موقع المستشار/ البسيونى محمود أبوعبده المحامى بالنقض والدستورية العليا نقض جنائي- مدني- مذكرات- صيغ- عقود محمول01277960502 - 01273665051

 

حصانة أو حرية الدفاع أمام القضاء
============================== ======
بقلم : الدكتور محمود صالح العادلي*
أستاذ القانون الجنائي بجامعة الأزهر بمصر
والمحامي أمام المحاكم العليا بمصر وسلطنة عمان
============================== =======
• عرض وتحليل التعريفات المقول بها لحقوق الدفاع:
نادرة تلك الكتابات التي اهتمت بتعريف حق الدفاع في القانون الوضعي ولم تمنع هذه الندرة من تشعب السبل بأصحاب هذه الكتابات فتعددت تعريفاتهم لحق الدفاع (1) .

فذهب رأي إلى تعريف حق الدفاع في مرحلة المحاكمة بأنه تمكين المتهم من أن يعرض على قاضيه حقيقة ما يراه في الواقعة الجنائية المسندة إليه ، يستوي في هذا أن يكون منكرا مقارفته للجريمة أو معترفا بارتكابها..... (2) .
وأعتقد أن هذا التعريف خلط بين ضمانة من ضمانات حقوق الدفاع ألا وهي التمكين من الرد ، وحقوق الدفاع ذاتها وهي الرد على " المساس بمصلحة محمية قانونا " وشتان بين الأمرين أضف إلى ذلك أن هذا التعريف قاصر حيث ينسب حقوق الدفاع إلى المتهم فحسب ، رغم أنها تكون لكل من يكتسب وصف " خصم أمام القضاء الجنائي ، فهي في الخصومة الجنائية بجانب شمولها للمتهم تشمل أيضا النيابة العامة التي تدافع عن مصالح المجتمع وتمثله ،كما أن حقوق الدفاع تمارس أيضا من جانب أطراف الخصومة المدنية التابعة لخصومه جنائية ـ مقامة أمام القضاء الجنائي ـ الأمر الذي أغفله كلية التعريف محل الدراسة .

ولقد تفادى مثل هذا الانتقاد أستاذنا الدكتور حسنين عبيد ، حال " توصيفه " لحق الدفاع بقوله تكفل الدساتير حق الدفاع لكل متقاضي فتسمح له لتقديم كل ما يدعم حقه كي تستطيع المحكمة أن تصل بعد تفنيده الوقوف على حقيقة الأمر فتصدر حكمها مطمئنة إلى صواب ما استندت إليه (3) وقريب من هذا ما ذهب إليه البعض من أن المقصود بالدفاع في القضية بصفة عامة هو إبداء الخصم لوجهة نظره أمام القضاء فيما قدمه هو أو قدمه خصمه من ادعاءات (4) ويمتاز هذا التوصيف ، وذلك التعريف ـ في اعتقادنا ـ عما سبقهما من تعريف بأنهما ركزا على حقوق الدفاع ذاتها وحدداها تحديدا دقيقا من سماتهما أنهما ركزا على الجانب العملي أو التطبيقي لهذه الحقوق دون الالتفات إلى الأصول أو الجذور المستمدة منها الحقوق المذكورة ويتجه أحد الشراح إلى تعريف حق الدفاع أمام القضاء بمعناه الواسع بأنه ذلك الذي يكفل لكل شخص طبيعي أو معنوي ، حرية إثبات دعوى أو دفاع مضاد ، أمام كل الجهات القضائية التي ينشئها القانون ، أو التي يخضع لها الأطراف بإرادتهم والذي يضمن وينظم هذه الحرية(5) وميزة هذا التعريف ـ حسبما أعتقد ـ أنه أوضح أن حقوق الدفاع من الممكن أن يمارسها الشخص المعنوي مثله في ذلك مثل الشخص الطبيعي غير انه يعيبه أن ركز على ضمانه من ضمانات حقوق الدفاع وهي حرية الإثبات ، كما أنه وسع من هذه الحقوق بحيث جعلها تشمل ـ فضلا عن الجهات القضائية التي ينشئها القانون ـ الجهات التي يخضع لها الأطراف بإرادتهم أي تجاوز هذا التعريف حقوق الدفاع الممارسة أمام القضاء المنشأ بمعرفة القانون إلى جهات التحكيم وما أشبهها .

