وقد رأى بعض المراقبين في نتيجة الاستفتاء انتصارا للتيار الإسلامي الذي دعا إلى الموافقة على التعديلات وهزيمة للقوى العلمانية التى طالبت برفضها،إلا أنه يمكن القول بأن الفائز الحقيقي هو المجلس العسكري الذى حصل على شرعية ودعم شعبيين لرؤيته لإدارة المرحلة الانتقالية في مواجهة اعتراضات قادة التحرير، ولعل رغبة المجلس في الحصول على هذا الدعم ما دفعه إلى حث المواطنين على المشاركة بكثافة في الاستفتاء كما خصص الإعلام الرسمي مساحة كبيرة للشخصيات المؤيدة للتعديلات.
وإذا كان التنافس على الشرعية وسلطة اتخاذ القرار بين المجلس العسكري و ميدان التحرير أهم ملامح المشهد السياسي المصري في الثلاثة أشهر الماضية فإن استمرار الاحتجاجات الشعبية على خلفيات اقتصادية واجتماعية شكلت أكبر تحد للطرفين وأيضاَ للإخوان المسلمين، حيث مثلت العقبة الأبرز أمام جهود المجلس العسكري لخلق حالة من الاستقرار تسمح بعودة الاستثمارات الأجنبية، وفيما يتعلق بقادة ميدان التحرير وبالإخوان فقد أثبتت هذه الاحتجاجات عجزهم عن التحكم في إيقاع التحركات الشعبية خاصة وأن هذه الاحتجاجات استمرت على الرغم من إعلان الإخوان و قادة التحرير تعليق مظاهراتهم الأسبوعية دعماَ لما أطلقوا عليه حكومة الثورة، وهو ما حرمهم من إمكانية احتكار الحديث باسم الشارع المصري أو الادعاء بأنهما يمثلان كافة قطاعات المجتمع، ولعل خطورة هذا التحدي هو ما دفع الأطراف الثلاثة إلى معارضة هذه الاحتجاجات والدعوة إلى وقفها ومحاولة التقليل من شأنها بوصفها بالفئوية، وهومايحمل ضمنيا اتهام للقائمين عليها بتغليب مصالحهم" الضيقة" على" الصالح العام" الذي تمثله هذه الأطراف بل ووصل الأمر بقادة التحرير والإخوان إلى الزعم بأن بعض هذه الاحتجاجات جزء مما وصفوه بالثورة المضادة، وبغض النظر عن صحة هذا الاتهام السياسي من عدمها فإن هذه الاحتجاجات تبرز محورية المسألة الاجتماعية في مجتمع تعاني قطاعات واسعة فيه من الفقر ونقص الخدمات الأساسية وتكشف عن أن أى تغيير سياسي لا يواكبه إعادة توزيع للثروة لن يملك فرصاَ كبيرة للنجاح، ومما يثير القلق أن ما رشح عن التوجهات الاقتصادية لما أطلق عليه حكومة الثورة يشير إلى استمرار تبني التوجهات التي حكمت السياسات الاقتصادية المصرية منذ منتصف سبعينات القرن الماضي من حيث الاعتماد بشكل رئيسي على الاستثمارات الأجنبية لتمويل عمليات التنمية والتركيز على القطاعات الريعية والمضاربات المالية، كما أن تصريحات وزير المالية الجديد الرافضة للضرائب التصاعدية جاءت مشابهة لما كان يردده سلفه الهارب. ويشكل تجريم الإضرابات والاعتصامات بدافع حماية الاقتصاد استمراراَ للرؤية التي ترى في تلك الأشكال النضالية سبباَ للأزمات الاقتصادية لا نتيجة لها وامتدادا لنهج مبارك و سلفه في تحميل الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية النتائج المدمرة لسياسات لم تشارك في وضعها واستفاد منها أخرون.
