قصة قصيرة

الشعاع الخفي"

لم تكن المرة الاولى التي يشعر بهذا الشعور, بل احسه وعاشه عشرات المرات فعمله يتيح له التنقل من مكان الى آخر حسب رغبته ورغبة العمل في آن واحد,ففي كل مرة يدخل عمله الجديد وهو مشحون بالأمل , مملوء بالاماني التي ستوصله للمجد.. يلتف حواليه الجميع ,يسمعون منه فهو ذو منطق جميل , يطاب بالتغير للأحسن فهو للأمانة يؤدي عمله بجدية ومهارة.. الكل متحمس له ومعجب به. يتعامل مع الجميع بكل ود وحب وتفان واخلاص واضح.. مظهره الحسن ووسامته البادية للجميع تجلب عيونهم نحوه .. يعرف ذلك.. ويتمادى في اظهار كل هذا يوميا .. يتكلم في كل شيءبطلاقة ولغة هادئة رصينة.. له من المواهب ما يحسده عليه الاخرون.. لكن بمرور الوقت يصبح مألوفا لديهم ويحس بينه وبين نفسه انهم قد اصابتهم الملالة من تكراره أمامهم..حتى الجمهور الذي يتعامل معه احس منه نفس الاحساس..لكن تبدو عليه الثقة بالنفس في كل الاحوال رغم أنه منكسر من الداخل .. احيانا يمشي في كل أرجاء عمله ليلفت الانظار اليه د ون جدوى..الشيء الغريب حقا ان الجميع يثنون عليه ولكن لا يعرف سر هذا النفورأو لا يريد أن يعرف.. تقفز الىذهنه عبارة عجيبة قالها له أحد اقربائه _ لا تكن مثل الاسبراي يظهر فجأة ويختفي بسرعة _ فهذه العبارة تنطبق عليه تمام فهو دائم التجديد في عمله ويريد اظهاره بصورة ملفته.. يقوم كل يوم على فكرة جديده يريد تنفيذها .. يبدأ في تنفيذ بعضها في حدود اختصاصاته.. عاش "طارق "هذه اللحظات مع نفسه وهو يجهز حقيبته ومن شدة انغماسه لم يسمع صوت والدته التي كانت بجواره تحدثه وتحاول اثنائه عن فكرة السفر بعيدا.. لكن اصراره على السفر كان أقوى من كل شيء.. في القطار جلس بجوار النافذة . القطار ينهب الارض نهبا كل شيء يفر .. أعمدة الكهرباء .. الاشجار .. البشر كما يفر عمره بين يديه دون عمل شيء يتذكره به الناس.. كل ماكان يفكر فيه طوال عمره هو تذكر الناس له وقيمة أعماله..يتوقف القطار من حين لاخر لنزول أناس وصعود أخرين.. عند توقف لقطار راى ساقية في احدى الحقول ذكره بواحدة كان يجلس تحتها مع أصدقاءه في الصغر يتكلم معهم ويحكي لهم فهو بارع في الحكي وبعد ذلك يملون منه ويبقى وحيدا كعادته رغم انه وسطهم .. ضجيج كبير داخل القطار يلتفت فيجد مجموعة من الشباب جالسين خلفه ناحية اليسار يتمازحون وفيهم واحد كثير المزاح_ بالبلدي كده يتريق على طوب الارض_ يسخر من واحد بجواره .. الكل يضحك عليه , يشعره انه صديقه ولكن عيونه تنطق بغير ذلك..