مفهوم دولة القانون
أ.د. ماهر الصواف
لا يمكن تحقيق الاستقرار والأمان في جماعة ما إلا بوجود قواعد تنظم العلاقات بين أفرادها وتمنع التعدي علي حقوقهم . وكانت المجتمعات البدائية تعتمد علي عدد من القواعد العرفية وتكونت مؤسسات شبه اجتماعية مثل الكبار أو المشايخ لإدارة شئون الجماعة ، واكتسبوا طاعة الأفراد وسلطة استخدام القوة ضد كل من يخالف هذه القواعد من رابطة الدم والعلاقات الأسرية وما يقدموه من حماية للمجتمع من أي تعدي خارجي. ومع تطوّر الزمن وتضخم المجتمعات تم اساءة استخدام هذه السلطة وظهر نظام الحكم المطلق.
ومع انتشار المسيحية في العصور الوسطي ساد الاعتقاد بأن الحكام مخولين من قبل الله ولا يجوز معارضتهم وأن طاعتهم من طاعة الله. وقد ترتب علي ذلك أن احتكر الحاكم ورجال الدين تحديد ما هي السلوكيات والتصرفات المخالفة للشرعية وما هو محرم أو مباح .وسرعان ما تحول حكم هؤلاء وفق أهوائهم الشخصية وتحول بذلك نظام الحكم المعتدل إلي نظم مستبدة يقوم بتعذيب واعتقال وإعدام كل من يقدم أفكار علمية لا تتفق مع أفكارهم أو يرفض الطاعة لهم او يبدي الاعتراض علي قراراتهم.
وتبلور مفهوم دولة القانون تدريجياً في أوروبا كتصور بديل عن الدولة الحكم المطلق والسلطات المطلقة الذي يحظى فيها الحكام . ومع بداية عصر النهضة اخذ مفهوم دولة القانون ينتشر تدريجيا أواخر القرون الوسطى. " فالعهد الأعظم Magna Carta the Great Charter of the Liberties) ) الذي عرفته بريطانيا عام 1215, حدد مجموعة قواعد ومجموعة حقوق تهدف لحماية الفرد من التعسف . ومع ثورة 1689 أقرت وثيقة الحقوق " Bill of Rights " مبدأ السلطة حق للشعب.
ومصطلح دولة القانون هي كلمة من اصول ألمانية (Rechtsstaat) وتستند على الأفكار التي اكتشفها ايمانويل كانت، حيث أوضح ان القانون هو إطار عقلاني يضمن ان يعيش الناس في ظل الضمانات المشرعة لحقوق الملكية الخاصة وحرية الفكر، وليتحقق ذلك يجب وضع قانون دستوري يستمد سيادته من اعتبارات تحقيق العدالة والإنصاف ، ويعلوا كافة القوانين العادية .
واستنادا إلي الفكر الألماني المعاصر يستلزم إقامة دولة القانون توافر الأسس التالية :
أولا : إذا كانت السلطة في الدولة التقليدية متمركزة كليا وبشكل مطلق في شخص واحد هو بمثابة الواهب للخيرات او الحارم منها فإن دولة القانون هي دولة يتم فيها توزيع السلطة واقتسامها لا على أفراد بل على مؤسسات: تشريعية ، وتنفيذية ، و قضائية وهي تعمل وتمارس السلطة المحددة لها في الدستور والقوانين ومقيدة بها ووفقا للضوابط المحددة بها.
ثانيا :التطبيق الفعلي لمبدأ (لا أحد فوق القانون) سواء في الحياه السياسية او الاقتصادي أو الاجتماعية وإلغاء كافة الإمتيازات لرجال السلطة أو لأعضاء مجلس النواب او التميز بسبب الأصل أو الدين ولا فرق في ذلك بين رجل السلطة والمواطن العادي. وأن يكونوا جميع المواطنين متساوين أمام القانون.
ثالثا : أن يكون فيها الدستور والقانونين الأخرى هي الضامنة لحريات الأفراد وحقوقهم الإنسانية والفكرية مع مراعاة التوازن بين ضرورات المحافظة علي الأمن العام وضمانات الحقوق والحريات العامة، لأن تغليب ضرورات الأمن قد يؤدي الى الاستبداد ويساعد علي سوء استغلال السلطة.
رابعا : ضرورة توافق النظام السياسي في دولة القانون مع دستور الدولة، لأن الدستور يحمي الحقوق المدنية وحريات الرأي والمعتقد ويقضي بالمحافظة علي كرامة الإنسان , ولا يمكن للدستور أن يكون فاعلاً ليحمي الحقوق والحريات إلا إذا كانت السلطة الحاكمة خاضعة لسلطة القانون وليست لسلطة الفرد أو حماعة دينة أو فئة مجتمعية معينة .
رابعا : تفعيل حوكمة نظام الحكم وإعمال عناصرها ومن أهمها : الشفافية، والمسائلة ، والمشاركة المجتمعية (المجتمع المدني ) واللامركزية في إدارة الخدمات العامة لتحقيق المساواة في تقديم الخدمات العامة والحد من إساءة استخدام السلطة والفساد .
خامسا : وأخيرا ضمان استقلال القضاء مع توافر قضاء ناجز وفعال ، إذ ان طول اجراءات التقاضي والتأخر في حسم النزاعات -لأسباب غير مبرره لسنوات قد تصل إلي أكثر من عشر سنوات - يعد إنكارا للعدالة وذلك وفق ما جاء بأحكام القضاء الفرنسي ( راجع : www.bibliotdroit.com
وهكذا يمكن القول انه هناك ارتباط وثيق بين دولة القانون وتمتع المواطنون بالحريات المدنية قانونا و لا يمكن لبلد أن يكون به حرية ولا ديمقراطية بدون أن يكون به اولا دولة قانون.