رمز السكينة والسلام يتحول إلى بيزنس كبير تقام له أضخم الأسواق الشعبية عبر طول البلاد وعرضها!
عشاقه كثيرون ومَنْ وقعوا أسرى غوايته يتزايد عددهم يوماً بعد يوماً، فلم يجدوا بداً من بناء أبراج فوق أسطح المنازل يمارسون فيها ولعهم به ويتطلعون –في الوقت نفسه – إلى هامش ربح لا بأس به.
تجارة الحمام يقدر حجمها في مصر بملياري جنيه، ويصل عدد هذا الطائر نفسه إلى 45 مليوناً على الأقل، لكن خلف لغة الأرقام الجافة حالة نادرة من العشق يحملها في قلبه كل مَنْ يربي الحمام، ومعلومات مدهشة لا يبوح بها سوى مَنْ اكتووا بنار غوايته...!
يمضي شباب مصريون جزءاً كبيراً من وقتهم في الحظائر المخصصة لتربية الحمام التي تعرف في الريف بالأبراج وفي المدن بـ"الغية" أو "العشة" وذلك للاعتناء به وتدريبه على الطيران وتهجين بعض السلالات منه لتعطي سلالة جديدة بمواصفات خاصة تتيح إمكانية بيعها.
شعبياً هناك بعض المعتقدات التي تشير إلى أن دم هذا الطائر له مفعول كبير في إبطال أعمال السحر والشعوذة وفك عقدة "العوانس" والإسراع في تزويجهن، كما أن هناك مَنْ يعتقد أن تناول لحم صغار الحمام "الزغاليل" مفيد جداً كنوع من "المقويات" للمتزوجين حديثاً!
واللافت أن تجارة الحمام في مصر أصبحت منتشرة للغاية فلا تخلو مدينة أو قرية من سوق أسبوعي مخصص له، علماً بأن رواده من مختلف الطبقات الاجتماعية.
تقدر أعداد الحمام الذي تتم تربيته بين المصريين بنحو 45 مليون طائر بميزانية تقدر بنحو 2 مليار جنيه وذلك حسب تقديرات صدرت مؤخراً عن معهد بحوث الحيوان التابع لوزارة الزراعة والثروة الحيوانية.
تقارير المعهد أشارت إلى أن الحمام يُعد ثاني أنواع الطيور الداجنة بعد الدجاج التي يهوى المصريون تربيتها والانتفاع بها تارة في الغذاء وأخرى كمصدر للرزق عن طريق البيع بعد تربيتها وفقاً لأساليب يتوارثها المصريون منذ زمن الأسرات الفرعونية الأولى أي قبل نحو 5 آلاف سنة! من أشهر أسواق الحمام في مصر سوق الجمعة بميدان السيدة عائشة، وسوق الاثنين في حي السيدة زينب بالقاهرة، و"السبت" بحي إمبابة بالجيزة و"الثلاثاء" في طنطا و"الجمعة" في الإسكندرية والمحلة.
"فخري، وشهرته الكوتش، 33 سنة" يهوى تربية الحمام منذ أن كان طالباً في المرحلة الإعدادية، يقول: تربية الحمام تعد هواية بمقدور أي إنسان بالغ أن يمارسها في وقت قصير، مع مراعاة بعض النصائح التي لا غنى عنها لأي "مربي" جديد. أولاً لابد من تجهيز مكان التربية وتحديد العدد الذي يرغب في تربيته، فالزوج الواحد من الحمام ذكراً وأنثى يحتاج إلى أن يكون له عش صغير داخل العشة الكبيرة أو البرج ويسمى بـ"الخن" وتتراوح مساحته من 30-50 سم حيث يتيح "الخن" للحمام وضع البيض ورعايته حتى يفقس وتغذية صغاره، لذا فكلما كانت مساحة "العش" أكبر كان التوسع ممكناً في تربية عدد أكبر، كما يراعى أن تكون "العشة" جيدة التهوية وتدخلها الشمس، وأن يحرص المربي على تنظيفها باستمرار، ويفضل من حين لآخر دهان الحوائط بالجير وتنظيفها بمطهر قوي مثل مادة "الفنيك" والسولار وذلك لقتل الميكروبات التي قد تتكون بفعل مخلفات الحمام.