سبح طارق في ذكرياته واخذ يفتش فيها وهوينظر لهذا الرجل .. قفز امام عينيه" حبشي" بكل مافيه من خفة ظل وسرعة بديه وحب لعمله .. كان حبشي من أقرب الناس اليه في عمله فهو ينصحه ويوجهه بحكم سنه الكبير .. ودائما ما يشعره بانه يحبه ولكنه شديد السخرية من الناس امامهم وكذلك من خلفهم فهو لا يتوانى في احراج اي انسان لا يعجبه او يختلف معه .. توقف القطار , نزل الرجل الذى سخر منه شبيه حبشي .. بدأ يتقول عليه ويسخر منه بل التفت الى غيره ليكمل دورة الحياة معه كما كان يفعل حبشي تماما.. من ياتي جديدا يقابله حبشي بترحاب شديد وان خرج من العمل بعد فترة لا يسلم من سخريتة والتقول عليه .. عاش طارق لحظات من التامل بين الرجلين.. فهو الذي دخل جديدا على حبشي واستقبله جيدا وهو ايضا الذي خرج.. ولا يدري أسخر منه وتقول عليه أم لا؟ بدا على الجميع الملل من طول المسافة وارتفعت اصواتهم دون ان يدروا وكأن كل واحد منهم بمعزل عن الأخر او وسط صحراء مقفرة.. او تحت الماء لا يسمع الواحد الاخر.. وبدون انزار تسلل الى الجميع صوت بكاء كالنشيج ..الكل لا يعرف مصدره الجميع يبحث الى ان وجدوا صاحبة الصوت,, سيدة في نهاية العشرينيات من عمرها, رائعة الجمال والبكاء زادها جمالا.. تحمل بين ثنايا العمر ذكريات أليمة واضحة في عيونها .. قام طارق من فوره والناس تنظر اليها .. جلس بجوارها وسألها عما يبكيها فلم ترد بل وخذته بعينها رافضة الكلام معه .. احس بالحرج الشديد .. قام من جوارها .. عاد الى مقعده وهو خجل جدا وعيناه لا تفارق ارض القطار .. هي احدى عيوبه التي لم يستطع التغلب عليها, يبادر بالسؤال حتى مع من لا يعرفه فيكون جزاؤه الاهمال والنفور.. انعشه الهواء القادم من خارج النافذة , ابتسم طارق ابتسامة عريضة حين تذكر صديقه الذي يحبه كثيرا.. راضي.. بالرغم من حدته في التعامل مع مواقفه ,
فكثيرا من المواقف التي يعيشها طارق لا تعجب راضي لكنه ينتظر الوقت المناسب ليسوقها اليه متتاليه عاصفة مدوية مرة واحدة.. وكأن البحر فاض بما فيه, يتقبل طارق كلام راضي ولكن بعد اعتراض بسيط على الاسلوب . الود موصول بينهم ,يتقابلون كثيرا ويدخل الفتور في حياتهم لأيام ثم يعود زمن الوصل القديم بينهم مرة أخرى.. سيفتقده كثيرا ويفتقد صراحته له ومواجهته لأخطائه وتعديل مساره.. لم تكن المرة الاولى التي يحس بهذا النفور منه , يسأل نفسه لماذا لم ترد عليه هذه السيدة؟ بالرغم من انها تنظر اليه نظرات اعتذار لكنه قرر عدم النظر اليها والكلام معها .. يفتح الزمن له ابوابه تطل عليه وجوه كثيرة تمناها لكنها نفرت منه بعد فترة.. في الثانوي ارتبط بذات العيون الجميله والوجه الابيض الهاديء ودب الفتور بعد فترة وجيزة.. تكرر هذا معه في الجامعة يقتربون منه بشدة وبسرعة ينفضون من حوله.. حدث هذا كثيرا في باقي حياته العملية حتى الآن.. مشاهد النفور منه تجري امامه وكأنه تلفاز يعرض مسلسلا عقيما احداثه معظمها متشابهة.. أحس بشيء ساخن يسيل على وجهه .. دموعه.. التفت حوله فلم يجد اي انسان غيره في القطار .. قام من