• التعريف المقترح لحقول الدفاع :
ومن جماع من تقدم ، يمكننا تعريف حقوق الدفاع أمام القضاء الوضعي ـ بوجه عام ـ بأنها تلك المكنات المستمدة من طبيعة العلاقات الإنسانية والتي لا يملك المشرع سوى إقرارها بشكل يحقق التوازن بين حقوق الأفراد وحرياتهم وبين مصالح الدولة وهذه المكنات تخول للخصم سواء أكان طبيعيا أو معنويا إثبات ادعاءاته القانونية أمام القضاء والرد على كل دفاع مضاد ، في ظل محاكمة عادلة يكفلها النظام القانوني ، ويمكننا تعريف حقوق الدفاع أمام القضاء الإسلامي بأنها كافة المكنات التي يقرها الشراع سبحانه وتعالى بهدف إتاحة الفرصة للخصم لإثبات ادعاءاته أمام القضاء والرد على كل دفاع مضاد ، في إطار من محاكمة عادلة .

• حقوق الدفاع و حق الاستعانة بمدافع :
ولئن كانت فكرة الاستعانة بالغير للدفاع باعتبارها مفترض ضرورى من مفترضات حقوق الدفاع ، لم تظهر جلية من خلال التنظيم القانونى للمحاكمات الفرعونية إلا أنه يمكن استنتاجها من خلال ما عرفناه من اعتماد هذه المحاكمات على المرافعات المكتوبة – أى المذكرات- فعدم معرفة الكثيرون من المصريين ،حينئذ – للكتابة فضلاً عدم معرفة كل الناس للقانون أمر يدفعنا إلى القول بأن المقاضين كانوا يستعينون بمن يتوافر فيهم تلك المزايا ، بهدف كتابة مذكراتهم فى الدعوى ، ولاسيما وأن اللغة التى كانت تتم بها كتابة المذكرات المقدمة للمحاكمة ، محصورة بين الكهنة وأبناءهم وأبناء الموسرين(6) ، مما يجعل لجوء المتقاضين لهذه الفئة أمراً ضرورياً لحصولهم على خدمة العدالة .

هذا ولقد تأرجح القانون الفرنسى بين إباحة الاستعانة بمدافع فى وقت مبكر من إتخاذ الإجراءات الجنائية وبين تأخير هذه الاستعانة لوقت متأخر من هذه الإجراءات (7).

• المدافع والمحامى :
يعترف القانون للخصم بالاستعانة بمحام (م83/1 قانون المحاماة المصري ) (8) ( م 3 /أ من قانون المحاماة العماني الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 108/96 ) ولكن القاعدة العامة فى هذا الشأن هى أن للخصوم الحرية فى اختيار من يدافع عنهم ، وبه فانه لا يجوز للمحكمة أن تمنع الخصم من الدفاع عن نفسه شخصياً سواء عن طريق المرافعة الشفوية أو تقديمه مذكرات وأن تتطلب لذلك تمثيله عن طريق مدافع ، لأن هذا يعد قيداً على حقوق الدفاع بغير مسوغ قانونى مما يعتبر إخلالاً بهذه الحقوق(9) غير أن هذه القاعدة غير مطلقة إذ قد يرى المشرع ضرورة الاستعانة بمحام لاعتبارات معينة ، وذلك مثل : الدفاع أمام محكمة النقض ( م 249 من قانون الإجراءات الجزائية العماني – الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 97/99 ) (10) أو الدفاع أمام الدائر الإستئنافية بمحكمة القضاء الإداري ( م 17 من قانون محكمة القضاء الإداري – الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 91/99 ) ؛ أو الدفاع عن المتهم بجناية (م214 أ.ج مصري ) (11) .