وتعد عودة الاحتقان الطائفي في شكل عدد من الهجمات التي نسبت لمجموعات سلفية ضد كنائس وضد بعض المواطنين المسيحيين إضافة إلى الاشتبكات الدموية بين مجموعات من المسلمين وأخرى من المسيحيين في القاهرة والجيزة في مطلع الشهر الحالي وفي مارس الماضي ثالث أبرز ملامح المشهد السياسي المصري الراهن. أما أخطر مظاهر هذا الاحتقان فتمثل في الاصطفاف الطائفي الذى ميز الاستفتاء على التعديلات الدستورية وتنبع خطورة التوترات الطائفية من أنها قد تتطور بمرور الوقت إلى صراع طائفي خاصة إذا تشكلت أحزاب ذات توجهات طائفية، وهو ما قد يهدد في حال حدوثه بفتح الباب على مصراعيه أمام التدخلات الخارجية في شئون البلاد الداخلية. واعتمدت الحكومة الجديدة حتى الآن في معالجتها لتلك الأحداث نفس الأسلوب الذي اتبعته حكومات مبارك من حيث عقد لقاءات بين القيادات الدينية والشخصيات العامة من الطرفين دون وضع تصور لحل هذه القضية بشكل جذري. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن النظام المصري قد لعب منذ سبعينات القرن الماضي دورا كبيرا في إشعال الفتنة الطائفية في البلاد، بل يمكن القول أن الطائفية كانت الأيديولوجية الغير معلنة للنظام خلال مرحلة طويلة لتمرير التغيير في التوجهات الداخلية والخارجية بحيث حل الخطاب الطائفي محل لغة التحالف الطبقي وتم استبدال "عدو" من داخل الوطن بالعدو الخارجي.
والاستعراض السابق للمشهد السياسي المصري يوضح أمرين:
- أولهما أن السياسات الاقتصادية ما بعد مبارك تمثل حتى الآن امتداد للتوجهات الاجتماعية التي سادت في مصر منذ أن بدأ الانفتاح الاقتصادي في سبعينات القرن الماضي
-والأمر الثاني هو أنه على الرغم من تصريحات وزير الخارجية نبيل العربي الناقدة لإسرائيل والمنفتحة على إيران بما يعكس رغبة في إعادة صياغة السياسة الخارجية المصرية4 أن السياسات الإقليمية وفي مقدمتها التحالف الإستراتيجي بين مصر والولايات المتحدة وإسرائيل والقائم منذ عهد السادات لم تكن أحد محاور الحراك السياسي في البلاد في الفترة الماضية، وهوما يعكسه العدد الصغير-والذي لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة- من المظاهرات المعادية لإسرائيل خلال الثلاثة اشهر الماضية والمشاركة الشعبية المحدودة نسبيا بهذه المظاهرات5. وقد يرى البعض في ذلك أمرا طبيعيا في ضوء ما يعتبره أولوية القضايا الداخلية على السياسات الخارجية خلال الفترات الانتقالية مستشهداَ بما حدث في دول أوروبا الشرقية، ولكن مثل هذا الفهم يقوم على فصل تعسفي وغير مبرر بين النوعين من القضايا والسياسات وقراءة غير دقيقة لما حدث في أوروبا الشرقية حيث كانت الرغبة في التخلص من الهيمنة السوفيتية أحد أهم دوافع الثورات هناك كما كان التحول في السياسات الخارجية والتحالفات الدولية لهذه الدول أحد أسرع نتائجها.