فوره وحمل حقيبته ونزل مسرعا . قابله احد الحمالين ليحمل حقيبته لكنه رفض وحملها بنفسه الى احدى العربات المكتوب عليها المكان الذي سيذهب اليه.. العربه رغم كونها قديمة الا ان حالتها جيدة .. امتلأت عن اخرها , جلس في المقدمة لانه اول شخص دخل السيارة .. لاقى الامرين لكي يتفادى اقدام الركاب التي هشمت اصابع قدميه الممدودتين خارج المقعد.. لم ينم داخل القطار ولكن غلبه النوم في العربه .. لم يستيقظ الا لمن كان يهزه بشده .. عامل السيارة.. التباع.. الذي ساله عن مكان نزوله ودفع الاجرة.. دفع طارق له الاجرة وكانت محطته الاخيرة نزل من السيارة .. كان الظلام يقترب رويدا رويدا .. هواء منعش .. بعض البنايات المتفرقة.. لا يعرف اين سيذهب .. يخرج من بنطاله ورقة بها العنوان .. يذهب لاحد البائعين الجالسين امام دكان صغير به اشياء بسيطه متناثرة هنا وهناك وسأله عن العنوان .. قال له انه في اخر البلدة ويمكنه السير اليه حيث انها بلدة صغيرة , سار طارق في الطريق وقد اختفت كل خيوط الشمس واستراح النور من تعب النهار وحلت الظلمة بكل ما فيها من وقار وحشمة وما تحمله من مجهول.. الكهرباء موجودة في البيوت وفي بعض الاعمدة المتناثرة على الطريق.. اعمدة خشبية قديمة .. بعض العربات تسير من هنا وهناك .. اصوات اناس قادمين خلفه .. يتوقف ليسألهم عن العنوان, ياخذونه معهم , يعرفهم بنفسه فهو المهندس الذي سيعيد تخطيط بلدتهم الصغيرة .. هو مهندس جيد يحب عمله الهندسي بشدة و يحاول ان يبرع فيه لولا الظروف النفسية السالفة الذكر منعته من التقدم .. اخذه الناس الى استراحته .. كانت بسيطة جدا .. اثاث بسيط شبه متهالك .. درجات السلم متكسرة .. في انتظاره رجل تجاوز الخمسين من عمره ولكن مظهره وشكله لا يعطيه الا شابا في الثلاثين.. ملامحه لطيفه , شعره مازال اسودا وعيناه عميقتان وشارب متناسق مع وجهه.. استقبله بحفاوة بالغة .. احس طارق بسعادة عارمة من هذا الاستقبال وابتسم لعم" حسين" ابتسامة مشرقة ولكن سرعان ما عاد الى نفسه بسرعة وهمس وهو يشير له بعينيه: متستعجلش.. هتمل مني قريب وقريب اوي كمان.. لم يفهم عم حسين سبب تغير وجهه في لحظات ولكن ارجعها لطول السفر والتعب الذي حل على طارق .جلس طارق على كرسي خارج الاستراحة حتى يجهز له عم حسين الحجرة التي سينام فيها اخذ الكرسي وصعد به لسطح الاستراحة .. نظر نظرة شاملة للبلدة وبدأ يفكر في كيفية تخطيطها من جديد .. عنده من الافكار الكثيرة لكن يريد يد اخرى تساعده.. بدأ يرسم في مخيلته البلده اولا: يزيل كل ما يشوه صورتها
ثانيا: يردم كل الحفر التي بها .
ثالثا: يغطي كل عيب حتى ولو بازالته تماما واعادة بناءه
رابعا : تغيير شكل البلدة التي اعتادها الناس.. فهي بسيطة تجذب في البداية ويمل الناس منها بعد ذلك..
