على مدى سنوات طويلة ظلت نادية عبد الله تحلم بارتداء روب المحاماة والوقوف أمام منصة القضاء لتكون لسان حال المظلومين، التحقت بكلية الحقوق التي كانت الخطوة الأولى لتحقيق هذا الحلم وأخذت تعد الأيام والليالي انتظارا لذلك اليوم الموعود الذي سيحقق لها امتلاك «يافطة» صغيرة تعلو شقة متواضعة وقد كتب عليها «نادية عبد الله المحامية»، وبالفعل نجحت نادية فى الوصول الى ما كانت تصبو اليه فكانت مدافعا صلبا عن المظلومين طوال عدة سنوات من عملها بالمحاماة الى ان استيقظت مصر كلها على قضية قيام مجموعة من الصم باختطاف فتاه صماء ثم قاموا بقتلها من دون رحمة، وبقدر بشاعة الجريمة بقدر ما استيقظ رجال العدالة في مصر على حقيقة مؤلمة وهي غياب المحامي المتخصص في قضايا الصم والبكم والذي يمتلك مهارة الحديث بلغة الصم ليكون لسان حالهم في مثل هذه القضايا، شعرت نادية عبد الله بمسؤولية شخصية عن هذا الأمر خاصة وأنها ولدت في أسرة يعاني جميع أفرادها من عدم القدرة على السمع، استفاقت نادية على الحقيقة المرة وأخذت تتدارك الأمر لتبدأ هذا المشوار بالدفاع عن الضحية لتصبح لسان حال أسرتها التعيسة، ومنذ ذلك التاريخ قررت المحامية المصرية تركيز عملها في الدفاع عن الصم والبكم فقط، خاصة وأنها تجيد لغة الاشارة ببراعة لتصبح أول محامية تتخصص في قضايا الصم والبكم في الوطن العربي.
تتذكر نادية عبد الله بداية مشوارها مع قضايا الصم والبكم، وتقول ان القضية التي مثلت نقطة تحول كبرى في حياتي العملية وشغلت الرأي العام المصري طيلة أشهر طويلة هي قضية قيام عدد من الصم باختطاف فتاه صماء ثم قتلها فقد كانت جريمة بشعة بكل المقاييس.. تلك الجريمة البشعة التي هزت الرأي العام لم تلهب فقط مشاعر المصريين الذين طالبوا بالقصاص العادل من القتلة ولكنها طرحت عدة أسئلة هامة، وهي كيف يتفاهم الصم مع القضاة وهل هناك محامون قادرون على فهم لغة الاشارة لتولي مهمة الدفاع عنهم فيما يرتكبونه من جرائم وبالطبع فان الأمر لم يكن يتعلق بتلك القضية فقط خاصة وان الذي لا يعرفه كثيرون ان بمصر وحدها ما يقرب من ثلاثة ملايين أصم جميعهم يخشى أن يضطر يوما الى الذهاب الى المحكمة لأنه يدرك جيدا عدم وجود محامي يفهم لغة الاشارة وبالتالي يفضل الامتناع عن الذهاب الى المحكمة وان كان معه الحق، واذا عدنا للحديث عن قضية الفتاة الصماء فقد توليت مهمة الدفاع عن أسرتها وكنت لسان حال أسرتها المسكينة وجميعهم أيضا من الصم وقد حكم على أحد الجناة بالاعدام بينما حكم على الباقين بالأشغال الشاقة لفترات زمنية مختلفة، وقد كانت تلك القضية بحق شهادة ميلادي الحقيقية كأول محامية للصم والبكم في مصر والعالم العربي وهذا ما أفخر به كثيرا. وتضيف نادية عبد الله «من خلال تعاملي مع الصم والبكم شعرت أن الحقوق القانونية للصم والبكم ضائعة ومهدرة لعدم تفهم المحامين والقضاة لما يريد أن يقوله الأصم، فالأصم يجد صعوبة في التفاهم مع الآخرين في الأمور العادية فما بالنا بالأمور القانونية، وكثيرا ما يحدث أن يعتذر المحامي عن القضية لعدم قدرته على التواصل مع موكليه من الصم والبكم، ولذلك فقد حاولت استغلال عملي كمحامية بالجمعية المصرية لحقوق الانسان ووجدتها فرصة لمساعدة الصم بتبني الجمعية لقضاياهم وعرضت الأمر على مجلس الادارة الذي وافق على الفور وتم تخصيص قسم مستقل للدفاع عن حقوق الصم والبكم وتوليت مسؤوليته والحمد له لاقت الفكرة ترحيبا كبيرا واقبالا هائلا من الصم والذين وجدوها فرصة للحصول على حقوقهم الضائعة.