(2) ثورة أم قيصرية؟
كان التحالف الإستراتيجي مع الولايات المتحدة وإسرائيل إحدى أكثرسياسات الرئيس المصري السابق تعرضاَ للإنتقاد من قبل المعارضين له وهو ما عكسته شعارات المعتصمين التي سبق الإشارة إليها في المقدمة، وقد زاد الدعم الأمريكي -الإسرائيلي لمبارك في بداية الأزمة واستخدام قوات الأمن ذخيرة وأسلحة أمريكية الصنع لقمع الانتفاضة الشعبية من غضب المتظاهرين على الدولتين، وعلى الرغم من ذلك لم تحظ هذه السياسة بأى مراجعة نقدية جدية حتى الآن بل تحول الغضب من الموقف الأمريكي الداعم لمبارك إلى احتفاء بإشادة اوباما البلاغية بالشباب المصري وترحيب بالمسؤولين الأمريكيين الذين زاروا مصر عقب سقوط مبارك، أما الملف الإسرائيلي فقد تم اختزاله بشكل كبير في قضية إهدار مال عام تتعلق ببيع الغاز بأسعار أقل من مثيلتها العالمية. وينسجم هذا التحول بما رصدناه في الجزء السابق من هذا المقال من استمرارية في تبني الرؤى الاقتصادية والاجتماعية التي سادت خلال حكم مبارك وعدم القطيعة معها والاكتفاء بمحاكمة رموز عهد مبارك بما فيهم الرئيس وأسرته بتهم فساد، وسنحاول في هذا الجزء تحليل العوامل التي جعلت الأحداث تأخذ هذا المنحى، وتتعلق بعض هذه العوامل بطبيعة الهبة الشعبية التي بدأت في الخامس والعشرين من يناير الماضي وبالكيفية التي أنهيت بها الأزمة السياسية التي نتجت عنها بالإضافة إلى عوامل خاصة بالقوى والحركات التى تصدرت المشهدين السياسي والإعلامي في مصر بعد خروج مبارك من الحكم .
تميزت الهبة الشعبية ضد الرئيس المصري السابق بالعفوية الشديدة وعدم تبني خطاب أيديولوجي واضح نتيجة عدم وقوف أي تنظيم سياسي بعينه خلفها، وقد انعكس ذلك في الشعارات التي رفعها المتظاهرون والتي جاءت في مجملها عامة لا تحمل أى مضمون محدد بإستثاء مطلب واحد هو رحيل الرئيس، ولعل ذلك شكل عامل قوة وعامل ضعف في آن واحد فلم يكن بمقدور أى شعار أيديولوجي أو تنظيم من التنظيمات الموجودة على الساحة أن يحشد ويوحد الملايين التي انتفضت ضد مبارك، وفي المقابل فإن غياب تنظيم سياسي ذي برنامج واضح وقدرة على قيادة الجماهير حال دون استيلاء المتظاهرين على السلطة على الرغم من الانهيار السريع لقوات الأمن بحيث يمكن القول بأنها كانت المرة الأولى في التاريخ التي تنزل فيها الجماهير إلى الشوارع بتلك الأعداد الغفيرة دون أن تستولى قيادتها على الحكم وهو ما أشار إليه أحد أعضاء المجلس العسكري في سياق مقارنته بين ثورة23 يوليو 1952 والانتفاضة الأخيرة بقوله "ما حدث في عام 1952 هو بالفعل شرعية ثورية لأن حركة الضباط الأحرار في عام 1952 هى التي قامت بالثورة وهى التي تولت مقاليد الحكم...الآن لدينا ظروف مختلفة فالثورة التي قامت في 25 يناير 2011 ليست هي التي تولت الحكم"6 .