أ.د/ صلاح الدين عبد الرحمن الصفتي Prof. S.A. El-Safty

كلية الزراعة جامعة عين شمس- موقع علمي متخصص في علوم الدواجن - مقالات علمية وثقافية Faculty of Agric

<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman","serif";} </style> <![endif]-->

البيوتكنولوجي ثورة الحاضر والمُستقبل

إعداد: د.صلاح الدين عبد الرحمن الصفتي

 

يقول عالم الوراثة المصري الشهير وعضو اتحاد الكُتاب ومجمع اللغة العربية الدكتور أحمد مُستجير رحمه الله "أن أجمل الشعر هو ما يصيبك عند قراءته بالدهشة، وأن أجمل العلم كأجمل الشعر يصيبك بالدهشة". ويَسترسل العالم الكبير ويقول تعلمنا أن الذرة لا تنقسم ولكنها وبعد أن عَبث بها العلماء وبتركيبها الرهيف انشطرت ولعل هذا الانشطارخلَّفَ ما هو محفور في تاريخ البشرية ولم يُنسى وهو الدمار الهائل الذي حلَ بهيروشيما ونجازاكي باليابان وكارثة القنبلة الذرية. أيضاً تعلمنا أن الجين وهو وحدة الوراثة لا ينقسم ولا ينتقل من مكانه في نواة الخلية، وها هو الآن وبعد الأبحاث المستمرة انشطر الجين، بل وانتقل بين الكائنات فيما يُعرف بالتطعيم الجيني، ولا ندري هل سنسمع ذات يوم عن صُنع ما يعرف بالقنبلة الجينية، وما نتائجها المتوقعة على البشرية هل رخاء أم زوال ؟ هل سننام ونصحو ذات يوم لنجد رؤوس بني البشر على جثث حيوانات، ورؤوس حيوانات على جثث بني البشر كما يقول الشاعر صلاح عبد الصبور. وعموماً فإن البيوتكنولوجيا (التقنيات الحيوية) مثلها مثل الالكترونات الدقيقة والتطورات الحديثة في مجال الطب كلها تتغير بسرعة كبيرة بطرق تؤثر في خبراتنا وفي تركيب مجتمعنا ولها نفس اتساع وعمق الثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ففي جعبة البيوتكنولوجيا بلا شك إذا سُيِّرت إلى طريق الخير الحل لمشاكل الجوع والمرض والتخلف. ويشتمل هذا العلم على استخدام كل التقنيات الحديثة لتداول الأنظمة الحية على المستوى الخلوي وكذلك على مستوى مُكونات الخلية حيث يتضمن على سبيل المثال تقنيات مزارع الخلايا والأنسجة وكلونة الحيوانات (استنساخها) وتخزين ونقل الأجنة وغيره. وتنحدر البيوتكنولوجيا من سلف قديم، حيث أنها في قِدم أول مشروب مُخَمَّر وأول كوب من الزبادي وأول قطعة جُبن، فمنذ آلاف السنين استخدم أناس من مختلف الحضارات هذه العمليات البيولوجية في شكل مُنظم لصناعة الأغذية والصبغات والأدوية والوقود والمواد اللاصقة والورق والمُخصِبات، بل أن الكثير من هذه العمليات يقع في موقع القلب من بعض الصناعات التقليدية مثل صناعة البيرة أو مُنتجات الألبان.

 أمكن باستخدام البيوتكنولوجيا تفصيل كائنات جديدة تقوم بمهام مختلفة لم تخطر على بال أحد حيث من الممكن أن تقوم البكتريا الآن بصناعة البروتين الآدمي وأن تُفرز البلاستيك وأن تُنتج مُضادات التجمد وأن تَهضم نشارة الخشب وتحولها إلى بروتين يُؤكل، وأن تعيش على نفايات البترول وأن تُحلل مُبيدات الأعشاب وأن تُحول النفايات الآدمية إلى غذاء، وإذا أضفت كل هذا إلى ما يمكن للخمائر أن تصنع (صناعة الكُحول من مواد مختلفة غير معقولة)، وما يستطيع العفن أن يصنع، وما تستطيع الخلايا النباتية والحيوانية والبشرية أن تصنع، فسيكون بين أيدينا نِتاج ثورة هائلة. ولعل ما كان يُصور قديماً كدَرب من دُروب الخيال العلمي أصبح الآن ومع استخدام التقنيات الحيوية واقعاً فعلياً، حيث بالفعل أمكن أن نُفَصّل كائنات حية حسب الطلب تقوم بمهام صناعية مُحددة، من خلال تبادل الجينات بين الكائنات وتجميع وظائفها وتعشيق قدراتها، وتخليق كائنات جديدة تفوق قدرات وصفات الأنواع الأصلية.