كما يجب الحرص على بناء حجرة مصنوعة من الخشب مرتفعة لا يقل ارتفاعها عن 3 أمتار على الأقل وذلك كي تسمح للحمام بالطيران والتحليق في الفضاء بسهولة، كما يجب وضع ساري وقطعة قماش بأي لون تماماً مثل العلم وذلك كي يمكن للحمام التعرف على العشة المصنوعة فوق سطوح المنزل حين يحلق في السماء بعيداً عنها!
ويضيف "الكوتش": هناك أنواع كثيرة من الحمام تنتشر تربيتها في مصر ويتجاوز عددها 40 نوعاً منها: الزاجل والبلدي والشامية والعبسي والسلطاني والملوكي والصفي والكركندي والشقلباظ واليمني والرومي والهزاز والكريزليات.
ومن المعتقدات الشعبية التي لاتزال سائدة في بعض الأحياء والأرياف أن تناول لحم الحمام يبطل أعمال السحر والشعوذة ويعمل كمقو للفحولة لاسيما لدى المتزوجين حديثاً، ولذا فقد اعتاد "الكوتش" أن يجد زبوناً يطلب منه شراء زوج حمام بمواصفات محددة: ريش أسود.. عين حمراء، وأخرى سوداء.. "منقطة" أي يحمل لونها نقطاً، وهناك مَنْ يطلب حماماً لذبحه على باب عتبة داره قبل سكنه فيها بغرض منع الحسد!
هروباً من البطالة!
مربى حمام آخر يدعى "محمد البطل – 32 سنة" يلفت النظر إلى أن بعض المصريين يقبلون على تربية الحمام كهواية لشغل أوقات الفراغ إلى جانب كونها مصدراً للرزق والتغلب على مشكلة البطالة أو لتناول لحمه، ولذا لا تكاد تخلو المنازل في قرى الريف والأحياء الشعبية من أماكن مخصصة لتربية الحمام، تُعرف تارة في الريف باسم البرج وهو بناء مرتفع عن الأرض ما بين 10 -15 متراً، ويتكون من الطوب اللبن وجذوع الأشجار.. بينما في الأحياء الشعبية تُعرف بـ "الغية" أو "العشة" حيث يعتمد بناؤها على ألواح الخشب والصفيح وتأخذ شكل الحجرة وتحدد مساحتها وعدد الحمام الذي يتم تربيته بها وفقاً لمكان تواجدها في "البلكونة" أو على سطح العقار.
يتسابق هواة تربية الحمام فيما بينهم لاسيما الشباب على تدريب الحمام على الطيران لمسافات بعيدة وحمل رسائل صغيرة كما كان يحدث في الماضي قبل تطور وسائل الاتصال.
ويشير "البطل" إلى أهمية دقة الملاحظة للتمييز بين الحمام الذي قد يبدو للبعض أنه متشابه في الشكل، ولكن في الحقيقة هناك اختلافات كثيرة فالذكور عادة ما تكون أكبر من الإناث حجماً وأكثر قوة وطولاً وغالباً ما تكون رأس الذكر أكبر من رأس الأنثى بفارق بسيط نتوصل إلى ذلك بالتدقيق وقوة الملاحظة.
