جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
على الرغم من أننا نعى أن تحديد " قِبلة " النهوض التعليمي لابد أن يكون عملا قوميا جماعيا ، إلا أنه ؛مع التسليم بذلك ، لا ينبغى أن يصادر حق أى أحد فى أن يحدد ما يمليه عقله واجتهاده فى هذا الشأن ، كل ما هنالك التأكيد على أن ليس من حق فرد ، أيا كان ، أن يفرض رؤيته الخاصة على الوطن كله ،وعلى أجيال مصر المتتالية.
وهنا نجد الهوية التى يجب أن تُشكل " قبلة " التعليم فى مصر ، تقوم على أركان ثلاثة ، على الرغم من وعينا بأن هناك من المفكرين من اقتصر على واحد منها ، فى الغالب الأعم ، أو ربما ثنتين . ونحن هنا لا نقوم بعملية " توفيق " ،وإنما نصدر فى رؤيتنا عن رفض للنظرة الأُحادية ، حيث الحياة نفسها ، سواء على المستوى الإنسانى ، أو المستوى " الكونى "، تقوم على التنوع ،والتعدد ، والتكامل ،ويظلم الإنسان نفسه ، عندما يصر على العكس من ذلك ، بل ويتهم ذوى الرؤى متعددة الزوايا بأنهم يقومون بعملية " تلفيق " ،وإيهام الناس بأنها عملية " توفيق " .
إن هذه الأركان الثلاثة ، يحسها كل إنسان فى مصر على المستوى الفردى :
فما من ابن من أبناء مصر ، إلا ويعتز بمصريته ...
وهو فى اعتزازه بمصريته يعلم علم اليقين أن لغته القومية هى العربية ، وأن المسألة ليست مجرد لغة ، فاللغة وعاء لتراث غزير طويل العمر ، يمتد عبر قرون طويلة ، معبرا عن " عروبة " ثقافة ، لا عروبة "عرق" .
والكثرة الغالبة من المصريين ، حتى قبل أن تظهر الأديان الإلهية ، تلفهم نزعة تدين واضحة ، لا تخطئها عين مراقب .
هذا وقد كانت العادة قد جرت فى وطننا العربى فى السنوات الأخيرة على اتهام كل من يؤكد على خصائص خاصة ببلده ،والإشادة بها بصفة مستمرة ،واتخاذها محورا للحديث والدراسة ، على أنه من دعاة الإقليمية ! وهى تهمة نبرأ منها ، كما سوف يتضح فيما بعد ،وبناء على هذا ، فقد يرى البعض أننا إذ نؤكد على " مصر " ونشيد بحضاراتها السابقة ، فمعناه أننا نتابع فى ذلك ما كان قد نادى به أحمد لطفى السيد ،وسلامة موسى ،وغيرهما ، من حيث مفارقة العروبة ،وإحلال الإقليمية محلها .
ونحن نؤكد بادئ ذى بدء أن هناك فارقا كبيرا بين الدعوتين ؛ فالدعوة إلى " المصرية " ، كما عرفتها ثقافتنا فى مطلع القرن العشرين قد ارتبطت " بالفرعونية فى أغلب الأحوال ،ولم تكن تضع فى حسبانها بالفعل :الشأن العروبى ، أما نحن ، فعندما نؤكد على الاعتزاز بشخصية مصر ،واعتباره الركن الأساسى الأول ، فإن هذا معناه بالضرورة – أو هكذا المفروض - أننا نعتز بكل مكونات هذه الشخصية وتطلعاتها :
-
- ولهذا فنحن نفخر بالثقافة الفرعونية ، لأنها كانت البداية الأولى فى تكوين هذه الشخصية ،واستطاعت عن طريقها أن تبنى حضارة تفيض مختلف الكتابات فى الشرق والغرب على السواء ، بالإشادة بها ،والإشارة إلى دورها المذهل فى وضع الإنسان على طريق التقدم والتحضر .
-
- ونعتز بالثقافة المسيحية ، لأنها كانت أول صوت ينادى بالحب والأخوة بين البشر ،ويطرح جانبا كافة الفروق الجنسية والاجتماعية والاقتصادية التى يمكن أن ترفع إنسانا فوق إنسان بغير حق ،ويحل محلها " التقوى " والفضيلة والطهر ،معيارا للمفاضلة بين الناس ،وكانت أرض مصر من أولى البقاع التى احتضنتها ،وازدهرت فيها وأينعت ،واستطاعت أن تترك بصمات لها بارزة على الشخصية المصرية.