والمفارقة الأكبرفي هذا المجال هو أنه لم تجرحتى محاولة للاستيلاء على الحكم واكتفت الجماهير بالاعتصام في الميادين في انتظار إزاحة الجيش لمبارك بأسلوب أقرب لما حذر منه سليمان عنه لسيناريو ثورة شعبية، وهو ما شكل اعترافاَ بعجزها عن القيام بذلك وحدها بحيث يمكن القول أن ما حدث نموذج واضح لما وصفه جرامشي بالقيصرية والتي تنتج في حال عجز أى من القوتين المتصارعتين عن حسم الصراع لصالحها بما يسمح بتدخل قوة ثالثة تنصب من نفسها قيصراَ على ما تبقى من القوتين وحكماَ بينهما7. ويتماشى فهم جرامشي لهذه الظاهرة مع توصيف المتحدث باسم المجلس العسكري لموقف الجيش من المعتصمين والرئيس السابق الذي أشرنا إليه في الجزء الأول وما أكده في نفس الحديث من أن "القوات المسلحة لاتفرق أو تفضل فئة على أخرى أو ديناَ على دين أو حزباَ على حزب ولكننا نفضل وننحاز للوطن فقط."8، والأهم أن توصيف الوضع الحالي في مصر بالقيصرية يساعد على تفسير الطبيعة التوفيقية للإجراءات التي اتخذها المجلس العسكري حتى الأن فالمجلس اتخذ من دستور 1971 والذى شكل في آن واحد أساس نظام مبارك-السادات وأحد مصادر شرعية المجلس نقطة الانطلاق لرؤيته الخاصة للفترة الانتقالية ثم بدأ في ادخال تعديلات عليها مسترشداَ في ذلك بمطالب المعارضة في الماضي القريب، ولما كانت هذه المطالب قد قدمت أثناء وجود الرئيس السابق في الحكم فقد جاءت إصلاحية تركز على تخفيف القيود المفروضة على العمل السياسي والحد من صلاحيات الرئيس لا جذرية تهدف إلى تغيير توجهات النظام. وعلى الرغم من تأكيد المجلس العسكري المتكرر على نيته في تسليم السلطة إلى المدنيين إلا أنه من المستبعد خروجه تماماَ من الحياة السياسية والاقتصادية للبلاد قريباَ ليس فقط لأن ذلك يتنافى مع الدور المحوري الذي لعبته المؤسسة العسكرية في المجتمع المصري والحركة الوطنية منذ القرن التاسع عشر وخاصة بعد ثورة يوليو 1952 ولكن الأهم أن ذلك يتعارض مع فهم المجلس العسكري الحالي للدور الذي أناطه الدستوربالقوات المسلحة من حماية البلاد، وإذا كانت المؤسسة العسكرية رأت أن ذلك يتضمن التد خل لوقف خصخصة أحد البنوك وذلك في ظل وجود مؤسسة رئاسة راسخة يقودها أحد أبناء المؤسسة العسكرية فأنه من الآحرى أن يتوسع المجلس العسكري في ممارسة هذا الدور الآن وإلى أن تتكون مؤسسات مدنية قوية وهو ما سيستغرق بعض الوقت، لذا لن يكون مفاجئا أن يضطر المجلس العسكري إلى لعب دور القيصر-الحكم بين التيارات السياسية المختلفة حتى بعد استلام المدنيين للسلطة أو أن تستمر العلاقة القائمة حالياَ بين المجلس العسكري وحكومة عصام شرف حتي بعد انتخاب برلمان وتشكيل حكومة جديدة بحيث يرسم المجلس الإطار العام لسياسات الدولة ويحتفظ لنفسه بحق نقض قرارات الحكومة المدنية بينما تتولي الحكومة وضع وتنفيذ سياسات لا تتعارض مع الإطار العام الذي حدده المجلس.
