لم تكن مساحة جاليري "تاون هاوس" مستعدة لهذا العدد الضخم من الشباب والمهتمين بالتاريخ الذين ملأوا أكثر من غرفة وافترشوا الأرض للاستماع لمحاضرة أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية خالد فهمي، التي أدارها حسن خان وجاءت تحت عنوان "سياسات الأرشيف".
المحاضرة كانت جزءاً من برنامج مواز لمكتبة "بدون" المتنقلة التي يستضيفها "تاون هاوس" وتضم مجموعة من المجلات والدوريات والمطبوعات بمختلف اللغات التي صدرت في الشرق الأوسط خلال الخمسين سنة الأخيرة.
تحدّث فهمي في بداية المحاضرة عن خصوصية الأرشيف المصري، وكيف تختلف الوثائق المصرية عن أي وثائق وسجلات أخري، فخطابات محمد علي مثلاً تختلف كلياً عن خطابات نابليون بونابرت. فالباشا الكبير وعلي العكس من نابليون لم يكن لديه الوعي بأنه يكتب أو يملي التاريخ، لذلك لن نجد الحشو والعبارات الرنانة التي كانت تميّز خطابات نابليون موجودة في خطابات محمد علي. علي العكس فخطابات محمد علي تتسم بقدر كبير من الصراحة وتكشف خطاباته مع ابنه إبراهيم باشا عن وعي استراتيجي بالغ التطور عند الأثنين، ففي أحد الخطابات يعرض محمد علي علي إبراهيم وضع الدولة المصرية في الحجاز والشام وقبرص ويطلب منه تقييمه للوضع، فيطمئنه إبراهيم عن ثقته في الجيش وقدرته علي هزيمة الإنجليز والفرنسيين لكن ما يقلقه أكثر هو الشوام الذين لا يزالون يقيمون بالثورات، والروس الذين إذا اقتحموا الأناضول لن نستطيع مقاومتهم. وقبل أن ينغمس خالد في الحكي يعود به حسن خان إلي محور الندوة وهو وضع الأرشيف المصري الآن والسياسات التي تحكم عمله. حيث وصف خالد فهمي الأرشيف المصري الرسمي بأنّه أرشيف انتقائي، حيث تمّت أول محاولات توثيق الأرشيف المصري في عهد الملك فؤاد حينما أسس الأرشيف الملكي، وهو ما يفسر وجود صورة سلبية للملك عباس في معظم الوثائق التاريخية المصرية، وكان الدخول لهذا الأرشيف يحتاج إلي تصريح من الملك. أما دار الوثائق بشكلها الجديد فقد تم تأسيسها بقانون خاص عام 54 حيث تبنوا القائمون علي الأرشيف عرض الوثائق التي تؤكد عظمة مصر وترسخ للمفاهيم القومية، كما أن الوثائق انتقلت إلي القلعة التي كانت وقتها منطقة عسكرية بالتالي كانت هناك حاجة لتصريح أمني قبل أن يطلع الباحثون علي أي وثيقة.
انتقل صاحب "كل رجال الباشا" بعد ذلك إلي وضع دار الوثائق الحالي حيث لخص أبرز سلبياتها في عدد من النقاط المحددة أولاها أن السياسات التي تحكمها أمنية فالاطلاع علي الكثير من الوثائق يحتاج إلي تصاريح أمنية. وبالرغم من أن قيادات الدار ممتازة وتسعي جاهدة لتطوير آليات حفظ وعرض الوثائق التاريخية، إلا أن الباحث داخل قاعات البحث يواجه موظفين متعنتين تسيطر عليهم الهواجس الأمنية ويتعاملون بقدر كبير من الاستعلاء مع الباحثين.
وانتقد خالد عدم سعي دار الوثائق لصناعة علاقة مع الأرشيف الحي في الوزارات والهيئات الحكومية. فمعظم الوزارت الحكومية لا تسلم وثائقها لدار الوثائق، وأرشيفها غير منظم وغير مفتوح للباحثين أو المهتمين. بل وشكك خالد في وجود ذلك الأرشيف في بعض الوزارات، وحتي إن وُجد فالأرشيف في المصالح الحكومية مكان لعقاب الموظف البليد. وهو ما اعتبره أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية علامة من علامات انهيار الدولة.. أن أرشيفها الحي غير موجود.
الملاحظة الثالثة التي أخذها خالد علي دار الوثائق هي قلة المؤتمرات التي تنظمها، وقلة إصداراتها وحتي إذا قامت الدار بإصدار بعض الكتب فهي غالباً إعادة نشر لكتب قديمة تؤكد عظمة مصر وحداثتها، أو كتب جديدة يحكمها نفس المنطق القديم. وضرب مثالاً علي ذلك بإصدار الدار واهتمامها بوثائق محددة كخطابات الخديوي، لكن لن نجد ذلك الاهتمام بمحاضر الشرطة في القرن التاسع عشر، بالرغم من أهمية وثراء الأخيرة.