-
- ونباهى بالثقافة العربية الإسلامية ، حيث تمكنت من التغلغل فى شخصيتنا ،وأصبحت الآن هى المَعْلم الأساسى فى ثقافتنا ،وروحها تسرى فى كل ما نفرك فيه الآن ونقوله ونأمله ونتناوله . ومصر هى التى استطاعت أن تحمى هذه الثقافة من أن تندثر وتصبح أثرا بعد عين على أيدى التتار ،و" الفرنجة " ، فيما عرف بالحروب الصليبية ،والصليب منها براء . وبأزهرها الشامخ حافظت على أصولها وقواعدها ، ومثلت عنصر جذب شد إليها المسلمين من كافة الأقطار ، ينهلون من الثقافة العربية الإسلامية .
-
- ونحنى رؤوسنا إعجابا بالثقافة الغربية الحديثة ، لأن الشخصية المصرية عندما بدأت التعرف عليها ،والأخذ بأسبابها ، وخاصة منذ أوائل القرن التاسع عشر ،استطاعت أن تقف على قدميها ،وتنفض عنها غبار عصور جمدت فيها وتوقفت ، بل إن مزيدا من امتصاص أصولها وإنجازاتها الحضارية المتقدمة، يتيح لهذه الشخصية مزيدا من التقدم والكثير من التطور .
وهكذا تكون " مصرية " غير متعصبة ، بمثل ما تعرف ما كان لها من فضل على الآخرين ، تعرف فضل هؤلاء الآخرين عليها ، فتقرأ ما كان لها من ثقافات ،وتقرأ ما كان ويكون لهم هم أيضا من ثقافات ، إيمانا بأنها ليست نبتا نما وظهر بعيدا عن المؤثرات العالمية ،وإنما هى ثمرة ساهمت فى صنعها وتطويرها كل الثقافات الأخرى .
ومن ناحية أخرى ، فإن الاعتزاز بالشخصية المصرية ليس بالضرورة نقيضا للشخصية القومية العربية ، بل إننا لنرى العكس من ذلك ، نراه تأكيدا لها وتدعيما ، لأن الفهم الصحيح للشخصية المصرية يبين ارتباطها بسائر شعوب المنطقة العربية ،والإدراك لآمالها يظهر ضرورة هذا الارتباط وحتميته ،ولا نظن أننا نذهب بعيدا إذا قلنا إن هذا الاعتزاز والتأكيد ، يعطى لكل وحدة من وحدات البناء العربى قوة بحيث يكون هذا البناء العام قويا متينا ، ثابت الأركان ، بشرط ألا يكون هناك ما يمكن أن ينقض الروابط التى بين أجزاء البنيان وتناسقها وتكاملها وتآلفها .
والحق أن مصر فى واقع الأمر تحتل مركزا فريدا لم يتوافر لأى بلد آخر ..مركز البلد الذى استطاع أن يصنع حضارة تغذت عليها سائر الحضارات الأخرى ، ثم شاءت له الظروف بعد ذلك أن يكون بمثابة " المكتبة المركزية " ، التى وضعت فيها كل حضارة تالية ، نسخة من ثقافتها ،وبمعنى آخر فالارتكان على الشخصية المصرية ، يوفر فرص التعرف بالضرورة على أصول الحضارات والثقافات الأخرى ، لأنها ، فى معظمها ، جاءت إلى أرض مصر وتركت آثارا واضحة عليها .
وليست " العقيدة الدينية " أمرا يمكن أن يخضع لهوى هذا أو ذاك ، من حيث الاهتمام والارتكاز والتوجيه ، ذلك لأن الحديث يمكن أن يطول ، لو أننا حاولنا أن نبرهن على رسوخ النزعة الدينية فى الشخصية المصرية ، فيكفى نظرة كلية شاملة لعينة من آثار الحضارة المصرية القديمة ، التى استمرت آلافا من السنين ،لتؤكد لنا بما لا يدع مجالا للشك أن البعد الدينى ضارب بجذوره فى أعماق شخصيتنا ، قبل أن يعرف الإنسان الأديان السماوية الثلاث ،وهذا من شأنه أن ينبهنا إلى أن نقف موقفا حذرا من بعض الدعوات التى تروج لها قوى كبرى ،مريدة بها إضعاف الشأن الدينى فى بلادنا بهذا الربط التعسفى بين الدين والإرهاب ، فالعديد من القرون التى مرت بنا بينت وأكدت كيف أن هذه النزعة الدينية كانت طاقة نهوض وعمل وإنتاج حضارى ، على عكس ما كان الأمر فى أوربا ، بفعل مطامع سياسية ومصالح شخصية ، ألبسوها لباس الدين .
