.. في طريقي إلى صلاة الفجر أخرجت هاتفي المحمول ...

 ذهبت أقلب قائمة الأسماء لأعطي رنة كالمعتاد لبعض الأحباب.

لقد اعتدنا أن ينبه بعضنا بعضاً بقرب الأذان.. وكثيرا ً ما سبقوني. فبعضهم لا يحتاج عمليا ً إلى هذا التنبيه.. ولكن القلوب تحب أن تتواصل في هذا الوقت بالذات ولو بمجرد إشارة.

كل اسم في قائمتي له في القلب مكانة كبيرة.. وعند رؤيته على شاشة الهاتف تتدفق ذكريات ومشاعر وتحاول صفحات كتاب كبير أن تتقلب أمامي.. ولكن الوقت لا يسمح بالتوقف والتمتع بمراجعتها.. فاضطر إلى تجاوزها. أحيانا ً يراودني قلبي أن أطيل الرنة وأجعلها اتصالا ً لعلي أستمتع بصوت صاحبي. بالطبع هذا الطلب مرفوض لدواع كثيرة.. أقلها أن الوقت غير مناسب بالمرة. كثيرا ً ما أعالج ضجر قلبي الذي يسأل: وإلى متى؟!!! وهل كان لقاء هؤلاء الأبرار والحياة معهم مجرد حلم وانقضى؟!!! لا أجد جوابا إلا أن الجنة هي الأمل الوحيد الذي يمكن أن نعول عليه.. إن كنا نحلم باللقاء والحياة مرة أخرى بين الكرام.. ولذا فقد قلت لك ألف مرة: إن الاستمساك بالعهد ليس مجرد أمنية.. وإنما إما الصبر عليه.. وإما (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ). جاء الدور عليه.. وهمّ أصبعي أن يبحث عن اسمه في القائمة.. لكن قدمي تسمرت بالأرض بينما تقاطرت دمعات سريعة ساخنة.. فهو الآن ليس قائما في مسجده ينتظر الآذان كالمعتاد.. وإنا لله وإنا إليه راجعون. إنه الآن في قبره. اللهم وسع قبره ونوره.. واجعله روضة من رياض الجنة. دمعة السَحَر نفحة إلهية تحرك القلب فيرق لها وينشرح الصدر.. وتفتح الباب أمام قطرات من ندى المعاني السامية والأحوال العالية. هذه النفحة تمهد الطريق لها غالبا خواطر وأفكار تحوم في هذا الوقت الجميل فيظفر بصيدها القلب المستعد. من هذه الخواطر ذكرى الذين رحلوا. ذكرى الذين كانت رؤيتهم تذكرنا بالله.. مثل "أبى مريم عبد الناصر نوح". فقد كان رحمه الله يوقظنا بالليل في موعد الأذان الأول عندما كانت المسافة بيننا بضع أمتار هناك وراء الأسوار. كنا نسمع نداءه الحبيب.. فنقوم لذكر الله والصلاة ونتضرع إلى الله بالفرج. وها هي الدعوات تستجاب من أوسع أبواب الرحمن الرحيم.. ثم هاهو يوقظني لصلاة الفجر رغم البعد الشاسع الذي بيننا وهو في الصعيد.. وأنا في السويس. لقد كانت معرفتي بأبي مريم منحة من منح الرحمن التي يجود بها في المحن. ولقد خرجت من محن المعتقلات الرهيبة بعقد فريد يرصع قلبي من القلوب الكريمة والشخصيات العظيمة والأرواح الموصولة التي من وصل إليها أعانته على الوصول.. منهم شقيق الروح "أبو مريم / عبد الناصر نوح". كان أول تعرفي عليه في أول اعتقال لي عام 1985 بسجن استقبال طره.. وهو من النوع الودود الذي يبدأ هو ويتعرف عليك ويدعوك للزيارة وغيرها. كان رحمه الله رقيق القلب.. سليم الصدر تجاه الناس.. يحسن الظن.. ولا يحب أن يغتاب أحدا أو يذكره بسوء. كان منشغلا دائما بمراجعة القرآن الذي ختمه.. أو بدراسة علم.. أو قراءة في كتاب.. وكان يميل إلى قراءة كتب ابن القيم ورقائقه. وكان يغريك بصحبته أدبه، وحسن أخلاقه، وتواضعه، وكلماته الطيبة التي يسهب فيها، وخدمته لمن يصاحبه. لما دعاني لزيارتهم في الزنزانة والمبيت عندهم.. تمنيت أن أسكن معهم بعد أن رأيت حسن عشرتهم والروح التي يشيعها في الزنزانة بأدبه، وكلمته الطيبة ، وأسلوبه الجميل، ومرحه المهذب. ولقد كان.. ومنّ الله عليَّ بالسكن مع أبى مريم في زنزانة في سجن شديد الحراسة.. وكانت الحياة معه متعة. نعم.. كانت الحياة معه متعة.. فقد كان هو الذي يضفى على زنزانتنا الجو العام من الحب والمرح، وسهولة