خامسا : الصبر والصبر الجميل
ان من اهم عيوب طارق العجلة وبعد ذلك يندم فهو سريع التحمس سريع الفتور.. احس بلسعة برد ويد على كتفه ..كان عم حسين ينادي عليه ولم يسمعه .. جلس في حجرته لكنه احس بالجوع .. طلب من عم حسين ان يبتاع له بعض الاطعمة. وبنظرة فيها الكثير من التسائل استجاب له عم حسين واحضر له الطعام .. منضدة ذات مفرش قديم وباهت, كرسيين فقط, وضع عم حسين الطعام وجلس على كرسي في طرف الحجرة البعيد بعد اعتذارة عن مشاركة طارق الطعام رغم شدة الحاحه.. يسأله طارق بين الحين والأخر عن البلدة واحوالها.. فكل الذي عرفه عنها انها قرية طيبة لكنها كسولة جدا.. بدا طارق في حسم امر التخطيط لاعادتها للصورة المثلى المفترض ان تكون عليها . في الواقع انه كان يخطط لاعادة نفسه وازالة شوائبها..مع تنفس الصبح استيقظ عم حسين ليصلي , بدأ يجهز الافطار بعد الانتهاء من الصلاة التي سبقه اليها طارق. بعد الافطار اخذه عم حسين الى مكان العمل.. الكل في انتظاره .. فهو المهندس المسؤول عن التخطيط..ما ان دخل مكتبه حتى اصطف الجميع لاستقباله..وكانت هي بينهم_ التي كانت في القطار_ تلاقت عيناهما , تلاشت سريعا ايضا.. جاءه كبير موظفيه بعد أن جلس على مكتبه ليقدم له تقريرا مفصلا عن كل شيء في البلدة.. تمر الايام وهو يرتب للتخطيط وسؤال حائر على شفتيه كلما راها ,فهي مهندسة ايضا تعمل تحت رئاسته ,الى أن استدعاها الى مكتبه وسألها: لماذا لم ترد علي في القطار؟ولماذا الاعتذار لي بعينيك فقط؟ ردت عليه قائلة: الحقيقة ان بك شيء يجذب وشيء ينفر لاحظته عليك باديء الامرولهذا نفرت منك..فتح له الزمن ابوابه من جديد وعاد لسنين بعيدة حين قال له صديقه راضي "بص جواك اكيد في شيء غلط"وبدأ طارق حينها ينظر الى داخله فوجد ضالته التي لا يعرفها احد غيره.. بسببها يخرج منه الى الناس شعور وكأن رائحته كريهه فينفر منه الناس رغم محاولاته ازالة هذه الرائحة, تذهب وتعود وهو لا يستطيع ان يقاوم هذا الشعور..ظل هذا الاحساس بهذا الشعور قائما حتى وهو واقف امامها وهي ماتزال تكلمه.. انتبه اليها وهي تقول: ان صراحتها المتناهيه وشفافيتها العاليه هي التي جعلت كل من يتعامل معها ينفر منها حتى خطًابها كانت تتعامل معهم بكل بساطة وتواجههم بعيوبهم مباشرة دون حذر او تريث .. هي لا تعلم ان الناس بهم من العيوب الكثيرة لكنها تريد المثالية ولن يحدث هذا مطلقا.. نظر الى عيونها المفتوحة وهي تكلمه عن صراحتها فوجد فيهما ضالته المفقودة, فهي التي ستساعده في تخطيط البلدة وازالة ما بنفسه من رائحة كريهة بصراحتها وشفافيتها .. توقفت هي فرأت نفسها داخل عيونه وتاكدت انه الشخص الذي سيقبل صراحتها.... وهكذا بدأ طارق" ونهى" تخطيط البلدة وازالة من بنفسيهما من اسباب النفور..