إنها أوهام وأكاذيب ، تروجها قوى كبرى لنزع طاقة روحية لا مثيل لها لدى شعوبنا ، وإذا كان بعض الأبناء فى بلداننا قد جنحوا بالفعل إلى العنف ، فلأسباب أخرى ، ليس من بينها ما تضمه الكتب المساوية من قيم ومبادئ وأخلاقيات ؛تؤكد على التراحم والتسامح والتعارف ،والسياحة فى ربوع الأرض ، بل والكون ، نبتغى استثمار ما سخره المولى عز وجل للإنسان على وجه العموم، كى ينهض ويتقدم ، فالله يؤكد دائما أنه " غنى عن العالمين "،ومن ثم فكل ما فى الكون ،وكل ما نفعل ،ونقول ،ونحلم ، لابد أن يكون فى صالح الإنسان ، خليفة الله على الأرض .
إن قوى الاستغلال العالمية الكبرى تعلم علم اليقين أن النزعة الدينية فى بلادنا عندما تسيدت حياتنا ،وفق الأصول الصحيحة ، فاضت بالخير على البشر ،وأضاءت أركان الدنيا بالعلوم والمعارف ،وفاضت على الجميع بخيرات التنمية والنهضة ،ومن هنا فهى إذ تريد لنا الوقوف الدائم موقف الضعف والاستكانة ، حتى تستمر فى الاستغلال ،وتأمن المنافسة والمغالبة ، تبذل ما تبذل الآن حتى تحيل تصوراتنا عن العقيدة الدينية وكأنها منبع شر ،وبداية عنف ،ومشتل تعصب ،ولو قام نفر من الباحثين المخلصين بالتحقيق فى هذه الدعاوى ،لوجدوا أن ما نالنا من عنف واستغلال وإرهاب على يد هذه القوى الكبرى الاستغلالية ، هو أضعاف أضعاف ما يسعون لبث تصور أننا المصدر ، من خلال عقيدتنا .
ومن هنا فإننا لا ينبغى أن ننساق هكذا وراء عمليات التخويف من النزعة الدينية ، فنحاصرها فى المجالات التعليمية ،وإنما لابد من العمل عكس ذلك ،وفقا لأصول النظر الموضوعى القائم على النهج العلمى ،ورحابة الأفق ،والتأكيد على أن أحدا لا يملك الحقيقة وحده سوى المولى عز وجل ، مما لابد أن ينعكس على تغليب نهج الحوار والتفاعل وتبادل المنافع والأفكار .
كذلك ، فعلى الرغم من أن المشهد القائم فى عموم الوطن العربى ، يشير إلى تفكك ،وانكفاء على الذات ،وفشل بعض المشروعات التى أّريدَ بها تنسيقا وتعاونا ، إلا أننا لا ينبغى أن نقع فى وهم أن هذا هو " الأصل " ، بل هو أمر عارض ، نتج عن سوء تقدير ،وتغليب المصالح الخاصة بهذا الحاكم العربى أو ذاك ،وكذلك ، بعض الخبرات السياسية السلبية ، التى لا ينبغى أن تنقض المبدأ ، بقدر ما تظهر سوء التقدير ، وضعف رشد التصرف من قيادات سياسية كانت قائمة.
وفضلا عن ذلك ، فمن المهم التنبه إلى أننا نعيش فى عالم التكتلات الكبرى ، إذ كيف والله تسعى الدول الأوربية التى تتباين لغة ،ومصالح ، وقامت بينها حروب ضارية فترات طويلة ، إلى التعاون والتكتل والاتحاد ، بينما نحن نسعى إلى العكس من ذلك ، فى الوقت الذى تربطنا فيه لغة واحدة ،وتعيش فى قلوبنا ديانتان تتعايشان معا بيسر وتفاهم ؟!
ونحن إذ نؤكد على هذه الأركان الثلاثة التى تقوم عليها هويتنا : المصرية ،والدينية ،والعروبة ، نقر فى الوقت نفسه بأنها ليست، فى جميع الأحوال ،بنسب متساوية ،وأقدار متماثلة ، فالأمر لابد أن يخضع ، فى كل موقف ،وإزاء كل قضية ، لموازنات وحسن تقدير،وبعد نظر.
ساحة النقاش