بكتريا مُنتجة للبن:

تمكن العلماء الآن من إنتاج بعض مكونات اللبن داخل البكتريا عن طريق الهندسة الوراثية، حيث الفكرة هنا هي دراسة العوامل التي تتحكم في تخليق مُكونات اللبن، ولكن ثبت أن هذه البدائل تثير كثير من الجدل عند تسويقها في دول العالم الثالث، ولكن هذا يعتبر مثالاً واحداً لقدرة البيوتكنولوجيا على أن تأخذ مادة جسمية كمكونات الدم أو العرق أو الدموع وأن تُصنعها بكميات هائلة داخل بكتريا أُعيدت برْمَجتها لتصبح بذلك مصنعاً كيماوياً مُنتجاً.

النفايات أصبحت بروتين شهي للإنسان:

من المعروف أن ما ينتج من صناعة الورق والغزل والغابات وصناعة السكر من قصب السكر وصناعة الحلوى وتربية الخنازير وغيرها مما لا يُعد ولا يُحصى من أوجه النشاط يتخلف عنه نفايات يصل حجمها أحياناً إلى مستوى عملاق، حيث يتم التخلص منها إما بالحرق أو ضخها مع الصرف الصحي، وأحياناً ما تترك على الأرض، وقليلاً ما يُعاد استخدامها وهذا في قليل من الدول. ومع الدخول في اللعبة المعروفة بالبيوتكنولوجي، أمكن استخدام هذه الفضلات في تغذية البكتريا التي تستطيع أن تحللها وتحولها إلى بروتين، وعندئذ يُمكن أن تُجفف البكتريا المُحملة بالبروتين أو تُطحن أو تُشكل في هيئة حبوب أو تضرب لتأخذ أشكالاً شهية، ولا شك أنك تستطيع أن تضيف إليها بعض التوابل ثم تحشو بها السجق ولن تجد ما يحس بالفرق حينئذ. لقد طور بروفسور مو- يونج الأستاذ بجامعة ووترلو بكندا طريقة يمكن بها تحويل مُخلفات الغابات والقلف ونشارة الخشب وشظايا الخشب الصغيرة التي لا تُستخدم في أعمال النجارة إلى غذاء غني بالبروتين. وفي الوقت الحالي توجد أغذية بكتيرية وفطرية جديدة تُنَمَّى على مواد لا عضوية ليست من النفايات. فلدى شركة آي سي آي الإنجليزية طريقة تُربى فيها بكتريا خاصة على غذاء من النشادر والهواء ونوع من الكحوليات يصنع من غاز بحر الشمال، ثم تُحَوَل المزارع البكتيرية إلى طعام يُسمى "بروطين" يُستخدم في تغذية الخنازير والماشية والدواجن كبديل لمسحوق الصويا. وبشكل عام فإن البيوتكنولوجيا تتطور بشكل مُتسارع لتحويل المُخلفات والنفايات والفضلات والقاذورات والبقايا والمُنتجات الثانوية إلى مواد غذائية أساسية، يُمكن أن يكون لها مُستقبل عظيم إذا ما مُزجت بمُكسبات النكهة والمُلدنات ومُكسبات القوام والمواد الحافظة والصبغات، ومن الممكن أن تُقدم لنا البيوتكنولوجيا وجبة أسماك مُصنعة خلف مصنع للورق أو شطيرة لحم من مزرعة لقصب السكر.        

تحريك وتبادل الجينات:

إن جوهر البيوتكنولوجي هو محاولة تحسين قدرات الكائنات الحية وذلك بعدة طرق منها تجميع الخصائص والصفات من أنواع مختلفة عن طريق التعديل في المادة الوراثية في تلك الكائنات بزراعة جينات جديدة بها فيما يسمى بتحريك وتبادل الجينات الوراثية. وصناعة لبن الإنسان في الميكروبات هي نتيجة لتوليفة جذرية أبعد بكثير، فمن المعروف أن البكتريا ليست بها غدد لبنية ولا هي مُفرزة لبروتينات اللبن، ولكن في إمكان العلماء أن يدفعوا البكتريا لصناعة بروتينات اللبن عن طريق إضافة التعليمات الوراثية اللازمة من خلايا الإنسان. وأمكن من خلال البيوتكنولوجيا عزل جزيئات الجينات، ثم نقلها من خلية إلى أخرى، ثم جعلها تتوافق داخل الجهاز الخلوي في المكان الملائم لها تماماً حتى يتمكن الجهاز من العمل لإنتاج جزيء جديد تماماً. ومن الجدير بالذكر أن إجراء هذه العمليات هو نوع من المهارة، له ثمن مرتفع في أسواق العمل البيولوجي. وفي تجربة علمية أجريت بجامعة أوهايو سنة 1981 نجح الباحثون في دمج جينات الجلوبين من الأرانب (وهي جينات تتحكم في إنتاج أحد مكونات كريات الدم في الأرانب) في بويضات مُخصبة لفئران، بحيث أمكن اكتشاف وجود جلوبين دم الأرانب في دم بعض الفئران الناتجة، كما وجد أن جين الأرانب قد انتقل إلى بعض الأفراد من الجيل التالي.

