رغبة جارفة فى خدمة هذا البلد، قادتنا لنشر هذا الملف الشائك والمتشعب، والذى نكشف فيه عن وثائق وخرائط وحقائق تاريخية غاية فى الأهمية والخطورة.

ولأن ما لدى «المصرى اليوم» من وثائق، يكشف حق مصر التاريخى فى مياه النيل، فإننا نقدمه للمسؤولين والقراء جميعا، عله يكون عوناً لهم فى حرب الاتفاقات الجديدة التى تشنها دول المنبع، ضدنا والسودان الشقيق. الخرائط والوثائق- التى حصلنا عليها من هايدى فاروق عبدالحميد، الباحث بالأرشيفين البريطانى والأمريكى، عضو الجمعيتين «المصرية للقانون الدولى» و«الجغرافية المصرية»- تؤكد قانونية حق مصر الحالى فى مياه النيل، بل تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن مساعى دول المنبع لتعديل الاتفاقيات التاريخية الخاصة بحصة مصر من مياه النهر، لا تستند إلى شرعية قانونية ولا تصمد أمام دليل سياسى قاطع.

 

 

 

 

 

 
خريطة من أرشيف وزارة المعارف العمومية عام 1911

هذا الملف تنشره «المصرى اليوم» فى خمس حلقات، تحت مسمى «منحة الأرض ومحنة المياه»، تكشف خلاله تفاصيل وحقائق تاريخية لم يتطرق إليها كثيرون من قبل، أبرزها الخلفيات التاريخية للنزاعات المائية بين مصر والحبشة (إثيوبيا) والكونغو، وما انتهت إليه من وثائق واتفاقات من شأنها إثبات الحق الحالى لمصر فى مياه النيل، أبرزها على الإطلاق اتفاقية ١٩٠٢ الخاصة بتقسيم المجرى المائى لنهر النيل تقسيماً «حدودياً» لا يقبل التعديل.

مصر تحصل على مياه النيل باتفاق قانونى غير قابل للتعديل

انتهت الحلقة الماضية، بتوقيع اتفاق ٩ مايو ١٩٠٦، بين حكومة بريطانيا وملك الكونغو، والذى أعطى الأخير الحق فى إدارة منطقة «لادو» مدى حياته، إلا أن المنطقة عادت لمصر بعد ٦ أشهر، وهو الاتفاق الذى أكد أن «لمصر حق فى فى مجرى النيل ثابت ثبوت الحدود»، بالإضافة إلى أن اتفاق ١٣ مايو عام ١٨٩٤ وهو اتفاق «حدود» والذى تم تعديله بالاتفاق الموقع فى لندن فى ٩ مايو ١٩٠٦، هو الاتفاق الوحيد المنوط العمل فى إطاره فى مُجابهة أى خطوات قد تحذوها الكونغو تجاه التوقيع على «ورقة عنتيبى» ولا يجوز الاحتجاج بكونهما اتفاقات للمستعمر، لأنهما وفق ما كشفته «المصرى اليوم» فى الحلقات الماضية ليسا اتفاقى مياه، بل «حدود».

فى الحلقة الرابعة من ملفات النيل تقول هايدى فاروق، الباحثة فى الأرشيفين البريطانى والأمريكى: «فى أول يناير عام ١٩١٤ اقتُطع من مصر القسم الجنوبى من السودان فى منطقة اللادو، والبالغة مساحته نحو ١٤ ألف كيلو متر مربع غرب بحر الجبل (النيل)، وانضم إلى أوغندا مُقابل إضافة مركزى غوندكورو ومنيوت إلى السودان، وبالإضافة إلى كون اتفاق المياه فى الأصل اتفاقاً للحدود، فإن حق مصر فى مجرى النيل حق ارتفاق دولى على مجراه، ووفق نص المادة الثالثة من اتفاق الحدود (إنجلترا- الكونغو ٩ مايو عام ١٩٠٦)، والذى ينص على أن (تتعهد حكومة الكونغو المستقلة بعدم القيام أو السماح بقيام مُنشآت أو أعمال على نهرى سمليكى أو أسانجو، أو فيما يجاورهما، من شأنها أن تُقلل كمية المياه التى تنساب إلى بحيرة ألبرت، إلا بالاتفاق مع حكومة مصر)، وهذا النص يُقرر حق ارتفاق سلبى على بعض فروع النيل، التى تمر بإقليم الكونغو، مؤداه عدم القيام بأى أعمال أو مُنشآت على نهرى سمليكى وأسانجو أو فى...إلخ».