وتكمل حديثها قائلة: العدد الكبير عادة ما يخلق كثير من المشكلات وان كان أبرزها قضايا النصب التي يتعرضون لها نتيجة نقص الوعي لديهم بالأمور القانونية وجهلهم بالقراءة والكتابة خاصة مع قلة مدارس الصم والبكم، وبالاضافة الى هذا النوع من القضايا فهناك أيضا القضايا الناجمة عن المشاجرات التي قد تنتشر في أوساط الصم نتيجة عصبيتهم الزائدة والشك الدائم فيمن حولهم، فالأصم دائما يرى نفسه مواطنا من الدرجة الثانية، فهو يشعر بأسى شديد نتيجة الظلم الذي يتعرض له، فهو محروم من الحق في التعليم لأن المدارس المخصصة لهم تكون قليلة وغالبا ما تكون بعيدة جدا عن بيته مما يجعل أسرته مضطرة لابقائه في المنزل خوفا عليه من المسافة الطويلة، هو أيضا محروم من الحق في العمل لن أصحاب العمل يفضلون الأصحاء، كما أنه لم تتح لهم فرصة التعليم أو اكتساب أي حرفة، والأخطر من ذلك أن الأصم محروم من الحق في الاستمتاع بحياته، فوسائل الاعلام جميعها لا تعترف بوجودهم في البرامج والدراما، كل تلك الأمور تجعل الأصم يميل الى العدوانية تجاه كل شيء في المجتمع وهو ما يفسر الانطباع المأخوذ عنهم باعتبارهم فئة عدوانية ولكننا لو وضعنا أيدينا على سبب هذه العدوانية في السلوك فسندرك جميعا أننا نحن السبب فيها وربما اذا ما ساهمنا في حلها فاننا سنتمكن من توظيف طاقات ظلت مهدرة لسنوات طويلة خاصة وأن أعداد الصم في الوطن العربي في زيادة مستمرة لأن الأصم يفضل الزواج من صماء والعكس صحيح وهو ما يؤدي في النهاية الى انجاب أطفال صم.
وتعود المحامية المصرية بالذاكرة الى الوراء لتتذكر نشأتها في أسرة يعاني جميع أفرادها من الصم وتقول: أنا الابنة الوسطى لأبوين من الصم والبكم، وقد شاء القدر أن تولد شقيقتي الكبرى والصغرى وهما تحملان نفس الاعاقة التي يعاني منها الوالدان بينما ولدت وأنا أتمتع بالقدرة على السمع والكلام وكان شيئا غريبا كما أخبرني الأطباء بعد أن كبرت، وقد كان لنشأتي في هذه الأسرة أثر كبير في تعلمي لغة الاشارة واتقانها بصورة لا تقل بأي شكل من الأشكال عن الصم، وقد كنت لسان الأسرة وهمزة الوصل بينها وبين المجتمع وجميع المحيطين، وفي الوقت نفسه واصلت مشوار تعليمي بنجاح وتوجت ذلك بحصولي على ليسانس الحقوق وعملت بالمحاماة.
ولأن نادية عبد الله تؤمن بأن الحكومات لا يمكن لها العمل بمفردها لحل مشاكل الصم والبكم فقد تطوعت مع عدد من المهتمين بالمشكلة في تأسيس جمعيه أهلية لخدمة تلك الفئة المحرومة من أبناء المجتمع وتقول عن هذه التجربة: هناك عدة خطوات بعضها يتحملها الحكومات كالتعليم والعمل والترفيه ولكن هناك أمورا أخرى لا يجب تحميلها بالكامل للحكومة لأن الجمعيات الأهلية هي الأخرى يقع عليها عبء نشر الوعي بحقوق الصم في أوساط الصم والأصحاء أيضا وهذا ما حرصت عليه حيث قمت بعقد دورات تدريبية وندوات تثقيفية لهم بهدف توعيتهم بحقوقهم وواجباتهم، كما عقدت دورات أخرى للمتطوعين في خدمة الصم والبكم وذلك من خلال الجمعية القانونية لحقوق الانسان وبعدها طرأت في ذهني فكرة انشاء جمعية مستقلة يكون هدفها الدفاع عن حقوق الصم وبالفعل نجحت مع مجموعة من زملائي في تكوين مؤسسة تطوعية لهذا الغرض وأطلقنا عليها اسم «الصرخة».
ساحة النقاش