هذا ، ويعتبر حق الخصم فى الاستعانة بمحام (12) مفترضاً هاماً من مفترضات حقوق الدفاع ، نظراً لما توفره المعونة الفنية من أهمية كبيرة إذ تساعد الخصم فى ممارسة حقوق دفاعه ، بهدف تكوين الرأى القضائى لصالحه (13) .
• تعريف المحامى :
ويمكننا تعريف المحامى بأنه : هو كل شخص يسمح له النظام القانونى بالمساهمة فى تحقيق العدالة فى المجتمع بطريقة سليمة من خلال قيامه بالدفاع عن المصالح الخاصة بموكله . (14)
• المحاماة رسالة :
وفي الحقيقة المحاماة هي : " صوت الحق في هذه الأمة، وفي كل أمة.. هي رسالة ينهض بها المحامون فرسان الحق والكلمة، ويخوضون فيها الغمار، ويسبحون ضد التيار !.. يحملون راية العدل في صدق وأمانة وذمة ووقار.. يناصرون الحق، ويدرأون الظلم.. يناضل المحامي في القيام بأمانته مناضلة قد تتعرض فيها مصالحه وحريته للخطر وربما حياته نفسها !
سيبقى رائعًا وعظيمًا ومنشودًا، أن يكون العدل مهجة وضمير وغاية ولسان وقلم القاضي فيما به يحكم، بيد أنه ليس يكفي المحامي أن يكون العدل مهجته وضميره وغايته، وإنما عليه أن يكون مفطورًا على النضال من أجله وأن يسترخص كل عناء ومجاهدة وخطر في سبيل الوصول إليه – القاضي حسبه أن يقتنع بالعدل فيحكم به، فالكلمة به صادرة من لسانه وقلبه، ثم هو محصن بالاستقلال وبالحصانة القضائية وبالمنصة العالية التي إليها يجلس، أما المحامي فيخوض غمارًا عليه أن يقف فيه شامخًا منتصبًا رغم أنه بلا حماية ولا حصانة، يكافح من أجل الحق الذي ينشده ويستصغر في سبيله مصالحه ويستهين بما قد يصيبه في شخصه وحريته، وربما في حياته نفسها، وتاريخ المحاماة شاهد في كل العصور على ذلك ! " . (15)
" المحاماة رسالة، تستمد هذا المعنى الجليل من غايتها ونهجها.. فالمحامي يكرس موهبته وعلمه ومعارفه وقدراته لحماية (الغير) والدفاع عنه.. قد يكفي المهندس أو الطبيب أو الصيدلي أو المحاسب أو المهني بعامة أن يملك العلم والخبرة، والجد والإخلاص والتفاني، وعطاؤه مردود إليه.. معنى (الغير) والتصدي لحمايته والدفاع عنه ليس حاضرًا في ذهن المهني أو الحرفي، ولكنه كل معنى المحاماة وصفحة وعي المحامي.. الداعية الديني – مسلمًا كان أو مسيحيًا – يجلس إلى جمهور المتلقين المحبين المقبلين الراغبين في الاستماع إليه، لا يقاومون الداعية ولا يناهضونه ولا يناصبونه عداء ولا منافسة، أما المحامي فإنه يؤدي رسالته في ظروف غير مواتية، ما بين خصم يناوئه، ورول مزحوم قد يدفع إلى العجلة أو ضيق الصدر، ومتلقي نادرًا ما يجب سماعه وغالبًا ما يضيق به وقد يصادر عليه ويرى أنه يستغني بعلمه عن الاستماع إليه !! لذلك كانت المحاماة رسالة، الكلمة والحجة أداتها، والفروسية خلقها وسجيتها... " . (16)