وحول تعريف حق الارتفاق تقول «هايدى»: «هو حق عينى، لا يجوز إلغاؤه أو تعديله بإرادة الدولة المرتفق بها المنفردة، وبإعمال قواعد حق الارتفاق الدولى على نهر النيل، نجد أن لمصر حق ارتفاق دولياً على مجراه دون المياه التى تنساب فيه، فالمياه منقول متحرك ومتجدد، لا يصح أن يكون موضع حق من حقوق الارتفاق لانعدام صفة الذاتية والثبات والاستقرار، التى هى من مستلزمات الأشياء القابلة لأن تكون محلاً لحقوق الارتفاق» .

وتضيف: «نشأ هذا الحق بمضى المدة (طبقا للنظرية التقليدية بشأن هذا النوع من الحقوق)، وطبقا للنظرية الحديثة فإن مرور المياه مدة طويلة فى هذا المجرى يعد قرينة قاطعة على رضاء الدول المرتفقة بهذا الارتفاق، وبعبارة أخرى فإن ثمة اتفاقا ضمنيا على وجود الارتفاق بين مصر والدول المشتركة معها فى نهر النيل».

توضح «هايدى»: «مصر لها حق ارتفاق على مجرى النيل، ويقضى هذا الحق بإلزام الدول المشتركة فى نهر النيل بإبقاء مجرى النهر صالحا لمرور المياه فيه، والتزامها بعدم المساس بالمجرى أو تحويله أو إقامة عوائق أو منشآت عليه».

وتقول: «فى ذات الإطار لا تغنى نظرية حقوق الدول المشتركة فى نهر دولى عن حقوق الارتفاق الدولية، لأن الدول المشتركة فى نهر دولى لها أن تقيم منشآت لاستغلال مياه النهر، بشرط عدم المساس بالحقوق المكتسبة للدول الأخرى، وبعبارة أخرى يجب القول بأنه للدول أن تستغل المياه الزائدة التى تنصرف إلى البحر طالما أنها لا تمس فى ذلك حقوق الدول الاخرى المكتسبة، وبشرط عدم وجود اتفاق نهائى ملزم، ولكن فى حالتنا هذه لدينا هنا اتفاق ١٩٠٢ الحدودى مع إثيوبيا، واتفاق ١٩٠٦ مع الكونغو، وهو حدودى أيضا ويلزم بالحصول على موافقة دول المصب قبيل أى عمليات استغلال، بالإضافة إلى أن لمصر حق ارتفاق على مجرى النهر لا يجيز لأى دولة القيام بمنشآت لاستغلال المياه إلا بموافقة مصر، حتى ولو كان هذا الاستغلال ينصرف إلى مياه زائدة ولا يمس بحقوق مصر المكتسبة».

وتضيف «هايدى»: «تم تسجيل حق الارتفاق المصرى فى معاهدتى ١٥ مايو ١٩٠٢ و٩ مايو ١٩٠٦، علاوة على أن مصر اكتسبت هذا الحق منذ زمن بعيد، والالتزامات الواردة فى هذه المعاهدات تعد أيضا فى رأى منازعى حق الارتفاق من فقهاء القانون الدولى قيودا اتفاقية مصدرها المعاهدات».