المعيشة.. فلم تكن زنزانتنا ـ ونحن ثلاثة ـ تقسم الأعمال بينها كباقي الزنازين.. فلم يرض هو بهذا النظام.. وتكفل بأعمال الزنزانة من غسيل الأطباق وغيرها.. فلم نجد بُدا من مطاوعته ومساعدته. أما جو الحب فقد كان دائما يعبر عن سعادته بهذه الصحبة.. فلم يكن يوم واحد يمر إلا وأبو مريم يقول: "نعمت الصحبة يا جماعة .. والله أنا في غاية السرور بهذه الصحبة الطيبة". وكان لهذه الكلمات أثر جميل في قلوبنا.. فالإنسان يحب من يحبه.. كما أن التعبير عن السعادة يزيد السعادة.. بل قد يوجد السعادة المفقودة. كان يقوم من الليل ما شاء الله له فنقوم على صوته.. ثم نصلى الفجر.. ثم نحب أن نأكل شيئا فيقول مداعبا ـ رحمه الله ـ: "هل لكم في بعض المربى؟". ثم يقوم فيأتي بأطعمة خفيفة. وكانت لنا دعابات نتبادلها نخفف بها شدة الحبس.. وخصوصا إذا جدّ علينا أمر عسير فسرعان ما يقول أحدنا: "لا بأس تاخد دورها وتعدى" . فيرد الآخر: "أي والله أتخن منها وعدت.. وصارت ذكريات.. فلماذا هذه التي لن تمر.. لابد أن تمر ثم نتذكر قوله تعالى: "إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً". وقد تولى الشيخ عبد الناصر المسؤولية فكانت أهم ميزة في قيادته لإخوانه الرحمة والتيسير وقد كان على قدر المسؤولية، والهمة العالية ، والإتقان لأي عمل يتولاه. وقد شاء الله تعالى برحمته أن يكون الشيخ عبد الناصر في نفس الجناح الذي أسكنه في بداية تغيير المعاملة في السجن وإغلاق الأبواب علينا ومنع الفسحة والزيارة.. فهو من النوع الذي يتلقى الشدة بالعبادة.. فيمنحه الله الرضي والسكينة واليقين في الفرج وتثبيت من حوله والدعوة إلى التفاؤل والأمل. ومن المنح الإلهية التي منّ لله بها علي وما زلت أذكرها تلك الأيام الجميلة التي قضيتها في المراغة مع الشيخ عبد الناصر نوح.. وعدد من الإخوة الذين على شاكلته سافرت إليهم وكانوا معتكفين في مسجدهم الذي ما زلت أذكر ما كان يعمره من السكينة والخشوع. حتى أنه كانت تسكن في وسط سقفه يمامة تضيف إليه روحا من الوداعة والرقة والاطمئنان.. فنعمت بعدة أيام في غاية المتعة الروحية والحب والصفاء. إن الأرواح الطيبة تعطى للمكان الذي تسكنه روحا طيبة محسوسة تكاد تنطق.. ربما لأن عبادتها وذكرها لله تعالى ينزل إلى المكان الملائكة التي تشم القلوب الطيبة.. كما نشم نحن أجود العطور فتنجذب إليها وتحط عندها.. بل تصلى وراءها. ولقد دارت بنا الأيام بين اللقاء الحميم والفراق الأليم.. وكنا قد تعارفنا في السجون على استقبال القادم إلينا استقبالا حميما بالأناشيد والكلمات الطيبة التي تذيب صدمة الاعتقال.. وتبشر هذا المعتقل الحديث بحسن المقام بيننا وبقصر الفترة.. وقرب الفرج بإذن الله تعالى. وكذلك كان وداع كل أخ مفرج عنه حيث يجتمع جميع الإخوة لوداعه فيلقى كلمة قصيرة غالبا ما يعتذر فيها عن أي إساءة لأحد.. كما يظهر فيها ألم الفراق لهذا الجمع الكريم.. ثم ننشد بعض الأناشيد الغنية بالمعاني العالية مثل : يا إخوتي كنتم لنا في سجننا أغلى رفيق ولقد علمنا منكمو زاد المسافر في الطريق هل بعد هذا نفترق ؟؟! فيردد الجميع: لن نفترق ... لن نفترق... ثم يكمل: فضعوا الأيادي بعضها من فوق بعض للعهود والله يشهد عهدنا والله من فوق العهود هل بعد هذا نفترق ؟؟! فيردد الجميع بعد أن يشبكوا الأيادى: لن نفترق لن نفترق هل بعد هذا نختلف ؟؟! لن تختلف لن نختلف فإذا انتهى الحفل وسلم الراحل عنا على الجميع واحدًا واحداً ثم حمل حقائبه وانصرف.. ودعناه بنشيدنا جميعا: إلى اللقاء أحبتي إلى اللقاء إلى اللقاء أحبتي إلى اللقاء نكررها فتذرف الدموع وتلوح