يستطيع المهني أن يؤدي مهمته متى دان له العلم والخبرة بتخصصه – بالطب إذا كان طبيبًا فذلك يكفيه للتشخيص وتحديد العلاج، وبالهندسة إذا كان مهندسًا فذلك يكفيه لإفراغ التصميم ومتابعة التنفيذ – وهكذا، أما المحامي – فلا يكفيه العلم بالقانون وفروعه، ولا تكفيه الموهبة – وهي شرط لازم، وإنما يتوجب عليه أن يكون موسوعي الثقافة والمعرفة، لأن رسالته قائمة على (الإقناع)، يتغيا به التأثير في وجدان، والوصول إلى غاية معقودة بعقل وفهم وضمير سواه، وهذه الغاية حصاد ما توفره الموهبة ويدلي به العلم وتضافره الثقافة والمعرفة – مجدول ذلك كله في عبارة مسبوكة وشحنة محسوبة لإقناع المتلقي. وما لم يصل المحامي إلى هذا الإقناع، فإن مهمته تخفق في الوصول إلى غايتها.. لذلك في المحامي لا يمكن أن يكون من الأوساط أو الخاملين، وإنما هو شعلة نابهة متوقدة متيقظة، موهوبة ملهمة، مزودة بزاد من العلوم والمعارف لا ينفد، مستعدة على الدوام لخوض الصعب وتحقيق الغاية مهما بذلت في سبيلها ما دامت تستهدف الحق والعدل والإنصاف " . (17)

" هذه الرسالة الضخمة، تستلزم استلزام وجوب أن توفر للمحامي وللمحاماة الحصانة والحماية الكافية، حصانة المحامي وحمايته في أداء رسالته وحمل أمانته، هي حصانة وحماية للعدالة ذاتها، لأن النهوض بها عبء جسيم، ولأن غايتها غاية سامقة يجب أن يتوفر لحملة رايتها ما يقدرون به أن يؤدوا الرسالة في أمان بلا وجل ولا خوف ولا إعاقة ولا مصادرة !!
ومع أن المدونة التشريعية المصرية، لا تزال إلى الآن دون المستوى المطلوب في حماية المحامي والمحاماة، فإن علينا أن نقر بأن كثيرين منا لا يلتفتون - أو بالقدر الكافي - لما حملته المدونة التشريعية من عناصر يتعين على المحامين، وعلى النقابة - أن يلموا بها وأن يتمسكوا بإعمالها إلى أن ترتفع المدونات ومعها الحماية إلى المستوى الذي تنشده المحاماة والمحامون. - هذا ويمكننا أن ستخلص من المدونات التشريعية الحالية بعض الخطوط العريضة التي نأمل أن تزداد عراضة واتساعًا وعمقًا. (18)
• تعريف حصانة الدفاع (19) :
يمكننا تعريف حصانة الدفاع(20) بأنها رخصة بمقتضاها لا يسأل الخصم أو مدافعه أو مدافعيه عما تنطوي عليه أقوالهم الشفوية أو المكتوبة المطروحة أمام القضاء- و المتعلقة بخصومة معروضة عليه- من إسناد أفعال أو أقوال تعد قذفا او سبا او بلاغا كاذبا ضد الأخر أو الغير . (21)
وفي الحقيقة " لا يعرف صعوبة المرافعة إلا من يكابدها، فهي حاملة الرسالة التي ينهض بها المحاماة في ظروف عسيرة لبلوغ الغاية وإحقاق الحق وإرساء العدل. ولا غناء في مرافعة - شفوية أو مكتوبة - تحوطها المخاوف والهواجس، وإلا فقد الدفاع حكمته وغايته جميعًا " . (21م)

وحماية المحامي في أداء رسالته، هي فرع من حماية حقوق الدفاع، سواء باشرها أطراف الخصومة، أو نهض بها المحامون.

ومن الملائم أن يتطرق الحديث عن حصانة الدفاع ، إلى إيضاح شرط وجودها ، وآثار هذا الوجود .

• أولاً : شروط وجود حصانة الدفاع :
تجمل وجود حصانة الدفاع (22) _ حسبما نرى _ فى شرط المصلحة : القانونية أو الشخصية أو المباشرة أو الواقعية .

• (1) المصلحة القانونية :
إذا كان المساس _ أو خشية المساس _ بمصلحة محمية قانونا يمثل دعامة عامة لحقق الدفاع . فارتكاب جريمة جنائية يثبت للمجتمع _ ممثلا فى النيابة العامة _ باعتباره المجنى عليه فى هذه الجريمة كافة حقوق الدفاع أمام القضاء الجنائى ، طلبا للحماية القضائية لمصالحه التى لم _ أو يخشى _ المساس بها ، وبممارسة هذه الحقوق _ ولاسيما حق الدعوى – نجاه شخص معين تضفى عليه صفة الخصم ، ويكون له _ بدوره _ حقوق دفاع للرد على ما حدث _ أو ما عساه أن يحدث _ من مساس بمصلحة المحمية قانونا من ابرز هذه المصالح حريته الشخصية التى قد تتعرض لإجراءات ماسة بها بمناسبة توجيه الاتهام إليه(23) .

