أ
الحمد لله الذي أنعم علينا بتوحيده.. ومّن علينا بذكره وتسبيحه وتحميده.. فأحيا قلوبنا بمحبته.. ورفع ذكرنا بذكره.. والصلاة والسلام على الهادي البشير الذي شرع لنا من الأذكار ما نعتصم به من الزلل.. ونستشفي به من العلل. إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحيانا فننتكس وبعد.، فأذكار الصباح والمساء من أقوى ما يستعين به المؤمن على تجديد إيمانه قبل مكافحة أعمال النهار وهواجس الليل.. وكلما تقدم الزمان وكثرت الفتن والظلمات وتعقدت الحياة وازدحمت وزادت ضغوطها.. كلما كان المؤمن أحوج إلى الاعتصام بذكر الله تعالى.. فهو الحياة وهو النور وهو القوة وهو الملجأ الأمين والحصن الحصين. وبالتأكيد كلما كان التدبر والتأمل في الأذكار أعمق كان انتفاع القلب به أعظم وشفاؤه به أقرب. والتدبر ثمرة من ثمرات العلم بمعنى الذكر الذي يردده اللسان.. وكلما كانت حصيلة الذاكر من المعرفة بمعاني الأذكار أوفر.. كان تدبره أسهل وأكثر.. حتى إنه يظل يقلب الذكر ويتأمله من وجوه عدة.. فمرة من ناحية الإعراب.. ومن البلاغة.. ومن حكم فقهي إلى معنى إيماني إلى حكمة إلهية.. وغير ذلك مما يغرى القلب بالتوغل في أعماق الذكر. وهناك في الأعماق ما أجمل الصدف واللآليء والمرجان.. وما لا عين في غير ذلك رأت.. ولا أذن سمعت.. ولا خطر على قلب إنسان. لأجل ذلك حاولت أن أقدم لك أخي المسلم ما يعينك على تدبر الأذكار.. لعل الله تعالى يمتعني وإياك في جنة الدنيا قبل جنة الآخرة.. وجنة الدنيا هي الرضا به ومحبته وخشيته والتوكل عليه.. ورجاء ما عنده والشوق إلي لقائه سبحانه.. وكل ذلك من ثمرات ذكره. وقد قسمت الموضوع إلى أجزاء على سبيل التشويق ودفع الملل.. وحاولت أن أقلل من الهوامش.. وعزو النقول إلى مصادرها حتى لا أضطرك للانقطاع في موضوع تقل فيه الحاجة إلى توثيق الأقوال لقلة الخلاف فيه.. على أنى سأذكر المراجع في نهاية الموضوع بإذن الله. الجزء الأول:- (أصبحنا وأصبح الملك لله) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال: "أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها ،رب أعوذ بك من الكسل والهرم وسوء الكبر، وأعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر" وإذا أصبح قال ذلك أيضا: (أصبحنا وأصبح الملك لله) رواه مسلم. (أمسينا وأمسى الملك لله) دخلنا في المساء ودخل فيه الملك كائنا لله ومختصا به وهذا بيان لحال القائل أي عرفنا وأقررنا بأن الملك لله. (والحمد لله) لا لغيره فالتجأنا إليه وحده واستعنا به وخصصناه بالعبادة والثناء عليه والشكر له.. ولهذا أعلن بعد ذلك إيمانه وتوحيده فقال: (ولا إله إلا الله وحده لا شريك له). (وحده) فيه توكيد للإثبات . (لا شريك له) توكيد للنفي وهذا تأكيد بعد تأكيد.. اهتماما بمقام التوحيد وتعلية شأنه.. ولما أقر لله بالوحدانية أتبع ذلك بالإقرار له.. بالملك والحمد والقدرة على كل شيء فقال (له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) وفى الإتيان بهذه الجملة المتقدمة بين يدي الدعاء فائدة عظيمة فهو أبلغ في الدعاء وأرجى للإجابة.. ثم بدأ بعد ذلك يذكر مسألته وحاجاته فقال: (رب أسألك خير ما في هذه الليلة).. أي خير ما أردت وقوعه في هذه الليلة للصالحين من عبادك من الكمالات الظاهرة والباطنة ومن المنافع الدينية والدنيوية (وخير ما بعدها) ومن الليالي (وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها) وأعتصم بك والتجىء إليك من شر ما أردت وقوعه فيها من شرور ظاهرة وباطنة ا.