الوثائق تشير إلى أنه فى عام ١٩١١ انعقدت الدورة العامة لمعهد القانون الدولى فى مدريد، وقررت أنه إذا كان مجرى النيل يفصل بين دولتين فلا يجوز لدولة بغير موافقة الدول الأخرى، ودون وجود سند قانونى خاص وصحيح، أن تقوم أو تترك للأفراد أو الشركات القيام بتغييرات خاصة تَضُر بضفة دولة أخرى، كما أنه لا يجوز لأى دولة أن تستغل أو تسمح باستغلال المياه فى إقليمها بطريقة تضر بالدول الأخرى».

وأكدت أن قرارات اللجنة العامة نصت على أنه إذا كان مجرى النهر يخترق إقليم دولتين أو أكثر، فلا يجوز لدولة أن تغير النقطة سواء كانت طبيعية، أو ترجع إلى زمن بعيد عن النقطة التى كان يخترق فيها النهر حدودها، إلى إقليم دولة مجاورة الا بموافقة هذه الدولة، بالإضافة إلى أنه يحظر كل تغيير فى مياه النيل أو إلقاء مواد ضارة فيه كون مصدرها المصانع وغيرها.

وأضافت أن اللجنة أشارت فى قراراتها إلى أنه لا يجوز سحب كميات من مياه النيل لاستغلالها فى توليد القوى الكهربائية، من شأنها التأثير على مجرى النهر عند وصوله إلى الأقاليم التى فى المصب.

وذكرت اللجنة- وفق الوثائق- أنه لا يجوز لدولة المصب أن تقوم أو تسمح بإقامة منشآت على إقليمها تؤدى إلى إحداث فيضانات فى دول المنبع، وكذلك لا يجوز أن تقوم دولة بصرف أو حجز قدر من مياه النهر ينتج عنه هبوط المستوى الطبيعى لمجرى النهر فى الدول الأخرى.

وتقول «هايدى»: «فى عام ١٩٥٥ افتتحت الملكة اليزابيث خزان جينجيا فى أوغندا مما أدى إلى توقف المياه فى المشروع لمدة ١٥ دقيقة، وانساب الماء بعد أن ضغطت الملكة على زر كهربائى، لكن ذلك أثر على منسوب الماء الوارد لمصر والسودان نتيجة هذا التوقف، وهو ما أكد خ طورة إقامة منشآت على مجرى نهر النيل».

وأضافت: «فى عام ٢٠٠٩ وتحديداً شهر أغسطس، قالت وزيرة المياه والبيئة الأوغندية ماريا موتاجامبا، إن أوغندا مصممة على تعديل اتفاقية توزيع مياه نهر النيل التى تعطى مصر اليد العليا فى الاعتراض (الفيتو) على استخدامات مياه هذا النهر، وقالت الوزيرة إنها أخبرت دول المنابع الست أنه يجب الوصول إلى اتفاقية جديدة حول توزيع مياه نهر النيل خلال ستة أشهر، وطالبت بتعديل الاتفاق خاصة المادة ١٤ التى تعطى مصر والسودان هيمنة، على حد تعبيرها، على استخدامات النهر ومياهه، وكانت مصر أعلنت قبل عدة أسابيع فى اجتماع الإسكندرية رفضها التام لأى إخلال بحقوقها التاريخية فى مياه النيل».

وتابعت «هايدى»: «قالت موتاجامبا إنه فى حالة الفشل فى التوصل إلى اتفاق جديد حول مياه النيل، فسوف يتم إضافة بند فى ملحق الاتفاقية الحالية خاص بالتصرفات الجديدة قبل التصديق عليه من جانب دول حوض النيل العشر، فيما ذكرت صحيفة كوست ويك الأسبوعية الإثيوبية، أن مصر بحلول ٢٠١٧ ستكون فى حاجة إلى ٤.٧١ مليار متر مكعب إضافية من المياه سنوياً، فى الوقت الذى لن تتعدى فيه مواردها ٢.٨٦ مليار متر مكعب، فيما وصلت الموارد المائية المتاحة لمصر عام ٢٠٠٦ إلى ٦٤ مليار متر مكعب وفر النيل منها ٥.٥٥ مليار متر مكعب أو ٧.٨٦% مليار».