وواضح من ذلك أن المساس أو خشية المساس بمصلحة محمية قانونا يمثل دعامة لحقوق الدفاع بمعناها الواسع ؛ أى بما يشمل حقوق الدفاع بمعناها الضيق ، ومفترضاتها وضماناتها ، ولوا كانت حصانة الدفاع ليست - فى النهاية - سوى ضمانة من ضمانات حقوق الدفاع(24) ، فان هذه الدعامة ترتكز عليها حصانة الدفاع فى وجودها ، الحصانة ، وإلا فلا . وبمعنى آخر أن هذا المساس _ أو خشية المساس بمصلحة محمية قانونا ، هو شرط لوجود حصانة الدفاع.
• (2) المصلحة الشخصية أو المباشرة :
فى واقع الأمر وحقيقته أن حقوق الدفاع ومقترضاتها وضماناتها إنما تنبثق من المركز القانونى للخصم (25) وبه فإنها تثبت لكل خصم تجاه خصمه . والخصم تعبير يتسع لكل شخص يعتبر طرفا فى علاقة الخصومة الناشئة عن دعوى مدنية أو جنائية أو إدارية (26) غير انه يهمنا _ هنا تحديد (الخصم) أمام القضاء الجنائى ، أى الذى يشمل المدعى بالحقوق المدنية والمسؤول عنها (27) والخصم المنضم (28) فضلا عن المتهم ، كما يعتبر فى حكم الخصم المدافع عنه ، سواء كان محاميا (29) (30) ؛ أم كان قريبا ماذون له بالدفاع طبقا للقانون (31) وتتوافر المصلحة الشخصية أو المباشرة للخصم تجاه غير الخصوم (32) كالشاهد أو الخبير طالما أن ما وجه الخصم اليهما مما يقتضيه دفاعه عن موقفه فى الخصومة .(33) (34) . مثل تجريحه قول شاهد ، أو تقرير خبير (35)(36).
وقد قيل أن أعضاء النيابة العامة يستفيدون من هذه الحصانة لا باعتبارهم خصومه ، وإنما استنادا من نص القانون الذى يخولهم أداء عمل معين (37) أو سلطة معينة .(38) (39)

• رأينا عضو النيابة العامة ( أو عضو الادعاء العام ) ينوب عن المجتمع فى ممارسة حصانة الدفاع :
ونحن من جانبنا نستأذن أساتذتنا الأجلاء _ الذين تعلمت منهم حرية الرأى _ فى عرض وجهة نظر مغايرة ، مضمونها أن " حصانة الدفاع تثبت لعضو النيابة بحكم قيامة بالدفاع عن مصالح المجتمع _ أو بالأدق الدولة _ فى الخصومة الجنائية " .
أما تأصيل إباحة ممارسة عضو النيابة العامة ( أو عضو الادعاء العام ) إسناد قذف أو سب لأحد الأخصام أمام القضاء ، بأنه أداء واجب وظيفى فهو لا يتفق وطبيعة عمل عضو النيابة ، وينتج عنه نتائج شاذة غير مقبولة تخل بالتوازن بين صالح المجتمع وصالح سائر الخصوم فى الخصومة الجنائية . فهذا التأصيل لا يتفق وطبيعة عمل عضو النيابة العامة ، لان إباحة السلوك المجرم قانونا (40) بسبب أداء واجب وظيفى يشترط له جهل الموظف العام تحقيق مشروعية عمله (41) فأما يعتقد _ على خلاف الحقيقة_ إن السلك الصادر منه يدخل فى اختصاصه ، وإما أن ينفذ أمر رئيس المتصور على خلاف الحقيقة _ أن طاعته واجبة عليه . الجهل بالاختصاص هو جهل بالقانون ، والجهل بمدى وجو طاعة عضو النيابة لرئيس ما هو _ غالبا _ جهل بالقانون مختلط بجهل الواقع . وكل هذا لا يستقيم مع طبيعة عمل عضو النيابة العامة ، لأنه :
أولا : يفترض فيه الدراية بالقانون .