هـ . (أصبحنا وأصبح الملك لله) فنحن والملك كله ملك لله وحده فهو المتصرف فينا والمتصرف في كل أجزاء الكون. إن هذا الذكر يحمى العبد من نفخة الكبرياء كما يحميه في نفس الوقت من الذل والخضوع لغير الله أيا كان.. فمادام هو نفسه لله فهو عبد مملوك خاضع.. وهو لا يملك حتى شهيقه وزفيره وأمره ليس بيده بل بيد ربه سبحانه.. فعلى أي شيء يتكبر ويتجبر؟. كذلك مادام هو لله فلا أحد غير الله يملك من أمره هو شيئا.. فلماذا يذل لأحد غير مالكه أو يخضع له؟. وإذا كان الملك كله لله مملوكا وخاضعا.. فكيف يدعى هو أن له من الملك شيئا يتصرف فيه أو من الأمر شيئا يهدد به أو ينفذه. وفى الوقت نفسه كيف يخاف أو يذل أو يخضع لمن ليس له من الملك أو الأمر شيء؟ أو يرائيه بعمله أو يلجأ إليه أو يتوكل عليه؟ ولكن إذا كانت هذه الحقيقة دائمة لا يغيرها إصباح ولا إمساء.. فما فائدة تخصيصها بالصباح والمساء؟؟!. الفائدة أن هذا هو حال القائل أي أصبحنا مقرين بهذه الحقيقة.. فنحن في هذا الوقت نجدد اعترافنا وإيماننا بها أو والله أعلم أننا أصبحنا معلنين بأننا لله.. وكذلك أصبح الكون أو أمسى معلنا بأنه لله. وهذا التفسير يعرفه من يعيش مع الطبيعة.. ويرى ما يجد على الكون في الصباح والمساء.. ففي الصباح تشرق الشمس بإذن ربها فتدب الحياة من جديد.. فكأن الكون كله قد كان في الموتة الصغرى كابن آدم ثم بعثه الله من جديد فهو لله. ولولا أن الله قد أذن له ما انبعث ولا كان.. وقد أقسم الله تعالى بهذه الحالة فقال (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ). وكذلك المساء تغيب الشمس ويرحل النهار ويحل الظلام.. وغير ذلك من علامات يعلن بها الملك كله أنه لله.. حتى إن الشمس تذهب لتسجد لربها تحت العرش.. كما في الحديث الذي رواه الإمام مسلم. (والحمد لله) فالملك لله والحمد كذلك لله.. فهو الواحد في ربوبيته.. الواحد في عبوديته (ولا إله إلا الله وحده لا شريك له.. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير). وهذا الجزء من الذكر سنقوله منفصلاً عشر مرات.. أو مائة مرة كما سيأتي. ولكنه جاء هنا من باب التوسل إلى الله تعالى.. والله أعلم فكل ما سبق هو مقدمة لما سيأتي من الدعاء (رب أسالك خير ما في هذا اليوم وخير ما بعده.. وأعوذ بك من شرما في هذا اليوم وشر ما بعده). فنحن نتوسل إلى الله تعالى بإقرارنا بأننا له وحده.. وأن الملك كله له وحده وبأن الحمد له وحده.. وبكلمة التوحيد أن يقدر لنا في هذا اليوم أو هذه الليلة خيرها وأن يعيذنا من شرها.. فهو القادر على التصرف في ملكه وحده سبحانه. وهذا الذكر ينشىء صلة وعلاقة قوية بين الإنسان وبين الكون من حوله.. فهو ينبه الإنسان إلى ظاهرتين في الكون يتجلى فيهما جماله.. إذ يتغير فيصبح أو يمسى أجمل وأروع ما يكون.. وهما ظاهرتا الإصباح والإمساء قال تعالى (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) وقال (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى). ولذلك فإن لهذه الأذكار متعة خاصة لا يذوقها إلا من يرددها.. وهو يتأمل الكون حوله عند هذين الوقتين - الشروق والغروب - فلهذين المشهدين روعة تسيطر على القلب وتسحره.. فينطق بتسبيح الله تعالى وبحمده. وهذه الأذكار تصحح علاقة الإنسان بالكون.. ولولا توجيه الإسلام لقلب الإنسان وهو يشهد الكون عند هذه الظواهر الخلابة لضل الإنسان.. فهناك من يسجد للشمس أو للقمر متأثرا بعظمتهما.. ولكن تـأتى هذه الأذكار لتذكر المؤمن بحقيقة هذه المخلوقات.. وأن شروقها العظيم وغروبها الجميل أدلة على عظمة خالقها.. وعلى وحدانيته لا على نديتها وكونها شريكاً له سبحانه.. فنحن والملك خاضعون لله. (أصبحنا وأصبح الملك لله) ويتأكد ذلك عندما نتذكر أن الناس كانت ترهب هذه المخلوقات لعظمتها.. وتفسر بعض الظواهر مثل العواصف والزلازل بأنها حالات غضب من هذه الأفلاك.. فتقدم لها القرابين ولا تزال بقايا من هذه الوثنيات باقية حتى عصرنا هذا. (رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر) المراد بالكسل عدم انبعاث النفس للخير مع ظهور القدرة عليه.. ومن كان كذلك فإنه لا يكون معذورا بخلاف العاجز فإنه معذور لعدم قدرته. الكبر هل بالفتح أم بالسكون؟ قال القاضي: رويناه الكبر بإسكان الباء وفتحها فالإسكان بمعنى التعاظم على الناس والفتح بمعنى الهرم والرد إلى أرذل العمر قال: وهذا أظهر وأشبه.. صحيح مسلم بشرح النووي جـ 3 صـ 311 . والمستعاذ منه هنا هو ما يورثه كبر السن من ذهاب العقل واختلاط الرأي وغير ذلك مما يسوء به الحال (وأعوذ بك من عذاب النار وعذاب القبر). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أصبح أحدكم فليقل: اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور, وإذا أمسى فليقل اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير" سنن الترمذي وسنن أبى داوود وحسنه الألباني في صحيح الجامع. (اللهم): قال ابن حجر: (هذه كلمة كثر استعمالها في الدعاء وهو بمعنى يا ألله.. والميم عوض عن حرف النداء فلا يقال اللهم غفور رحيم مثلا.. وإنما يقال اللهم اغفر لي وارحمني). وقيل بل كالواو الدالة على الجمع كأن الداعي قال: يا من اجتمعت له الأسماء الحسنى. قال الحسن البصري: اللهم مجتمع الدعاء.. وعن النضر بن شميل: من قال اللهم فقد سأل الله بجميع أسمائه اهـ مختصرا. (بك أصبحنا) بقوتك وقدرتك وإيجادك وبنعمتك وإعانتك وإمدادك أصبحنا أي دخلنا في الصباح أو أدركنا الصباح.. إذ أنت أوجدتنا وأوجدت الصباح. (وبك نحيا وبك نموت) فإنما نحن بك أنت المعين وحدك و أمورنا كلها بيدك.. ولا غنى لنا عنك طرفة عين.. وفى هذا من الاعتماد على الله واللجوء إليه والاعتراف بمنته وفضله ما يحقق للمرء إيمانه.. ويقوى يقينه ويعظم صلته بربه سبحانه وتعالى. (وإليك النشور) المرجع يوم القيامة ببعث الناس من قبورهم وإحيائهم بعد إماتتهم. (وإليك المصير) أي المرجع والمآب.. وقد جعل صلى الله عليه وسلم قوله وإليك النشور في الصباح وقوله وإليك المصير في المساء رعاية للتناسب والتشاكل.. لأن الإصباح يشبه النشر بعد الموت والنوم موتة صغرى والقيام منه يشبه النشر بعد الموت قال تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى). والإمساء يشبه الموت بعد الحياة.. لأن الإنسان يصير فيه إلى النوم الذي يشبه الموت والوفاة.. ومما يوضح هذا أنه كان صلى الله عليه وسلم يقول عند قيامه من النوم (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما آماتنا وإليه النشور) فسمى النوم موتا والقيام منه حياة بعد الموت. كان النبي صلى عليه وسلم إذا أصبح قال: (أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص وعلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين) مسند احمد (3/407) وصححه الألباني. (فطرة الإسلام) دين الحق.. وقد ترد الفطرة بمعنى السنة. أي من الله علينا بالإصباح ونحن على فطرة الإسلام مستمسكين بها محافظين عليها لا مغيرين ولا مبدلين كما قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا). قال ابن كثير: أي وأنت لازم فطرتك السليمة التي فطر الخلق عليها.. فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده وأنه لا اله غيره.أ .هـ ولا شك أن نعمة الله على عبده عظيمة أن يصبح حين يصبح وهو على فطرة سليمة لم يصبها تغير أو انحراف أو تلوث. يقول سفيان ابن عيينة (ما أنعم الله على عبد من العباد أعظم من أن عرفهم لا اله إلا الله). وإذا أصبح العبد وهو على هذه الكلمة العظيمة لم يغير ولم يبدل فقد أصبح على خير حال، ولعظيم شأن بدء اليوم بهذه الكلمة العظيمة (لا إله إلا الله) جاء الحث على الإكثار من قولها مرات عديدة كل صباح. وسيأتي أجر من قالها عشر مرات وأجر من قالها مائة مرة. (وعلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم) أي وأصبحنا على ذلكم الدين العظيم الذي رضيه الله لعباده دينا وبعث به نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم وقال فيه (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ). وإن نعمة الله على عبده عظيمة أن يصبح على هذا الدين العظيم والصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين يقول الله تعالى :( وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ). (وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين) أي وأصبحت على هذه الملة المباركة ملة إبراهيم خليل الله.. وهى ملة مباركة لا يتركها ولا يرغب عنها إلا من حكم على نفسه بالغي والسفه (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ). وقد أمر الله نبيه بإتباع هذه الملة وهداه إليها (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً) (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ). وهكذا نجدد نحن بهذا الذكر إيماننا وعهدنا وصلتنا الوثيقة بعدة أصول قوية وأعلام ثابتة هي فطرة ألإسلام التي فطرنا الله بنعمته عليها.. وكلمة الإخلاص( لا إله إلا الله).. ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.. وأبينا إبراهيم عليه السلام. وبذلك فنحن نشهد الله على إيماننا هذا من ناحية.. ومن ناحية أخرى نذكر أنفسنا بأصولنا قبل أن ندخل في النهار وزحمة أعماله أو الليل وانتشار شياطينه. روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: سيد الاستغفار أن يقول (اللهم أنت ربى لا اله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت.. أعوذ بك من شر ما صنعت.. أبوأ لك بنعمتك على وأبوأ بذنبي.. فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسى فهو من أهل الجنة.. ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة.. وفى لفظ له: (من قالها حين يمسى فمات من ليلته دخل الجنة.. ومن قالها حين يصبح فمات من يومه دخل الجنة)؟ (اللهم) أي يا الله حذف منها ياء النداء وعوض عنها بالميم المشددة. (وأنا عبدك) يجوز أن تكون مؤكدة لقولك أنت ربي.. ويجوز أن تكون مقررة لإقرار جديد أي أنا عابد لك ويؤيده عطف قوله: ( وأنا على عهدك) أي أنا على ما عاهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك وإخلاص الطاعة لك ما استطعت من ذلك أو: أنا مقيم على ما عهدت إلي وأمرتني من أمرك ومتمسك به ومؤمن وواثق وراج وعدك في الثواب والأجر والرضا والجنة. واشتراط الاستطاعة في ذلك معناه: الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه سبحانه. (أبوأ لك بنعمتك على) معناه اعترف. (وأبوأ بذنبي): أعترف أيضا وقيل معناه :أحمله برغمي لا أستطيع صرفه عنى (فتح الباري جـ11 ص 114). لماذا سمي بسيد الاستغفار؟ قيل لأنه جامع لمعاني التوبة. وقيل وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد الاستغفار لأنه قد فاق سائر صيغ الاستغفار في الفضيلة وعلا عليها في الرتبة.. فهو جامع لمعان غزيرة وعظيمة. (أنت ربى) ليس لي رب سواك والرب هو المالك الخالق الرازق المدبر لشئون خلقه.. فهذا اعتراف بتوحيد الربوبية. (لا اله إلا أنت) لا معبود بحق سواك فأضاف توحيد العبودية. (وأنا على عهدك وعدك ما استطعت) أي وأنا على ما عاهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك والقيام بطاعتك وامتثال أوامرك ما استطعت.. أي على قدر استطاعتي. (أعوذ بك من شر ما صنعت) ألتجئ إليك يا الله واعتصم بك من شر الذي صنعته في نفسي بيدي ولم يصنعه غيري (أبوأ لك بنعمتك على) أعترف بعظيم إنعامك على وترادف فضلك وإحسانك. وفى ضمن ذلك شكر المنعم سبحانه والتبري من كفران النعم. قال ابن القيم فأقر بتوحيد الربوبية المتضمن لانفراده سبحانه بالخلق وعموم المشيئة ونفوذها، وتوحيد الإلهية المتضمن لمحبته وعبادته وحده لا شريك له.. والاعتراف بالعبودية المتضمنة للافتقار من جميع الوجوه إليه سبحانه. ثم قال (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) فتضمن ذلك التزام شرعه وأمره ودينه.. وهو عهده الذي عهده إلى الإيمان والاحتساب. ثم لما علم أن العبد لا يوفى هذا المقام حقه الذي يصلح له تعالى..