البيوتكنولوجي وصناعة الدواء:

 بدأت صناعة الدواء بالفعل في تسويق مُنتجات الهندسة الوراثية، ولقد ثَبت أن الأدوية العلاجية التكنولوجية المُعاصرة تمثل مجالاً عظيم الربح لشركات الأدوية، والكثير من هذه الشركات قد وصل إلى ثراء كبير، ولكن المشكلة التي تواجه هذه الشركات الآن هي إيجاد مُنتجات جديدة يمكن أن تُباع بكميات كبيرة وبهامش ربح كبير، حتى تسترد التكاليف الهائلة للتطوير والترويج. من أحد التدابير الممكنة هو اختيار بعض المواد الطبية التي تُستخلص من الأعضاء البشرية أو الحيوانية بتكاليف عالية، كالأنسولين المُستخدم في علاج مرض السكري، أو الإنترفيرون المُستخدم في بحوث السرطان، ثم إنتاجها بشكل أرخص داخل البكتريا. كما يمكن أيضاً استخدام الهندسة الوراثية في زيادة محصول المُضادات الحيوية من الفطر الذي يُنتجها.

البيوتكنولوجي والزراعة:

وفي الزراعة ارتبطت التطورات في هذا المجال بوضوح بما يحدث في الصناعات الغذائية، أيضاً في إنتاج هُجن من نباتات بعض المحاصيل الجديدة مثل التريتيكل، وهو هجين بين القمح والجويدار، كما تُنتج أنواع من الأقماح مُحولة وراثياً يمكنها أن تنمو في التربة المالحة بالإضافة إلى مقاومتها لبعض الإصابات المرضية. وفي نفس الاتجاه أمكن إنتاج محاصيل حبوب يُمكنها أن تُثبِّت نيتروجين الجو، وبذلك يمكن أن نتخلص من الحاجة للأسمدة الاصطناعية المُكلفة، وفي مواجهة ذلك تقوم شركات الكيماويات التي تُصَنّع هذه الأسمدة بتطوير مُنتجات بكتيرية تقوم بنفس هذا العمل. وفي مجال الإنتاج الحيواني أمكن باستخدام الهندسة الوراثية رفع كل من إنتاج اللحم واللبن من الماشية، وبشكل عام أمكن توصيف البيوتكنولوجي في مجال تربية الحيوان على أساس ثلاثة اتجاهات:

الأول: على مستوى الحيوان..

أمكن في السابق إجراء عملية الاستنساخ من أنسجة جنينية غير مُتخصصة مثل خلايا الجذع في المراحل الأولية للجنين، ولكن أمكن كسر ما يُعرف بالكمون التخصصي لما اصطلح عليه بالاستنساخ Cloning، والذي تم باستخدام تكنيك يسمى التحويل النووي Nuclear Transfer وبواسطته أمكن نقل النواة من خلية في نسيج غدة الضرع في نعجة إلى بويضة مُخصبة (زيجوت) منزوعة النواة ثم نشطت البويضة المستقبلة بتيار كهربي ونقلت إلى رحم نعجة مُعَدّة لذلك، فبدأ هذا الزيجوت في الانقسام ثم التخصص والنمو إلى أن اكتمل الحمل ثم الولادة. وقد تم نقل الأنوية إلى 277 بويضة نجحت منها واحدة فقط وهي النعجة الشهيرة "دوللي".

الثاني: على مستوى الجنين..