وثانيا : يفترض حرصه الدائم على تحرى حقيقة الواقع فيما يعرض عليه من وقائع مجرمة _ أو حتى مقول بتجريمها _ قانونا ، فكيف يكون له الاعتذار بجهل بواقع وحكم القانون بخصوص اختصاصه .

وثالثا: إن مرحلة الاتهام _ وهى التى يثور بشأنها إباحة قذف أو سب احد الأخصام _ يسودها قاعدة هامة يعبر عنها بالفرنسية :
Si in plume est serve , mais la parole est libre.
ومفادها انه إذا كان القلم فى يد ممثل الاتهام أسير لأوامر وتأشيرات رؤساء _ عضو النيابة _ فهو فى الجلسة حر يقول ما يشاء (42) فهذه القاعدة تحجم _ إلى حد كبير _ من الاحتجاج بان عضو النيابة حال إسناده للخصم سب أو قذف كان بسبب تنفيذه لأمر رئيس _ اعتقد _ العضو على خلاف الحقيقة _ أن أطاعته واجبة .

رابعا: وإذا سلمنا بعدم مساءلة عضو النيابة فى هذه الحالة ، فهل يعفى رئيسه الآمر بارتكابه سلوك مجرم- هو القذف أو السب –أم لا ؟!

وواضح أن هذا التأصيل- محل البحث – ينتج عنه نتائج شاذة وغير مقبولة ، إذ أنه يضيق من حرية عضو النيابة العامة فى ممارسة حقوق دفاع المجتمع عن مصالحه ، إذ لا يباح له قذف أو سب أحد الخصوم إلا إذا شاب إرادته جهل- على النحو المتقدم –وقام فضلا عن ذلك بالتثبت والتحرى من مشروعية السلوك الذي أقدم عليه أو من طاعة رئيسه الذى أمره بالأمر- غير المشروع-واجبة ، في حين أن ممارسة سائر الخصوم حصانة الدفاع تتحرر من مثل هذه القيود الأمر الذي يخل بالتوازن المنشود بين مصالح المجتمع ، ومصالح الأفراد.
لذلك كله نرى أن تأصيل إباحة القذف أو السب لعضو النيابة العامة-إبان ممارسته لحقوق دفاع المجتمع عن مصالحه-إنما تستمد من المركز القانوني للخصم(43) ، الذي تنبثق عنه ضمانه "حصانة الدفاع" ، لكافة الخصوم دون تفرقة بين شخص طبيعي كالمتهم ، وشخص معنوي كالمجتمع أو كالدولة بتعبير أدق. ولا يخفى أن هذا التأصيل يحقق المساواة أمام القانون والقضاء بالنسبة لكافة الخصوم ، ويساهم في تحقيق التوازن المنشود بين مصالح المجتمع ومصالح الأفراد ، كما أنه يتفادى النتائج الشاذة التى تسفر عن تأصيل هذه الإباحة بأنها أداء لواجب وظيفي أو سلطة معينة.

• (3) المصلحة الواقعية :
يتعين لوجود حصانة الدفاع أن يكون ما أسنده الخصم لخصمه أو للغير من مستلزمات الدفاع(44 ) وهو يكون كذلك إذا كان ضروريا لتأييد حق الخصم أو تدعيم وجهة نظره(45) في الخصومة التي هو طرفا فيها(46).

وبه فان أتضح أن ممارسة الخصم لحقوق دفاعه لم تكن بحاجة إلى التجائه لأن يسند لخصمه وقائع توجب عقابه أو احتقاره فلا يباح فعله(47) لأن ذلك يعد قذفا موجبا مسؤولية فاعله(48) .