وحالت الأوضاع الحالية للتيارات السياسية المعارضة لبعض أو لمجمل سياسات النظام السابق من طرح مطالب أكثر جذرية سواء فيما يتعلق بالمسألة الاجتماعية أو السياسات الإقليمية على المجلس العسكري أو حتى على الرأي العام، فغالبية مكونات التيار الإسلامي على سبيل المثال وفي مقدمتها الإخوان المسلمين منشغلة بإعادة ترتيب أوراقها بما يتناسب مع التطورات الحالية على الساحة السياسية والتي وإن منحت للتيار الإسلامي الفرصة للعمل بحرية وبطريقة علنية لم تتوفرا له من قبل إلا أنها في المقابل وضعته في مواجهة بعض التحديات غير المسبوقة حيث أصبح مطالباَ بترجمة شعار الإسلام هو الحل إلى برامج سياسية واقتصادية قابلة للتنفيذ، كما أن غياب القمع الأمني الذي لعب في الماضي دوراَمؤثراَ في الحفاظ على وحدة الإخوان المسلمين سيرغم قياداتها على التعاطي بطريقة مختلفة مع مطالب الإصلاح التي رفعها العديد من كوادرها لتفادي انشقاقات جديدة عن الجماعة. والتحدي الأخطر الذي سيواجه التيار الإسلامي في المرحلة المقبلة هو التنافس بين أحزابه على الحديث بإسم الإسلام خاصة مع التباين الشديد في مواقفها المعلنة من عدد من القضايا وهو ما قد يؤدي بمرور الوقت إلى اضعافها جميعاَ، أما أكثر التحديات آنية فهو توجس بعض قطاعات المجتمع المصري من التيار الإسلامي. وزادت بعض تصريحات و ممارسات السلفيين الأخيرة من مخاوف هذه القطاعات إضافة إلى ترقب الغرب لموقف الإسلاميين من بعض الملفات الداخلية والخارجية، ولم يغب بالطبع عن الإسلاميين المصريين المواقف التي اتخذها الغرب من جبهة الإنقاذ بالجزائر ومن حركة حماس على الرغم من فوزهما في الإنتخابات التشريعية، وأدت تلك العوامل إلى وضع التيار الإسلامي في موقع دفاعي معظم الوقت حيث اهتم المتحدثون باسمه بنفي تهمة التطرف عن أنفسهم وتأكيد عدم رغبتهم في الاستئثار بالحكم أكثر من اهتمامهم بطرح بدائل لسياسات النظام السابق، بل وذهب الإخوان إلى حد التخلي عن بعض المواقف التي اعتنقوها لسنين طويلة مبررين ذلك بتأثير تجربة اعتصام التحرير- التي لم تتجاوز ثمانية عشر يوماَ- على أفكارهم السياسية!
أما التيارين القومي والماركسي فيعانيان منذ سنوات من التشرذم والصراعات الداخلية، كما خسر التياران الكثير من الكوادر الذين تم استقطابهم من قبل المنظمات غير الحكومية ذات التوجهات الليبرالية. وأثرذلك بالسلب على قدرتيهما على التأثير بفاعلية في توجهات السياسة المصرية خلال هذه المرحلة على الرغم من الأوضاع المحلية والدولية المهيأة لممارستهما دوراَ محورياَ، فالسياسات الليبرالية الجديدة التي تبناها نظام مبارك أدت إلى إفقار الملايين من المصريين وتركيز الثروة في يد طبقة صغيرة الحجم، وكانت أوضاع مماثلة سبباَ في صعود شعبية التيارات اليسارية والقومية في دول أخرى بل وإلى وصولها إلى الحكم في عدد من دول أمريكا الجنوبية. وجاء الانهيار المالي الذي شهدته دول المركز الرأسمالي في نهاية العقد الماضي ليؤكد النتائج الكارثية لتلك السياسات حتى على الاقتصاديات المتقدمة، ولم يعد هذا الانهيار فقط الاعتبار إلى النماذج التنموية التي تلعب فيها الدولة دوراَ محورياَ بل وأثبت عجز الديمقراطية الليبرالية عن حماية المواطنين من تغول ما أسماه الاقتصادي المصري الراحل رمزي زكي بالرأسمالية المتوحشة بل وحتى معاقبة الأخيرة عند خروجها على القانون9، وترافق مع تراجع الهيمنة الفكرية لليبرالية الجديدة انحسار الهيمنة الاقتصادية والسياسية الأمريكية نتيجة تصاعد النزعات الاستقلالية عند الكثير من الحكومات في آسيا وأمريكا الجنوبية وهي كلها تطورات تصب -ولو نظرياَ- لمصلحة اليسار بجناحيه الماركسي والقومي، وهوما يجعل تبني المتحدثين بإسمه خطاباَ يركز على الإصلاح السياسي ويهمش المسألة الاجتماعية والسياسات الإقليمية إلى الحد الذي يصعب معه تمييزه عن خطاب القوى الليبرالية أمراً مثيراَ للدهشة خاصة و أن الخطاب اليساري تميز تاريخياَ بالربط ما بين تلك القضايا، كما أن مشاركة شباته وشبابه في الانتفاضة على مبارك جاءت انطلاقا من مفاهيم معادية للرأسمالية والامبريالية والصهيونية.