بلغت تكنولوجيا نقل الأجنة خلال الثلاثة عقود المنصرمة درجة عالية من التميز من حيث استخلاص الأجنة وتخزينها وزراعتها، ومنذ فترة أمكن زيادة مُعدل تبويض بقرة واستخلاص غير جراحي لعدد من الأجنة منها يصل إلى 30، وإن كان في المتوسط في الأبقار حوالي 4. بينما أصبح التجميد والإسالة للأجنة أعمالاً روتينية وسهلة دون تأثير كبير على حيوية الأجنة. وكذلك زراعة الأجنة بواسطة آلة التلقيح الاصطناعي وهي أيضاً طريقة غير جراحية. والفائدة الأساسية من هذا التكنولوجي هي إمكانية إنتاج نسل من الأنثى أكثر مما في التناسل العادي، فمثلاً مع أن البقرة في مبيضها حوالي 75000 بويضة إلا أنه من الناحية العملية فإن البقرة تُعطي حوالي 4 عجولاً فقط خلال حياتها الإنتاجية، وباستخدام هذا التكنولوجي يمكن أن يزداد هذا العدد إلى 25 وربما إلى أكثر من 100 في بعض الحالات، وقد عُرف هذا التكنولوجي باسم تكنيك التبويض المتعدد ونقل الأجنة Multiple Ovulation and Embryo Transfer (MOET).  

الثالث: على مستوى الجين..

 حيث تتلخص هذه التقنية في نقل المادة الوراثية (دنا) DNA من حيوان لآخر في النوية الأولية التي سوف ينتج عنها الحيوان الجديد، وقد يكون هذا النقل من حيوان إلى آخر من نفس النوع أو من نوع مُختلف أو حتى مملكة أخرى مثلاً، من النبات إلى الحيوان. والغرض من هذا النقل هو إضفاء صفات مُعينة في الحيوان المنقول إليه المادة الوراثية وتسمى مثل هذه الكائنات بالكائنات النقلجينية Transgenic. ومن أهم الصفات المراد تحسين أداء الحيوان فيها عن طريق هذه التقنية الحيوية صفة زيادة النمو، أو جعل الحيوان يُنتج مُنتجاً له صفة فارماكولوجية (علاجية) خاصة كما في الأغنام النقلجينية المُنتجة للبن المحتوي على العامل البشري IX للمرضى من البشر المُصابين بسيولة الدم، وهذا الجين نُقل إلى الأغنام من الإنسان ويسمى مثل هذا الإنتاج بالزراعة الجزيئية Molecular Farming أو المُولدات الحيوية Bioreactors. وبشكل عام فإن كفاءة عملية نقل الجينات في الحيوانات المزرعية منخفضة جداً، فمن كل 200 زيجوت يتم حقنها بالمادة الوراثية (دنا) ينتج عنها من 1-5 حيوانات نقلجينية، وربما في السنوات القادمة ومع الأبحاث المستمرة تتحسن تلك التقنية وتكن أكثر نجاحاً.

وبناءاً على ما سبق فإنه لاشك أن البيوتكنولوجيا كانت في البداية حلم وخيال لا يُصدق إلى أن أصبح هذا الحلم حقيقة نراها الآن ونرى نتائجها بل ونتعجب ونُذهَل منها، ولا نعرف أين ستصل بنا أبحاثها وإنجازاتها. ولكن وجب علي أن أشير إلى شيء هام وهو أن العلماء مهما توصلوا بأبحاثهم لا يقدرون على خلق حياة بل ما يفعلوه ببساطة هو العبث واللهو في الأنظمة الحيوية الكائنة لا خلق حياة أو كائن حي حيث لا خالق إلا الله جل في علاه، ويجب أن لا ننسى قول الله تعالى في كتابه العزيز " وَيَسْألُونَكَ عَنِ الرُوحِ قُلِ الروحُ مِنْ أَمْرِ ربِّي وَمَا أُوتيتُم مِّن الْعِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً". سورة الإسراء آية 85.                         

المراجع:

  • إدوارد يوكسين (ترجمة أحمد مستجير)- 1985- صناعة الحياة (من يتحكم في البيوتكنولوجيا)- مكتبة غريب- القاهرة-    مصر.
  • صلاح جلال- حسن كرم- تربية الحيوان- 2003- الطبعة السادسة- مكتبة الأنجلو المصرية- القاهرة- مصر.
المصدر: • إدوارد يوكسين (ترجمة أحمد مستجير)- 1985- صناعة الحياة (من يتحكم في البيوتكنولوجيا)- مكتبة غريب- القاهرة- مصر. • صلاح جلال- حسن كرم- تربية الحيوان- 2003- الطبعة السادسة- مكتبة الأنجلو المصرية- القاهرة- مصر.
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 767 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,117,402