ومؤدى هذا إنه يتعين بالتمسك بحصانه الدفاع أن تكون الأقوال أو الأفعال الصادرة من الخصم ضد خصمه ضرورية لإبداء وجه نظره أو تدعيمها ، أو بالأقل تكون أفضل من غيرها لتحقيق هذا الهدف (49) وعلى أي حال تقدير ذلك متروك لقاضى الموضوع على ضوء ما يتكشف له من فحوى العبارات التي قيلت و الغرض منها . (50) (51)
*****
• ثانياً : آثار حصانه الدفاع :
يوجد اتجاهات ثلاثة لتحديد هذه الآثار .
• الاتجاه الأول : قصر الحصانة على عدم المساءلة الجنائية :
أصحاب هذا الاتجاه يرون تضييق هذه الحصانة بحيث يقتصر على عدم المسائلة فحسب ، وبالتالي تنحصر هذه الحصانة عن المسائلة المدنية (52) و المسائلة التأديبية . (53)
• الاتجاه الثاني : الحصانة تشمل المساءلة الجنائية والمدنية :
أصحاب هذا الاتجاه يرون شمول الحصانة لكل من المسؤولين الجنائية والمدنية ، تأسيسا على أن الرأى الذي يقصرها على المسؤولية الجنائية فحسب ، لا يستقيم _ حسب هذا الاتجاه _ مع ما استهدافه المشرع من تقرير هذه الحصانة من هدف مضمونة حماية المحامى أثناء تأدية واجبه بتكريس حريته واستقلاله في الدفاع ، و ينتقص من تلك الحماية مساءلته مدنيا عما بدر منه ، أثناء دفاعه الشفوي أو المكتوب .(54) (55)

• الاتجاه الثالث : الحصانة تشمل كافة أنواع المساءلة :
مضمون هذا الاتجاه مفاده امتداد الحصانة لمختلف أنواع المساءلة ، أو بتعبير آخر تمنع الحصانة كل دعاوى المسؤولية وهذا الاتجاه هو الراجح في الفقه الفرنسي (56) وذهب إليه بعض أحكام القضاء هناك . (57)
• تأييد الأتجاه الأخير:
وفى اعتقادنا أن الفلسفة التى أملت الأخذ بحرية الدفاع والتى تخلص فى إتاحة الفرصة للدفاع للانطلاق معبرا عن وجهة النظر الذى يدافع عنها متحررا من القيود المختلفة _ وفق ضوابط معينة _ تفرض_ اى هذه الفلسفة _ أن تكون حصانة الدفاع أو حماية هذه الحرية كاملة تشمل رفع المسؤولية الجنائية فضلا عن المسؤوليتين المدنية والتأديبية ، لأن إبقاء هاتين المسؤوليتين أو احدهما _ كسيف مسلط على الدفاع _ يبعث الرهبة _ ويحد من حرية الدفاع دون مقتضى ، الأمر الذى يتنافى مع هذه الفلسفة سالفة الذكر .

• موقف النظام القانوني المصري :

نصت المادة / 309 عقوبات على أنه:-
(لا تسري أحكام المواد 302، 303، 305، 306، 308 على ما يسنده أحد الأخصام في الدفاع الشفوي أو الكتابي أمام المحاكم فإن ذلك لا يترتب عليه إلا المقاضاة المدنية أو المحاكمة التأديبية).
ونصت المادة / 47 من قانون المحاماة المصري 17/1983 – التي تقابل المادتان 91، 134 من قانون المحاماة 61/ 68- على أنه:-
• (للمحامي أن يسلك الطريقة التي يراها ناجحة طبقًا لأصول المهنة في الدفاع عن موكله ولا يكون مسئولاً عما يورده في مرافعته الشفوية أو في مذكراته المكتوبة مما يستلزمه حق الدفاع، وذلك مع عدم الإخلال بأحكام قانون الإجراءات الجنائية وقانون المرافعات المدنية والتجارية).

وعليه فإنه فى ظل النظام القانونى المصري الحالى يمكن القول بان حصانة الدفاع تشمل كافة المسؤوليات التي من الممكن أن تترتب على السلوك الذى يصدر من الدفاع فى نطاق حريته ، فهي أى هذه الحصانة _ ترفع المسئولية الجنائية بجانب المدنية و التأديبية .