علق ذلك باستطاعته وقدرته التي لا يتعداها فقال (ما استطعت).. أي التزام ذلك بحسب استطاعتي وقدرتي.. ثم شهد المشهدين المذكورين- وهما مشهد القدرة والقوة (من الله) ومشهد التقصير من نفسه فقال (أعوذ بك من شر ما صنعت) فهذه الكلمة تضمنت المشهدين معا. ثم أضاف النعم كلها إلى وليها وأهلها والمبتدى بها والذنب إلى نفسه وعمله فقال (أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبي) فأنت المحمود والمشكور الذي له الثناء كله والإحسان كله ومنة النعم كلها.. فلك الحمد كله ولك الثناء كله ولك الفضل كله وأنا المذنب المسيء المعترف بذنبه المقر بخطئه. قال بعض العارفين: العارف يسير بين مشاهدة المنة من الله ومطالعة عيب النفس والعمل.. فشهود المنة يوجب له المحبة لربه سبحانه وحمده والثناء عليه، ومطالعة عيب النفس والعمل يوجب استغفاره ودوام توبته وتضرعه واستكانته لربه سبحانه.. ثم لما قام هذا بقلب الداعي وتوسل إليه بهذه الوسائل قال (فاغفر لي فانه لا يغفر الذنوب إلا أنت) طريق الهجرتين ص 164 وفى هذا الاستغفار معان عظيمة وكثيرة منها:- أن العبد بعد أن أجرم الجرم وارتكب الذنب وخالف مولاه.. هاهو يلجا إلى من عصى أمره وخالف أوامره وارتكب في حقه الجريمة. فمن خاف من غير الله هرب منه ومن خاف من الله هرب إليه.. فالله تعالى يتولى عبده في كل أحواله في حال طاعته وفى حال معصيته كذلك. ومنها أن الإنسان حين يرتكب الذنب يطيع هواه وشهوته.. ويقضى لذة وطلبا من مطالب النفس.. وربما كان مسرورا وقت وصوله للذنب وحصوله عليه. ولكن ها هو الآن يعود فيصف الذنب بأنه ثقل يرهق كاهله ويضيق بحمله وملازمته إياه.. فيبحث عن من يخلصه منه.. فلا يجد إلا ربه ومولاه.. فها هو يستجير به ويستغيث راجيا ذليلا حتى يعافيه الله من عواقب هذا الوزر. إن الذنب عار والمؤمن يلجأ إلى وليه سبحانه ليمحو عنه هذا العار الذي يلاحقه, والذنب نار ولكن لا يشعر بها العبد وهو في سكرة المعصية.. وعندما يفيق لا يجد إلا ربه يتوجه إليه ليطفئ ناره التي أشعلها في نفسه بيده. وفى سيد الاستغفار إصلاح وعلاج لكل الدمار والآثار التي أحدثتها المعصية.. فهو يعيد بناء ما أنهدم من الإيمان.. ففي الحديث (ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) بل لحظة ارتكابه للمخالفة يكون قد غابت عن قلبه بعض حقائق الإيمان أو ضعفت إلى درجة لا تقوى على رد الشهوة. فها هو المؤمن يعود فيعترف لربه بأنه ما ارتكب السيئة كفرانا بربوبيته ولا خروجا من عبوديته ولا جحودا لنعمته فهو مؤمن مقر بأنه هو ربه وهو إلهه الذي لا إله إلا هو, هو الإله الحق الذي لا يحق أن يعبد إلا هو سبحانه.. وهو عبد له ولا يزال على عهده بأن يطيعه راجيا جنته. إنه يشهد على نفسه أنه تورط في خطيئة.. لكن ذلك من غفلته وجهله ورعونته وحماقته وليس تمردا على خالقه وعلى من أنعم عليه سبحانه. ومنها أن الشيطان لا يزال يغوى الإنسان ويستدرجه ويزين له المعصية إلى أن يسقط فيها.. وعندئذ يفرح الشيطان بانتصاره عليه وبإبعاده عن ربه وبقربه منه ومن استيلائه عليه وسيطرته على إرادته وأفعاله. ولكن ها هو العبد يعود فيغيظ الشيطان باستغفاره هذا الذي يندم فيه ويتراجع عن تلك الخطوة الخاطئة فلا يبقى للشيطان فرحا ولا مرحا. فائدة أن يبدأ العبد يومه وليلته بالاستغفار.. مع أن الاستغفار مشروع في كل وقت: إن ابتداء اليوم بالاستغفار فتح صفحة جديدة بمحو ما سبق من الذنوب.. وعندما يبدأ الإنسان صفحة بيضاء نقية فإنه سيحاول أن يحافظ عليها نقية فلا يقترف ذنوبا جديدة. فائدة ثانية أنه تجديد لمعاني هذا الذكر على القلب من أول اليوم وكذلك الليلة لاحتياج القلب إليها في هذا الوقت بالذات. |
ساحة النقاش