وقد أدت الظروف الحالية التي يمر بها الإسلاميون واليسار بجناحيه إلى هيمنة الخطاب الليبرالي على الساحة السياسية المصرية في الثلاثة أشهر الماضية، ويمكن القول أن هذه الهيمنة كانت من الأسباب الرئيسية وراء تهميش المسألة الاجتماعية والقضايا الإقليمية في النقاشات الحالية. فالخلاف الرئيسي بين القوى الليبرالية ونظام مبارك ينحصر في ملفى الإصلاح السياسي وحقوق الإنسان، أما فيما يتعلق بالتوجهات الاقتصادية والاجتماعية فالاختلاف -إن وجد- يتمثل في معارضة القوى الليبرالية للأسلوب والوتيرة التي تمت بها عمليات الخصخصة وما اعتراها من فساد لا لسياسات التكيف الهيكلي في حد ذاتها، وبالنسبة للسياسات الإقليمية فمواقف القوى الليبرالية من الصراع العربي-الصهيوني مثلاَ تتفق مع توجهات نظام مبارك ولاتتجاوز صيغة حل الدولتين بل إن رموز التطبيع وأعلى الأصوات رفضاَ لخيار المقاومة في مصرتنتمي إلى المعسكر الليبرالي. وتمكن الخطاب الليبرالي من فرض هيمنته من خلال قوتين غير حزبيتين اكتسبتا حضوراَ كبيراَ على الساحة المصرية في السنوات الأخيرة هما رجال الأعمال ومنظمات حقوق الإنسان. ويسيطر عدد صغير للغاية من كبار رجال الأعمال على ما يطلق عليه في مصر الصحف المستقلة والقنوات الفضائية، ولما كان هؤلاء وغيرهم من كبار رجال الأعمال كونوا ثروات طائلة بفضل السياسات الليبرالية الجديدة التي تبناها مبارك وتحالفاته الدولية بل إن بعضهم كون ثروات من خلال علاقات شراكة مع نظرائهم الإسرائيليين فإنه كان من الطبيعي أن يحرصوا على أن يقتصر التغيير على الإصلاح السياسي والأشخاص دون أن يمتد إلي التوجهات السياسية للنظام، وهو ما عبرت عنه دعوة أحد أبرز رجال الأعمال المصريين في اليوم السابق على سقوط مبارك إلي فض اعتصام التحرير والاكتفاء بالخطوات الإصلاحية التي وعد بها الرئيس السابق10. ولعبت وسائل الإعلام المملوكة لرجال الأعمال دوراَ كبيراَ بعد سقوط مبارك في دفع النقاش العام في هذا الإتجاه من خلال تخصيص مساحة كبيرة للقوى والشخصيات الليبرالية دون غيرها لطرح أفكارها ورؤاها وهو ما أدى إلى أن يتركز االجدل على نوع النظام السياسي المناسب للبلاد في المرحلة المقبلة والعلاقات ما بين السلطات المختلفة في المستقبل وتهميش المسألة الاجتماعية والقضايا الإقليمية والترويج لفكرة أن الانتفاضة على نظام مبارك كانت ذات طبيعة ليبرالية تهدف فقط إلى توفير الحريات السياسية.