وذلك أخذا بعموم المادتين 47، 69 محاماة اللتين يقرران عدم المسئولية بوجه عام دن تحديد لنوعها ، ولايتنافى هذا القول مع ما جاء بالمادة 309 عقوبات من تحديد لرفع المسئولية الجنائية فى حدود ما أوضحته هذه المادة _ وتحفظها بخصوص المحاكمة التأديبية والمدنية وذلك لعدة أسباب :
اولها : أن المشرع المصري حسبما نعتقد حين وضع م309 عقوبات _ لم يرى ملائما _ تدخله فى المجال التأديبي أو المجال المدني ، فآثر أن يترك ذلك للضوابط التى تضع فى هذا المجال أو ذاك .
وثانيهما : أن القانون _ المقصود قانون المحاماة _ الذى يختص بصفة أصلية بالتعرض لحصانة الدفاع ، أوضح أن هذه الحصانة شاملة لكل المسئوليات .
وثالثهما : ان قانون المحاماة الحالى هو لاحق على قانون العقوبات _ ويفترض أن المشرع كان تحت بصره نص 309 عقوبات (58) - وجاء عاما فى شموله للحصانة التى يتحدث عنها لكافة المسئوليات ، فلا يعتد بنص سابق (م309 عقوبات) ينبغى ألا يتعرض إلا للمسؤولية الجنائية – كما هو حادث فعلا فتعرضه _ أو إن شئت تحفظه _ بشان المسئوليتين المدنية والتأديبية إنما هو تزيد _ أو إن أردت أخذا بالأحوط _ أراد به المشرع الجنائي ترك أمر شمول الحصانة لهذا التشريع المختص بذلك ، وها هو قانون المحاماة يعبر عن هذا الشمول .
ورابعها : أن القول بان المشرع المصرى قصر الحصانة على المسئولية الجنائية ، إنما هو اتهام للمشرع بالتزيد حين نص على المسئولية دون تحديد فى المادتين 47، 69 محاماة ، وهو اتهام يجب أن ينزه عنه الشارع إلى أن يثبت العكس ، هو لم يثبت بعد.
خامسها : إذا كانت القواعد العامة للتفسير تقرر أن " أعمال الكلام خير من إهماله " ؛ فان أعمال ما نصت عليه المادتين 47،69 محاماة يقتضى القول برفع كافة المسئوليات دون تحديد لمسئولية دون أخرى .
أما القانون المصري فقد جاء بنص أفضل من النص اللبناني ، فالنص اللبناني يفهم من مدلوله كأنه يسمح للمحامي بذم وقدح وتحقير الخصم أثناء الدفاع .
أما القانون المصري فنص في المادة 95 منه : (لا يجوز القبض على محامٍ أو حبسه احتياطياً لما ينسب إليه في جرائم القذف والسب والإهانة بسبب أقوال أو كتابات صدرت عنه أو بسبب ممارسة المهنة) .
النص المصري اعتبر أن الأمر منسوب إلى المحامي نسبة لأنه لا يعقل أن تخرج أمثال هذه التهم من المحامين . و يا ليت القانون اللبناني يعاد صياغته صياغة جديدة لكي يكون واضحاً لا لبس فيه .
لذلك يجب على المحامي ألا يوجه إلى خصمه أية تهمة إلا إذا كانت قائمة على دليل أو قرينة قانونية تفيد الدعوى وإجراءاتها

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 93 مشاهدة
نشرت فى 23 مارس 2017 بواسطة basune1

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

5,095,641

الموقع الخاص بالاستاذ/ البسيونى محمود ابوعبده المحامى بالنقض والدستوريه العليا

basune1
المستشار/ البسيونى محمود أبوعبده المحامى بالنقض والدستورية العليا استشارات قانونية -جميع الصيغ القانونية-وصيغ العقود والمذكرات القانونية وجميع مذكرات النقض -المدنى- الجنائى-الادارى تليفون01277960502 -01273665051 العنوان المحله الكبرى 15 شارع الحنفى - الإسكندرية ميامى شارع خيرت الغندور من شارع خالد ابن الوليد »