقيت السويس .
ساحة النقاش