بقلم ربيحة الرفاعي  

يحتاج الإبداع في عمومه لشئ من الإبتكار يحاكي حاجة المتلقي للتجديد والتطوير في تفاصيله، وبراعي الأصالة في أطره الرئيسة وتفاصيله المميزة له فيما يمكن اعتباره تأطيرا أضيق للون وتوضيحا أوثق لملامحه، وهذا من طبيعة الأشياء في الحياة مما لولاه لما حققت الإنسانية ما حققت من تقدم في كل مجال، ولما كان  الابداع في عمومه  مرّ بمراحل  تطوره وصولا إلى النقطة التي يقف عندها لحظة انبجاس الجديد المحقق للتغيير فيه،

ولعلنا اليوم وأمام حمى الحداثة التي تجتاح المشهد أدبا وفنا أحوج ما نكون لمثل هذا الجديد في الأجناس والألوان الإبداعية يرتقي بالقائم وينوّع فيه ولا ينسفه، ويواكب مستجدات التطلّع لدى المتلقي والمتعلقة بمعطيات واقعه من أدوات الطرح الإبداعي وأفق التواصل والتبادل الفكري وظروف العيش ودرجة رفاهه ومستويات الوعي وغيرها.

وتقفز للقول هنا حقيقة أن المشهد الإبداعي العربي استحال مستقبِلا لما ينتج الغرب والشرق من حوله منذ سقوط الأندلس، حتى بلغ من أمره قبول الادعاء بأن بعض الألوان كالقصة مثلا لا أصول لها فيه، وأن بداياتها جاءت بالأساطير التي أبدعها خيال سكان الشمال حيث الكهوف والجبال والغابات وسمائها الملبدة الملهمة، وجفت عنها قرائح أبناء الصحراء المفتوحة الفسيحة بسمائها الضاحية، واستسلم للانتقاص حتى من وثنيته أمام وثنياتهم، فوصفها بالسطحية المفتقرة لما نعت به وثنياتهم من القيام على الفلسفة العميقة والآلهة الجبارة، وإن يكن المقام في مقالتنا هنا لا يحتمل نقاشا لتفنيد هذه المزاعم، فإنه لا ينفي الحاجة لتعريجنا السريع عليها منطلقا لتأكيد الحقيقة المتقدمة من استحالة المشهد الإبداعي العربي مستقبلا، بويع بالريادة من رموزه من كان أكثر تأثرا بالمستورد وأكثر تشربا به، وسدّت السبل في وجه  المبدعين الملهمين أصحاب الأفكار الخلاقة والابتكارات المصبوغة بالادهاش ما لم تأت عبر الحدود الدولية ...

وبينما الأصل في التعامل مع المبتكر مناقشته وتداوله بين مؤيد و معارض مجردا عن كل ما عدا كنهه، ليرتقي محتَثّا الدراسات الجادة والمسؤولة باتجاه التقعيد والتنظير واستقصاء العنونة ومعارج الأطر وتقنيات التطوير ومستفزا الطاقات الإبداعية للخروج بنماذج مائزة تقوم على إضافات جوهرية تستوقف وتبين كسبيل رئيس لانطلاق الأجناس الجديدة في ألوان الإبداع أدبية وفنية، فإن التعامل معه في الأفق الإبداعي العربي يقوم على النقيض التام، حيث يكون التقصي لمورده  بغض النظر عن كنهه وماهيته ليستبقله مقدَّرا معتبَرا إن كان جاء معتمرا القبعة الغربية، أو ينفيه ويختلق الأعاجيب فيه إن وجده محليّا ممتدة جذوره في الأصول العربية مبتكرا بيراعة إليها تنتمي.

وقد واجهت "القصة الشاعرة" – لبعض الوقت- هذا النفي والتشريح النقضي الرافض كجنس أدبي جديد ولد في قلب الحالة الإبداعية العربية ولم يأتها من مصادر غريبة غربية أو شرقية، فكان الوقوف ابتداء عند العنوان بإزاحته باتجاه القصة الشعرية أو الشعر القصصي -وهو قصيدة تستثمر الدراما- باعتبار جذور مفرداته وتجاهل دلالاتها والتي تقول باندراج النص في إطار معايير القصة القصيرة وقصيدة التفعيلة بما تحوي جميعا من فضاءات مطلقة المدى أمام الأخيلة مفتوحة الأبواب لمطلق التوظيفات الصوتية والبصرية.

ثم كان الوقوف عند التزام التدوير الشعري والتفعيلة  لنسبة النص لقصيدة التفعيلة والسطر بتجاهل عدم التسكين وعدم العناية بالسطر الشعري وعدم الاكتفاء بدراما اللقطة، مقابل الحرص على البعد الدرامي المتغلغل في ما ورائة المشهد وبروز التدوير الموضوعي القصّي المبطن أعماق النص، والذي وقف عنده من زعم بنسبة هذا الجنس الأدبي للقصة القصيرة متجاوزا إيقاع النص وصوره المموسقة والتزامه التفعيلة التدويرية، ليأتي من يستثمر التزامه التدويرالتفعيلي  في نسبته للبند، متجاوزا أن البند متعدد المواضيع مباشر اللغة والتعبير لا علاقة له بالخيال ولا الترميز ولا الشاعرية أو الشعرية ..

 

وعاز رواد هذا اللون الإبداعي الكثير لتوضيح عدم صحة نسبته لأي من الشعر أو القصة، حيث ينفي نسبته لأحدهما توفر معايير الآخر فيه علاوة، على توفر معايير القصة القصيرة جدا من تكثيف، وتوظيف دقيق للمفردات ومؤثثات النص لتعمل " كشيفرات"  وترميز يفتح الأبواب على مساحات من الرؤى والتأويلات بما يطلق العنان للتصوّرات الذهنية، وللتحليق التأملي الإبداعي للمتلقي وتحفيز ملكات التدبّر والتحليل أمام مفتاح رمزي يطرح الحدث القصّي بحكمة فيلسوف وحنكة غواص وحبكة نسّاج يربط الصور مموسقة ويعزفها على نغمة خفيّة.

وكان لا بد من التطبيق العملي بالكتابة والتجريب تأسيسا لهذا الجنس الأدبي المبتكر المتجدد والقابل للتطوير في إطار عنوانه الأوسع اجتماع التدوير الشعر والموضوعي/القصي والترميز وتوظيف المفردات الشيفرة واستثمار علامات الترقيم والموقع الإعرابي لخدمة البناء النصي، وهو بلا شك قادر على شق دربه ليتسع ويتسع على خارطة المشهد الأدبي عربيا وعالميا في حالة اولى من تغيير اتجاه بوصلة استقبال الابتكار وتعلّمه.

وللتاريخ والتوثيق الإبداعي ، فإن أول من ابتكر هذا الفن الكتابي الجديد (القصة الشاعرة) هو المبدع المصري العروبي الشاعر د. محمد الشحات محمد ، مؤكدًا الريادة الثقافية العربية ، وشاهدًا على أن "مسيرة الإبداع لاتتوقف"

* بحث مشارك فى المؤتمر العربي السادس للقصة الشاعرة والذى تقرر أن يعقد فى القاهرة بعنوان "القصة الشاعرة.. أفاق التجريب".

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 258 مشاهدة
نشرت فى 14 مايو 2015 بواسطة daliagamal2002

ساحة النقاش

شموس نيوز

daliagamal2002
»

تسجيل الدخول

ابحث

عدد زيارات الموقع

81,727