هندسة الانتباه

العلوم والفنون والآداب

فخ الواقعية لـ محمد عبدالله الهادي

بقلم

محمود سلامة الهايشة

كاتب وباحث مصري

[email protected]

قد نُشرت قصة "الفخ" للأديب المصري الكبير/ محمد عبدالله الهادي، في موقع القصة العربية Arabic Story بتاريخ (31 يناير 2003)، كما أنها نشرت أيضا في مجموعة قصصية عنوانها "الحكاية وما فيها" .والهادي هو كاتب للقصة والرواية والمسرح والنقد الأدبي، وكان يعمل معلما بوزارة التربية والتعليم بمحافظة الشرقية حتى وصل بها إلى درجة موجه عام البيولوجي. وقد قسم الكاتب قصته إلى ستة أجزاء وهي تعتبر ستة مشاهد/مناظر قصصية لحدث واحد.

كما نرى عنوان القصة مكون من كلمة واحدة فقط، "الفخ" أربعة حروف لا غير. واستطيع كقارئ ومحلل للقصة بأن اختار أو أضع عنوانً لمشاهدها، فالمؤلف رقمها بأرقام، ولكن من حق كل قارئ يتفاعل مع القصة بالطريقة التي يراها، فالنص الأدبي بعدما كُتب ونشر أصبح ملك للعيون التي تتطلع عليها، فالمشهد الأول (1) الفخ النائم، والثاني (2) نخلة أبي الروس، والثالث (3) "الفخ السلكي"، والرابع (4) "الوقوع في فخ أبي الروس"/"تيجي تصيده يصيدك!!"، والخامس (5) "الانفلات من الفخ!".

ويتمثل الحدث بالعمل القصصي في مجموعة الأفعال والوقائع التي تتم خلال القصة والتي تكون مرتبة بشكل سببي متتابع، كما أنها تدور جميعها حول موضوع معين، كما أنه غالباً ما يدور حول صراع بين شخصيات القصة، وهذا ما فعله الكاتب هنا في الصراع الذي دار بين عبوده والحمام البري وبينه وبين أبا الروس، وكما بدأ في المشهد الأول بالأسرة والجو العائلي ثم الخروج من البيت متوجها للحقل، أنهى قصته بنفس السيناريو، أي العودة لذي بدء. فهنا الحدث الرئيسي واحد، وإن تعددت الاحداث الجزئية، وهذا الحدث قد راعب فيه المؤلف الواقعية ومستوى معقوليته وفنيته في تجسيده وتصويره.

جاءت شخصيات القصة على النحو التالي: الشخصية الرئيسية (الراوي) وهو الابن/الأخ "عبُّوده"، الأم "زبيدة"، الأخت الصغيرة "ريم"، أما الأب فقد رحل عن الدنيا بالموت، ولكنه كان حاضرا بشكلً دائما على لسه الأم، لذكر به عبوده وريم، من صفات عبوده أنه نحيل الجسد (البُعد الجسمي لعبوده)، زبيدة الأم كنت تربي الكتاكيت وتزرع الأرض، اسماء الشخصيات تتناسب مع المستوى الثقافي والاجتماعي لتلك الأسرة. في المشهد الثاني من القصة ظهرت شخصية "أبي الروس" صاحب النخلة، ذو الفكَّه الهائل،  ومنكبين عريضين، ورأسه الكبير وقلبه الحجر، ولسانه "الزفر" (البُعد الجسدي لأبي الروس حتى تكون الرؤية والتصور أوضح للقارئ)، هذا كما وصفه القاص على لسان الراوي البطل.

كان مكان أحداث القصة في إحدى القرى، وبالتأكيد إحدى قرى محافظة الشرقية التي ولد ونشأ وعاش فيها القاص، وينقل لنا حال لمحة من لمحات الأسرة أبطال القصة المكونة من أم أرملة تربي طفل وطفلة مات عنهم أبوهم وهم مازالوا صغار، أي داخل المجتمع الريفي بحقوله وأجرانه وزرعه. فالفخ البلاستيكي الذي اشتراه عبوده من سوق الاثنين وجبئه في جيبه حتى يصطاد به الحمام البري الذي يحط في جرن "المصالحة" ومن اسم الجرن من المحتمل أن تكون اسم القرية التي تدور بها أحداث القصة تسمى بقرية المصالحة.

تدور أحداث القصة في يوم واحد، وبالتحديد في يوم في نهاية الأسبوع أو في النصف الثاني من الأسبوع، لأن "عبوده" قد اشترى الفخ البلاستيك من السوق يوم الاثنين وخبئه لحين موعد الصياد، وبالتالي فهذا اليوم أما ثلاثاء/أربعاء/خميس، وموعد أحداث القصة، أما ما بين الظهر والعصر أو العصر والمغرب، لأنه ارتقى جذع نخلة "أبي الروس" وحصل على البلح، ثم جرى منه بعد أن رائه ونهره للجرن ونصب الفخ ليصطاد الحمام البري، وكانت النتيجة بأن "عبوده" بدلا من أن يصطاد الحمام البري ليعطيه لأمه زبيدة ويذهب بالبلح لأخته ريم، وقع هو في فخ أبي الروس الذي قام بضربه ضربا مبرحا مصحوبا بالشتائم القاصية. وتبعثرت البلحات فوق الثرى. وقد انتهت أحداث القصة بأن رجع عبوده لبيته وتناول العشاء الذي أعدته أمه زبيده وغسل يده بالماء الساخن النازل من زنبور الإبريق الفخاري الأسود الذي كانت تحمله وترفعه أخته ريم. وبعدها خرج عبوده من البيت متوجها صوب حقل أبي الروس ليلا لينتقم لنفسه.

