استفزني بدرجة كبيرة خطاب السيد المشير الذي وجهه للشعب المصري بعد أحداث 19 نوفمبر، مما جعلني كمتخصص أحاول قراءته وتحليله من وجهة نظر الطب النفسي وعلم التواصل الإنساني، وخاصة أن الإعلام المصري ظل يعلن بإصرار مبالغ فيه عن الخطاب قبل ظهوره بأكثر من عشر ساعات ليسمح من وجهة نظري للتكهنات ولزيادة عنصر الإثارة والتشويق ورؤية ما ينتظره الشارع من الخطاب.
ولذا أردت النظر إلى الخطاب من حيث الشكل والمحتوى، فمن حيث الشكل أراد المشير أن يعطي للمشاهد إحساسا بالثقة الكبيرة في نفسه والقدرة على السيطرة والتحكم والقوة من خلال استمرار التواصل البصري مع الشاشة بلا انقطاع طوال الحديث، حيث لا يقرأ من ورق أمامه مما يمنعه من قطع التواصل البصري، وهو تفكير واتجاه إيجابي لولا أن توتره الشديد منع وصول هذه الرسالة للشعب.
وقد ظهر توتره الشديد في عدة نقاط وهي:
1. طريقة وقفته حيث لا يقف الوقفة العسكرية أو على الأقل المنتصبة بل ظهر منحنيا للأمام ومهدل الكتفين مما يعكس تعرضه للإجهاد العصبي الشديد.
2. الحركة المستمرة لليدين وتشبيك الأصابع طول فترة الخطاب كتفريغ لا إرادي للتوتر الداخلي.
3. السرعة في الكلام كانت جيدة وهي إحدى طرق التحكم في التوتر.
4. ظهور بعض زلات اللسان أثناء القراءة (لا نقف على مسافات متساوية، محاولات التخويف بدلا من التخوين)
5. التصلب الشمعي في صورة عدم استخدام تعبيرات الوجه أو إشارات الأيدي تماما
6. تركيز المخرج على اللقطة البعيدة لإخفاء تعبيرات الوجه عن المشاهدين ولمنع ظهور علامات التوتر.
7. النغمة الوحيدة للصوت وعدم استخدام تنوع النغمات مما يعطى للآخر الإحساس بالثقة.
وعند مناقشة محتوى الخطاب يظهر الآتي:
1. استخدام المدخل العاطفي وأدوات التفخيم (شعب مصر العظيم) كمحاولة لكسب ود المشاهدين لكنها كانت تحتاج أن تستمر لفترة أطول من 10 ثواني، لذلك لم تؤتي ثمارها.
2. الخلط بين المجلس العسكري والقوات المسلحة ودمجهما معا طول الحديث وكأنهما كيان واحد لا يتجزأ.
3. استخدام أسلوب المن من خلال التذكير بما فعلوه لهذا الشعب والإنجازات التي حققها المجلس العسكري خلال الدقيقة الأولى من الخطاب وهذا يعكس غياب الحرفية في صياغة الخطاب.
4. استخدام العديد من الحيل النفسية الدفاعية أثناء الخطاب كمحاولة لحل الصراع النفسي الموجود فيه المجلس العسكري من خلال استخدام حيلة الإنكار (لم نطلق الرصاص على أحد، لا يمكن أن نسمح أبدا بالوقوف أمام الشعب، لا نتهاون باتخاذ إجراءات قانونية، لا محاكمات عسكرية)، الإسقاط (اتهام الآخرين بالمزايدة، الإشارة إلى وجود أصابع خفيه ودول أجنبية خلف ما يحدث)، والتبرير (هربت استثمارات كثيرة، يزداد التوتر كلما اقتربت الانتخابات) والتسامي (تحملنا بعض المصاعب والإهانات، تسلحنا بضبط النفس، حاول البعض جرنا إلى..، لا نريد السلطة).
5. ظهر في الخطاب العديد من المعتقدات الفكرية السلبية مثل التهوين مما يحدث (بعض الناس لا ترضى عن أداء وزارة الداخلية)، التخويف والتهديد السلبي (تذكرون كيف كانت الحالة الأمنية بعد الثورة، الاقتصاد يتراجع بشكل ملحوظ، إسقاط الدولة المصرية) وتعمد رفع الصوت حين الحديث عن الاقتصاد لأنه يعلم أهمية هذه النقطة للمشاهدين، التهوين من شأن الآخرين (لم تكن إدارة البلاد بالسهولة.... فالكلام سهل بينما العمل علي أرض الواقع) وكأنه يقول للمشاهدين اللي على الشط سباح.
6. ظهور بعض الاتجاهات الإيجابية في الخطاب مثل التطمين (سنسلم الحكم إلى سلطة منتخبة، نسلم فورا إذا أراد الشعب).
7. محاولة إظهار أن القرار جماعي وبالتشاور محاولة منه للرد على شائعات أن المجلس منفرد بكل شيء (نأخذ ما تتوافق عليه القوى السياسية من قرارات، استخدام كلمة نحن طول فترة الخطاب) لكن زلة اللسان في آخر الخطاب قضت علي هذا الاتجاه (قررت ما يلي.......) فظهرت النزعة الفردية والأنا دون أن يشعر.
8. سحب كل ما قاله من قرارات في نهاية الخطاب (على استعداد تام لتسليم المسئولية....... إذا اقتضت الضرورة ذلك) ففي أول الجلسة يعطي السلطة للشعب وفي آخرها يسلبها منه.
وفي النهاية أرى أن الخطاب لم يرضي طموح الكثيرين لتركيزه على نقاط لا يحتاج الناس لسماعها الآن حيث كانت 9 دق كاملة تتحدث عن ما لا يهم الناس بينما في 30 ثانية قال ما يريدون سماعه، مما يعكس أيضاً عدم وجود دراسة واعية للجانب النفسي للمستمع والمدة التي يحتاجها للتأثر، ومتى يتم إلقاء المفاجأة.
كما أرى أن هذا الخطاب أضر أكثر مما نفع، لأنه ذكر الناس بالمخلوع وطريقته في الخطابة مما أورد اتجاهاً سلبيا منذ البداية ضد المشير والخطاب، وعجل برفض ما فيه حتى دون دراسته.
وأتساءل إلى متى يتم الاستخفاف بالعلم فلا يستعان به، ويتم الاستخفاف بالعقول فلا تأخذ الاهتمام والدراسة من أولي الأمر، يا سادة انتهى عصر المصبطة، أفيقوا يرحمكم الله
واقرأ أيضاً:
ثورة 25 يناير ومكامن الخطر / منظومة الاستبداد (2) / سلوك الحشد/ طفله مصرية تبحث عن "رئيس" / حديقة حيوان طره وما حولها / الجدار العازل وأزمة الإدراك وغياب الفهم / إحباط ما بعد الثورة / الدعوة السلفية التصرفات غير المدروسة تفيد إسرائيل / الذين شوهوا المشهد في مصر / اللعب في الوعي وأسلحة الانقراض الكامل (2 من2) / مستويات وتشكيلات قراءة الأحداث / حكاوي القهاوي (81) / إسرائيل... إذ تضغط لتأجيل الانتخابات المصرية / ظاهرة أبناء مبارك / ألتراس مصر من الملعب إلى الميدان / ماذا فعل عصام شرف بالثورة المصرية / ماذا لو تمكّن مسيلمة الكذّاب؟
نشرت فى 26 سبتمبر 2015
بواسطة dralysmail
دكتور علي اسماعيل للطب النفسي و الاستشارات النفسية والتنمية البشرية والمشكلات الزوجية والاجتماعية
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
110,144
ساحة النقاش