كما أن الذكور إذا نظرت إليها من الأمام مثلاً ستلاحظ أن ملامح وجهها تكسوها تكشيرة وحالة من الغضب، يبدو ذلك واضحاً في هيئة الحاجبين فوق العين، فذكر الحمام بطبيعته شرس مسؤول عن الدفاع عن الأنثى وعن العش، ولذا فهو دوماً في وضع استعداد للعراك وهو ما يجعله دائماً في حالة غضب يصدر أصواتاً مبهمة كما لو كان يزمجر كلما اقترب منه الإنسان، بينما الأنثى تكون بشوشة وملامحها هادئة، كما أن وقفة الذكر تكون وقفة منتصبة لأعلى وصدره عريض مفرود ويسير في تعالٍ وثقة، وريشه أكبر من ريش الحمامة، ويكون أكثر لمعاناً عند تعرضه لضوء الشمس بينما الأنثى عادة ما تبقى منكمشة في وقفتها وتسير في خجل وهي دائمة التلفت برأسها يميناً ويساراً بسبب شعورها الدائم بالخجل والخوف!
كائن عائلي!
"الشيخ محمد علي - 49 سنة"، عضو جمعية تربية الحمام، استمعنا إليه، وهو يقول: لكل نوع من الحمام غرض وهدف من اختياره للتربية، فهناك نوع يربى لسرعة طيرانه مثل حمام القزاز، وهناك ما يربى لجمال شكله مثل الحمام الهزاز والنمساوي، ومنها ما يربى لطيرانه إلى مسافات بعيدة ويعود ثانياً إلى مسكنه مثل الحمام الزاجل أو المراسلة، ومنها ما يربى لجمال صوته مثل الحمام اليمني، ومنها ما يربى لطريقة طيرانه الغريبة مثل حمام "الشقلباظ" فهو يتقلب أثناء الطيران ويغير وضع جسمه عدة مرات ثم يعود إلى الوضع الطبيعي للطيران!
وعن أسعار بيع وشراء الحمام يقول الشيخ علي: هي تجارة تخضع مثل غيرها للعرض والطلب حسب كمية المعروض في السوق وحجم الإقبال على نوع بعينه، وإن كان متوسط أسعار الزوج الواحد من الحمام أي "الذكر والأنثى" معاً يبدأ من 50 جنيهاً ويصل إلى آلاف الجنيهات، وذلك حسب النوع واللون والفصيلة ومستوى التدريب ومقدرته على الطيران لمسافات بعيدة.
وأضاف: ليس كل الحمام من فصيلة نقية، فهناك عملية تهجين تحدث بين بعض أنواع الحمام ويقوم بذلك المربون أنفسهم من خلال تزويج أنثى من نوع لذكر من نوع آخر، حيث يتم الجمع بينهما في قفص لعدة أيام مع توفير الطعام والشراب لهما إلى أن تتم الألفة بينهما ثم التزاوج، ومن ثم يكون الناتج من تلك الزيجة زغاليل صغيرة تحمل صفات الأم والأب لافتاً إلى أن "صنف الهجين" يتميز بصغر حجمه.
ويشير محمد علي إلى أن الحمام بطبيعته كائن عائلي، حيث يرتبط الذكر مع الأنثى ببعضهما البعض عند بلوغهما أربعة أشهر من العمر، ويظلان معاً مدى الحياة حيث يمتد العمر بالحمام من 10 - 15 سنة.
أنثى الحمام تبيض ما بين 8 و10 مرات كل سنة وعادة ما تضع بيضتين وترقد عليهما ويساعدها الذكر إلى أن يفقس البيض بعد 3 أسابيع وتخرج للوجود الزغاليل فتبدأ مرحلة أخرى من التربية إلى أن تتمكن من الطيران فيتم نقلها إلى عش جديد!
ومن المهم أن يزود المربى عشة الحمام دوماً بالماء والطعام في أوانٍ مخصصة كي تتغذى عليها الحمامة دون أن تحتاج إلى الخروج والبحث عن الرزق بعيداً عن العشة، فذلك يعد نوعاً من الأمان لاسيما في الفترة التي تقضيها الأنثى وهي ترقد على البيض، وكذلك وهي تربي الصغار بعد الفقس لافتاً إلى أن الحمام يعتمد في غذائه على الحبوب مثل: الفول والذرة والقمح والشعير.
ساحة النقاش