الأيادي وتهتف الألسنة مع السلامة مع السلامة: وسوف نلتقي ويحسن اللقاء بملتقى نبينا وملتقى العلاء وكان الإخوة المنشدون يتفننون في اختيار الأناشيد المناسبة لهذا المقام.. وكانت كلماتها بأصواتهم العذبة ومن ورائها مشاعرهم الصادقة من قلوبهم المفعمة بالحب تؤثر في الحجر.. فلا ترى في الحفل إلا دامعا أو مجهشا بالبكاء ومن هذه الكلمات على سبيل المثال من قصيدة أمينة قطب رحمها الله: هل ترانا نلتقي أم أنها كانت اللقيا على أرض الســراب ثم ولت وتلاشى ظلها واستحالت ذكريــــــات للعــذاب هكذا يسأل قلبي كلما طالت الأيام من بعد الغيـــــــــاب كان الشيخ عبد الناصر يحب هذا النوع من الاحتفالات رغم ضيق بعض الإخوة ورأيهم أنه لا داعي لها.. لكنه رحمه الله كان يقول: "إن هذه الاحتفالات ستظل مطبوعة في قلب الأخ.. خصوصا وهى أول ما يلقاه في السجن أو آخر ما يودعه.. وربما كانت هذه المشاعر وهذا الحب سببا في ثبات الأخ يوما ما". وهذا ما حدث بالفعل فيما بعد. أقول: دارت بنا الأيام وتقلبت بين لقاء وفراق كما كان يقول هو: "هكذا الدنيا لقاء وافتراق ثم لقاء.. عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه". وكان يذكر قول الله تعالى (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ).. ثم يدعوا الله تعالى أن يكون ألم فراقنا هذا في الدنيا سببا في نجاتنا يوم القيامة من مفارقة المؤمنين إلى النار . وكان آخر سجن اجتمعنا فيه هو سجن الوادي الجديد ومحنته.. وكان هو رحمه الله ثابتا.. بل علما على الثبات يقتدي به الإخوة كما اقتدوا بخلقه وتعبده وكلمته الطيبة.. وكان وجوده في مكان ما بركة على هذا المكان خصوصا في علاقات الإخوة بقياداتهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض. كان رفيقا آتاه الله الرفق فرفق بإخوانه .. اللهم أرفق به. ومن رفق ربه به أنه ألهمه معنى في قلبه هوّن عليه هم المرض.. ففي زيارتي له قال: "أنا حاليا لا يهمني المرض فقد أخذت بالأسباب وأنا مفوض الأمر فيه إلى الله.. ولكني أحمل هم ما سيكون في أول ليلة في القبر". هذا الهم جعله ينسى هموم المرض وتوابعه والموت وما بعده من أمور الدنيا كفراق أهله وترك بناته الثلاث. ولذلك فقد وجدته كما هو متفائلا مرحاً. تذكرنا أيام البلاء والمحنة وأخذ يضحك ويقول : "ها هي قد أخذت دورها تلك الأيام.. وعَدّت كما كنا واثقين وأصبحت ذكريات". ولذا فقد قال رحمة الله عليه: "أريد أن أقول لإخوة الجماعة الإسلامية: هذه الأيام التي نمر بها لن تدوم.. ولن يدوم انقطاعنا عن الدعوة وحرماننا من المساجد". رحم الله أبا مريم زرناه لكي نشد من أزره.. فإذا به يشد أزرنا اللهم أكرمه بكرمك وأحسن إليه. الله إنه عبدك ابن عبدك أنت خلقته وأنت رزقته وأنت هديته للإسلام مرجعه إليك ، ووقوفه بين يديك ، وحسابه عليك. اللهم يسر حسابه.. وأكرم وقفته بين يدك. اللهم إنك هديت به ورحمت وثبّتّ على صراطك المستقيم فثبت قدمه يوم تزل الأقدام اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده.. وأجمع بيننا وبينه تحت ظل عرشك مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. آمين الجمعة الموافق 11-1-1432هـ 17-12-2010م

المصدر: موقع الجماعة الاسلامية
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 674 مشاهدة
نشرت فى 22 يناير 2014 بواسطة denary

ساحة النقاش

على الدينارى

denary
موقع خاص بالدعوة الى الله على منهج أهل السنة والجماعة يشمل الدعوة والرسائل الإيمانية والأسرة المسلمة وحياة القلوب »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

293,753