واستطردت: «تم توقيع إتفاق عنتيبى فى مايو ٢٠١٠، الذى رفضته مصر والسودان، فيما وقعت عليه خمس دول من بينها أوغندا، الدولة التى منحتها مصر جزءا من أرضها لتضمها إلى حدودها التى توسعت بما يعادل ستة أضعاف حقيقتها، نظير الحفاظ على حصة المياه المصرية».

وقالت: ويبدو غريباً كيف منحت مصر أراضى مملوكة لها بالقرب من الحدود الأوغندية، وبالعودة إلى الوراء نجد أن هذه البلاد كان سماها قدماء المصريين بـ«الأراضى الجنوبية»، وتشمل جميع منطقة النفوذ المصرى، وهى غير محددة وتمتد إلى شطر أفريقيا الوسطى والشرقية، وتدل النقوش على أن أهل هذه البلاد كانوا من «الرجال الحمر» الذين يقطنون بلاد «بنط» الشهيرة الواقعة على ساحل الصومال، ونجح حكام مصر بداية من حكم محمد على عام ١٨٠٥م إلى آخر حكم إسماعيل فى رد الحدود القديمة إلى السودان المصرى، وانتشر فى عهدهم كما انتشر قديما النفوذ المصرى على «الأراضى الجنوبية» كما كان النيل والبحر الأحمر ناقل المدنية الفرعونية تارة، والمدنية العربية تارة أخرى.

وقال المؤرخ جونستون- والكلام لـ«هايدى»- «أياً كان الأمر وسواء أكانت التجارة المصرية أو السيطرة المصرية قد اتصلت أو لم تتصل بطريق مباشر بتلك الأصقاع المحيطة بمنابع النيل، فإن نفوذ المدنية المصرية قد تغلغل فى أفريقيا السوداء، وإذا استثنينا بعض النباتات والحيوانات الأليفة التى جلبها البرتغاليون من البرازيل أو التجار الآسيويون من الهند، فإن بقية الحيوانات والنباتات قد أتت كلها عن طريق مصر، ومن مصر أتى أيضا التفكير فى صنع القوارب المركبة من الأخشاب، كالقوارب التى يستعملها سكان أوغندا، ورسم الآلات الموسيقية الراقية المجردة من تلك البساطة البدائية التى نجدها فى الطبول والأبواق المتخذة من قرون بقر الوحش,

ولا شك أن أعواد أوغندا هى عين الأعواد التى تبدو صورتها على الآثار المصرية، ومما يدعو إلى الدهشة حين نطالع وجوه الباهيما (أرستقراطية حامية السحنة منتشرة فى غرب أوغندا، والأونيورو، وطورو، وفى الجنوب الشرقى من بحيرة فيكتوريا والشمال الشرقى من بحيرة تانجانيقا) أن نرى وجوها مصرية بحتة فى هيئتها وملامحها ولونها الذى لا يكاد يتميز بسمرته.» (هارى جونستون، حماية أوغندا، مجلدان باللغة الإنجليزية).

المصدر: جريدة المصرى اليوم- أشرف جمال - بتاريخ 8 أغسطس 2010م
egarchives

أ.د عصام أحمد عيسوى [email protected]

  • Currently 105/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
32 تصويتات / 1716 مشاهدة
نشرت فى 30 نوفمبر 2010 بواسطة egarchives

أ.د عصام أحمد عيسوى

egarchives
أستاذ م.الوثائق والأرشيف بقسم المكتبات والوثائق بكلية الآداب جامعة الملك سعود وجامعة القاهرة، حاصل علي جائزة التميز في التعلم والتعليم من جامعة الملك سعود 2011م، وجائزة جامعة القاهرة التشجيعية في العلوم الإنسانية والتربوية 2007م، وعضو فى عدد من اللجان القومية والعلمية بجامعة القاهرة والمجلس الأعلى للثقافة وغيرهما، مؤسس ومدير وحدة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

220,592