فالكاتب هنا بذكاء شديد جعل الفخ فخان، فخ عبوده للحمام البري بالفخ البلاستيكي لصيده، وفخ أبا الروس لعبوده ولكن بيده الضخمة وجسده الكبير ولسانه السليط بسبب سرقته للبلح من على نخلته، المدهش أن مكان نصب الفخ واحد، ألا وهو الجرن الممتلئ بالقش، وقد فلتت الحمامة من فخ عبوده بعد تركت بعض ريشها بفخه بالقلش ثم طارت، في نفس ذاك الوقت ترك أبي الروس – عبوده- عندما تعبت قبضته التي تهوي وتعجن بدن عبوده ولا تكف توقف لاهثاً ، و استدار مبتعداً.

وقد وصف الكاتب شخصية عبوده من الناحية النفسية، أي من ناحية السلوكيات، والمزاج الشخصي، وتبرير عبوده لنفسه سرقة أبي الروس، من خلال الحوار الداخلي بين عبوده ونفسه، "هكذا كان يبرطم بغضب ، تربية امرأة، تجيز لي أن أدوس حرمة حُرمة غيطه بقدميَّ ، وأطلع نخلته العالية التي تُسبِّح ربَّها، وأثير حنقه وأسرق ثماره وأرد عليه" (البُعد النفسي للبطل والراوي عبوده). وفسر لماذا تكون هذا البُعد النفسي؟، "هؤلاء الذين أنجبوني وأتوا بي للدنيا الواسعة ، خاصة ذلك الرجل الذي رحل وتلك المرأة القاعدة في البيت ، ولا تعرف كيف تربِّي!" (البُعد الاجتماعي لعبوده بأنه يتيم الأب وتربيه أمه).

تم استخدام لغة سلسلة، كتبت القصة باللغة العربية الفصحى القريبة من العامية، أي أن ما يميز اللغة القصصية عند "محمد الهادي" هو امتلاكه للكتابة باللغة الثلاثة التي تقف في المنتصف بين الفصحى المعجمية والعامية المستخدمة في الشارع بين العوام، لذا فهي وسيلة لنقل الفكرة بسهولة ويسر لأكبر عدد من القراء، أو قل لكل من يستطيع القراءة ويطلع على قصته. ومن المحسنات البلاغية الواردة بالقصة "صافح تساؤلها مسمعي" إذا يشبه الكاتب الصوت المسموع كأنه سلاما باليد والأذن نفسها كيد تصافح الكلام وبثلاثة كلمات فقط، كما قال "فاغتصبت شفتاها الناتئتان بسمة واهنة." هنا (فاغتصبت) بمعنى اعتصرت أو لوت شفتاها، الناتئتان: "فهدتان:  مفرد فَهْدة : لحمتان ناتئتان في صدر الفرس، والفَوْهَدُ: الغلام السمين الذي راهق الحُلُم؛ والجاريةُ: فَوْهَدَةٌ" (معجم اللغة العربية المعاصر). حتى لغة الحوار المليء بالسب والقذف والرد بالشتائم بين أبا الروس وعبوده كتبت بالفصحى برغم أنه رجل ريفي شرس وذاك طفل صغير شقي، فقد نقل لنا القاص حوارهما ولكن بلغة فصحية يفهمها القراء جميعا، ويستطيع المترجمين ترجمتها لأي لغة، فدائما يقول نقاد السرد أن النص يكتب بالفصحى ويسمح باستخدام العامية المحلية المصرية في كتابة الحوار بين شخوص القصة، ولكن "محمد عبدالله الهادي" هنا يأبى أن يكتب بالعامية، مع المحافظة على ما قيل بالفعل أو يقال بين العوائم بالشارع المصري.

يوجد حوار داخل القصة، وهو بسيط أي أنه عبارة عن أسئلة قصيرة وإجابات مقتضبة لخدمة القصة، وجمعت القصة بين نوعى الحوار، الداخلي بين البطل الراوي وذاته، والخارجي بينه وبين باقي الشخصيات خاصة أمه.

دور ملابس البطل "عبوده" في مشاهد القصة المتوالية، ففي المشهد الأول بالقصة يقول لنفسه: "وقلت بزهو قاطع ، وأنا أتحسس الفخ النائم في جيب جلبابي"، إذا فعبوده يرتدي جلباب، وفي المشهد الثاني يخبرنا عبوده قائلاً: "رحت أجوس بأناملي في بطن السباطات المتدلية، انتقي البلحات الناضجة وأرمي بها في عـبِّي"... و"وأنا أهرول ضاحكاً في عبِّي الملآن الآن بثمراته"، فالجلباب هو ما يحتوي على عب.

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 236 مشاهدة
نشرت فى 16 يونيو 2017 بواسطة elhaisha

ساحة النقاش

محمود سلامة محمود الهايشة

elhaisha
محمود سلامة الهايشة - باحث، مصور، مدون، قاص، كاتب، ناقد أدبي، منتج ومخرج أفلام تسجيلية ووثائقية، وخبير تنمية بشرية، مهندس زراعي، أخصائي إنتاج حيواني أول. - حاصل على البكالوريوس في العلوم الزراعية (شعبة الإنتاج الحيواني) - كلية الزراعة - جامعة المنصورة - مصر- العام 1999. أول شعبة الإنتاج الحيواني دفعة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

2,741,204