وساهمت منظمات حقوق الإنسان من خلال التركيزعلى الحقوق السياسية والمدنية وتهميش الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على مدى ما يقرب من عقدين في تعزيز حضور الخطاب الليبرالي في مصر.وتملك هذه المنظمات بنية تنظيمية قوية وعدد كبير من الكوادر المدربة سواء بالداخل أو بالغرب، كما تتوافر لديها قدرات مالية جيدة بفضل التمويل الذي تحصل عليه من هيئات أمريكية وأوروبية تمكنها من التأثير في الساحة السياسية بشكل يفوق قدرة العديد من الأحزاب والقوى السياسية. وقد لعبت تلك المنظمات دوراَ هاماَ في كشف وتوثيق انتهاكات الحقوق السياسية والمدنية في عهد مبارك وإن انتقدها البعض للتعاون مع هيئات تمويل تعتبر من أدوات السياسة الخارجية الأمريكية مثل الصندوق الوطني للديمقراطية ومؤسسة فورد11، وما اعتبره البعض تطبيعاَ من خلال قيام عدد منها بالترويج لما سمى بثقافة السلام والمشاركة في لقاءات مع شخصيات ومنظمات إسرائيلية. ويهدد استمرارهذا التعاون ما بين المجتمع المدني المصري و تلك الجهات بإمكانية إعادة إنتاج بعض سياسات عهد مبارك أو في الحد الأدنى وضع العقبات أمام محاولات تبني توجهات سياسية جديدة بطريقة مشابهة لما قامت به منظمات غير حكومية في دول أخرى شهدت انتفاضات شعبية اطاحت بديكتاتوريات موالية للولايات المتحدة ثم اقتصر التغيير فيها على إقامة ديمقراطية بولياركية تفصل وتوازن بين السلطات المختلفة وتنهي احتكار حزب سياسي بعينه للسلطة مع استمرار الهيمنة الأمريكية والعلاقات الاجتماعية التي كانت قائمة في ظل الديكتاتوريات السابقة12. ولتفادي تكرار هذا السيناريو في مصر من الضروري خلق آليات رقابة شعبية على عمل تلك المنظمات والتي فرضت نفسها كمتحدث باسم المجتمع دون أن ينتخبها أحد ودون أن تمارس الديمقراطية داخلها ناهيك عن أنواع الفساد المختلفة التي تستشري في الكثير من هذه المنظمات، وإذا كان التضييق الأمني الذي مارسه نظام مبارك سبباَ في لجوء هذه المنظمات للتعاون مع جهات ذات تاريخ حافل في خدمة السياسات الأمريكية بحثاَ عن الدعم المالي والحماية السياسية ومبرراَ لغياب الشفافية والمشاركة الشعبية في عمل تلك المنظمات فإن تلك الذريعة سقطت الآن وأصبحت تلك المنظمات قادرة إن أرادت على فك ارتباطها بتلك الجهات، كما أصبحت مطالبة بتطبيق معايير الشفافية والديمقراطية والتمكين والمشاركة الشعبية وغيرها من المعايير التي تطالب الأخرين بالالتزام بها.
خاتمة
دشن انقلاب السادات على شركاءه في الحكم ممن وصفهم بمراكز القوى في الذكرى الثالثة والعشرين لنكبة فلسطين نهجاَ جديداَ في السياسة المصرية في الداخل والخارج، وتكرس هذا النهج في عام 1974 الذي شهد فض الاشتباك بين الجيشين المصري والإسرائيلي في سيناء وبداية الانفتاح الاقتصادي، وتوجت زيارة السادات للقدس المحتلة والتي جاءت في أعقاب انتفاضة شعبية كادت أن تطيح به هذا التغير، بينما أرسى الصلح المنفرد الذي وقعه السادات في عام 1979 للمعادلة التي ظلت تحكم السياسة المصرية منذ ذلك الحين. وقامت تلك المعادلة على الاعتراف بإسرائيل والانخراط في المشاريع الأمريكية للمنطقة مقابل استعادة سيناء مع وضع قيود على حركة وتسلح الجيش المصري بها وكذلك الحصول على معونة اقتصادية وعسكرية أمريكية. ومكنت تلك المعادلة الولايات المتحدة وإسرائيل من التغلغل في الحياة السياسية والاقتصادية المصرية مستخدمين في ذلك آليات حكومية وغيرحكومية حتى وصل الأمر بأحد الأعضاء البارزين السابقين بالحزب الوطني إلى التصريح بأن الرئيس القادم للبلاد لابد أن يحظى بموافقة أمريكية وإسرائيلية. وعلى الرغم من أهمية ما تم إنجازه في مجال الإصلاح السياسي حتى الآن إلا أنه لم يمس تلك المعادلة التي إذا ما استمرت تحكم السياسة المصرية فسيظل جوهر أى سياسة جديدة-بغض النظر عن النوايا والرغبات- يشكل امتدادا لسياسات مبارك-السادات لا قطيعة معها.وفي هذا السياق فأنه من الخطأ المبالغة في اعتبار رعاية الحكومة المصرية للمصالحة بين فتح وحماس مؤشرا لتحول نوعي في السياسة الخارجية المصرية، فالمصالحة وإن عكست انفتاحا مصريا جديدا على حماس إلا أنها قد تمت على أساس حل الدولتين وتصب في صالح جهود السلطة لإصدار قرارأممي لإنشاء دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 13في سبتمبر القادم. وهو ما لايتعارض مع توجهات نظام مبارك-السادات ولا مع جوهر المعادلة التي سبق الإشارة إليها، لايعني تغيير هذه المعادلة الدخول في علاقة عدائية مع الولايات المتحدة بالضرورة، وإنما يعني إقامة هذه العلاقات على أسس جديدة لا تجعلها رهناَ للمواقف المصرية من إسرائيل ويسمح لمصر بأن تطور سياساتها الإقليمية المستقلة والتي قد تتفق مع المصالح الأمريكية في بعض الأحيان وتختلف معها في أحيان أخرى. وفيما يتعلق بالعلاقات المصرية الإسرائيلية فإن تغيير تلك المعادلة لايتطلب إعلان حرب على إسرائيل، كما أنه لن يتحقق فقط عبر مراجعة بعض بنود المعاهدة التي وقعها السادات فمراجعة تلك البنود لن تكون ذات جدوى ما لم يصاحبها إعادة الاعتبارللقيم التي انتهكتها تلك الاتفاقية، والاستعداد المعلن لاستخدام كافة عناصر القوة للدفاع عن قيم ومصالح مصر كما تفعل كل القوى الإقليمية في العالم، وهو ما يتطلب بدوره تضافر جهود القوى السياسية ومؤسسات الدولة التي ترى في استقلال القرارالوطني هدفاَ يفوق في أهميته أية مكاسب حزبية أو شخصية لتشكيل كتلة تاريخية تنتج خطاباَ يتجاوز حدود الديمقراطية الليبرالية ويضع حداَ للتغلغل الأجنبي في الحياة السياسية المصرية تحت مسمى نشر الديمقراطية خاصة في ضوء الكوارث التي نتجت عن النظام السياسي الجديد في العراق الذي شارك في تصميمه كبار منظري الديمقراطية من الأكاديميين الأمريكيين والعاملين في مؤسسات التمويل الذين تتسابق الشخصيات الليبرالية ومنظمات حقوق الإنسان المصرية في الوقت الحالي على الترويج لاطروحاتهم على أنها خريطة طريق تضمن الانتتقال الأمن لنظام ديمقراطي، أما التحدي الأكبر الذي سيواجه هذه الكتلة في- حال تشكلها- فسيكون وضع خطط للتنمية لا تقوم على مقايضة دور مصر الإقليمي مقابل استثمارات ومعونات أجنبية كما تم في كامب ديفيد، وهو ما سيشكل في حال حدوثه الركيزة الريئسية لسياسة خارجية مصرية جديدة يصبح معها من الممكن تطوير تصريحات العربي بخصوص الانفتاح على إيران وتبني توجه جديد حيال القضية الفلسطينية بحيث تصبح خيارا جديا، وتفادي تكرار ما حدث في عهد مبارك عندما ظن البعض أن إعادة العلاقات مع الدول العربية ومع منظمة التحرير في بداية عهده ستمهد لقطيعة مع سياسات السادات وهو ما أثبتت السنوات التالية خطأه.
نشرت فى 24 يونيو 2011
بواسطة elpahar
احمد عمار
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
8,248
ساحة النقاش