لم تكن المرة الاولى التي يشعر بهذا الشعور, بل احسه وعاشه عشرات المرات فعمله يتيح له التنقل من مكان الى آخر حسب رغبته ورغبة العمل في آن واحد,ففي كل مرة يدخل عمله الجديد وهو مشحون بالأمل , مملوء بالاماني التي ستوصله للمجد.. يلتف حواليه الجميع ,يسمعون منه فهو ذو منطق جميل , يطاب بالتغير للأحسن فهو للأمانة يؤدي عمله بجدية ومهارة.. الكل متحمس له ومعجب به. يتعامل مع الجميع بكل ود وحب وتفان واخلاص واضح.. مظهره الحسن ووسامته البادية للجميع تجلب عيونهم نحوه .. يعرف ذلك.. ويتمادى في اظهار كل هذا يوميا .. يتكلم في كل شيءبطلاقة ولغة هادئة رصينة.. له من المواهب ما يحسده عليه الاخرون.. لكن بمرور الوقت يصبح مألوفا لديهم ويحس بينه وبين نفسه انهم قد اصابتهم الملالة من تكراره أمامهم..حتى الجمهور الذي يتعامل معه احس منه نفس الاحساس..لكن تبدو عليه الثقة بالنفس في كل الاحوال رغم أنه منكسر من الداخل .. احيانا يمشي في كل أرجاء عمله ليلفت الانظار اليه د ون جدوى..الشيء الغريب حقا ان الجميع يثنون عليه ولكن لا يعرف سر هذا النفورأو لا يريد أن يعرف.. تقفز الىذهنه عبارة عجيبة قالها له أحد اقربائه _ لا تكن مثل الاسبراي يظهر فجأة ويختفي بسرعة _ فهذه العبارة تنطبق عليه تمام فهو دائم التجديد في عمله ويريد اظهاره بصورة ملفته.. يقوم كل يوم على فكرة جديده يريد تنفيذها .. يبدأ في تنفيذ بعضها في حدود اختصاصاته.. عاش "طارق "هذه اللحظات مع نفسه وهو يجهز حقيبته ومن شدة انغماسه لم يسمع صوت والدته التي كانت بجواره تحدثه وتحاول اثنائه عن فكرة السفر بعيدا.. لكن اصراره على السفر كان أقوى من كل شيء.. في القطار جلس بجوار النافذة . القطار ينهب الارض نهبا كل شيء يفر .. أعمدة الكهرباء .. الاشجار .. البشر كما يفر عمره بين يديه دون عمل شيء يتذكره به الناس.. كل ماكان يفكر فيه طوال عمره هو تذكر الناس له وقيمة أعماله..يتوقف القطار من حين لاخر لنزول أناس وصعود أخرين.. عند توقف لقطار راى ساقية في احدى الحقول ذكره بواحدة كان يجلس تحتها مع أصدقاءه في الصغر يتكلم معهم ويحكي لهم فهو بارع في الحكي وبعد ذلك يملون منه ويبقى وحيدا كعادته رغم انه وسطهم .. ضجيج كبير داخل القطار يلتفت فيجد مجموعة من الشباب جالسين خلفه ناحية اليسار يتمازحون وفيهم واحد كثير المزاح_ بالبلدي كده يتريق على طوب الارض_ يسخر من واحد بجواره .. الكل يضحك عليه , يشعره انه صديقه ولكن عيونه تنطق بغير ذلك..سبح طارق في ذكرياته واخذ يفتش فيها وهوينظر لهذا الرجل .. قفز امام عينيه" حبشي" بكل مافيه من خفة ظل وسرعة بديه وحب لعمله .. كان حبشي من أقرب الناس اليه في عمله فهو ينصحه ويوجهه بحكم سنه الكبير .. ودائما ما يشعره بانه يحبه ولكنه شديد السخرية من الناس امامهم وكذلك من خلفهم فهو لا يتوانى في احراج اي انسان لا يعجبه او يختلف معه .. توقف القطار , نزل الرجل الذى سخر منه شبيه حبشي .. بدأ يتقول عليه ويسخر منه بل التفت الى غيره ليكمل دورة الحياة معه كما كان يفعل حبشي تماما.. من ياتي جديدا يقابله حبشي بترحاب شديد وان خرج من العمل بعد فترة لا يسلم من سخريتة والتقول عليه .. عاش طارق لحظات من التامل بين الرجلين.. فهو الذي دخل جديدا على حبشي واستقبله جيدا وهو ايضا الذي خرج.. ولا يدري أسخر منه وتقول عليه أم لا؟ بدا على الجميع الملل من طول المسافة وارتفعت اصواتهم دون ان يدروا وكأن كل واحد منهم بمعزل عن الأخر او وسط صحراء مقفرة.. او تحت الماء لا يسمع الواحد الاخر.. وبدون انزار تسلل الى الجميع صوت بكاء كالنشيج ..الكل لا يعرف مصدره الجميع يبحث الى ان وجدوا صاحبة الصوت,, سيدة في نهاية العشرينيات من عمرها, رائعة الجمال والبكاء زادها جمالا.. تحمل بين ثنايا العمر ذكريات أليمة واضحة في عيونها .. قام طارق من فوره والناس تنظر اليها .. جلس بجوارها وسألها عما يبكيها فلم ترد بل وخذته بعينها رافضة الكلام معه .. احس بالحرج الشديد .. قام من جوارها .. عاد الى مقعده وهو خجل جدا وعيناه لا تفارق ارض القطار .. هي احدى عيوبه التي لم يستطع التغلب عليها, يبادر بالسؤال حتى مع من لا يعرفه فيكون جزاؤه الاهمال والنفور.. انعشه الهواء القادم من خارج النافذة , ابتسم طارق ابتسامة عريضة حين تذكر صديقه الذي يحبه كثيرا.. راضي.. بالرغم من حدته في التعامل مع مواقفه ,
فكثيرا من المواقف التي يعيشها طارق لا تعجب راضي لكنه ينتظر الوقت المناسب ليسوقها اليه متتاليه عاصفة مدوية مرة واحدة.. وكأن البحر فاض بما فيه, يتقبل طارق كلام راضي ولكن بعد اعتراض بسيط على الاسلوب . الود موصول بينهم ,يتقابلون كثيرا ويدخل الفتور في حياتهم لأيام ثم يعود زمن الوصل القديم بينهم مرة أخرى.. سيفتقده كثيرا ويفتقد صراحته له ومواجهته لأخطائه وتعديل مساره.. لم تكن المرة الاولى التي يحس بهذا النفور منه , يسأل نفسه لماذا لم ترد عليه هذه السيدة؟ بالرغم من انها تنظر اليه نظرات اعتذار لكنه قرر عدم النظر اليها والكلام معها .. يفتح الزمن له ابوابه تطل عليه وجوه كثيرة تمناها لكنها نفرت منه بعد فترة.. في الثانوي ارتبط بذات العيون الجميله والوجه الابيض الهاديء ودب الفتور بعد فترة وجيزة.. تكرر هذا معه في الجامعة يقتربون منه بشدة وبسرعة ينفضون من حوله.. حدث هذا كثيرا في باقي حياته العملية حتى الآن.. مشاهد النفور منه تجري امامه وكأنه تلفاز يعرض مسلسلا عقيما احداثه معظمها متشابهة.. أحس بشيء ساخن يسيل على وجهه .. دموعه.. التفت حوله فلم يجد اي انسان غيره في القطار .. قام من فوره وحمل حقيبته ونزل مسرعا . قابله احد الحمالين ليحمل حقيبته لكنه رفض وحملها بنفسه الى احدى العربات المكتوب عليها المكان الذي سيذهب اليه.. العربه رغم كونها قديمة الا ان حالتها جيدة .. امتلأت عن اخرها , جلس في المقدمة لانه اول شخص دخل السيارة .. لاقى الامرين لكي يتفادى اقدام الركاب التي هشمت اصابع قدميه الممدودتين خارج المقعد.. لم ينم داخل القطار ولكن غلبه النوم في العربه .. لم يستيقظ الا لمن كان يهزه بشده .. عامل السيارة.. التباع.. الذي ساله عن مكان نزوله ودفع الاجرة.. دفع طارق له الاجرة وكانت محطته الاخيرة نزل من السيارة .. كان الظلام يقترب رويدا رويدا .. هواء منعش .. بعض البنايات المتفرقة.. لا يعرف اين سيذهب .. يخرج من بنطاله ورقة بها العنوان .. يذهب لاحد البائعين الجالسين امام دكان صغير به اشياء بسيطه متناثرة هنا وهناك وسأله عن العنوان .. قال له انه في اخر البلدة ويمكنه السير اليه حيث انها بلدة صغيرة , سار طارق في الطريق وقد اختفت كل خيوط الشمس واستراح النور من تعب النهار وحلت الظلمة بكل ما فيها من وقار وحشمة وما تحمله من مجهول.. الكهرباء موجودة في البيوت وفي بعض الاعمدة المتناثرة على الطريق.. اعمدة خشبية قديمة .. بعض العربات تسير من هنا وهناك .. اصوات اناس قادمين خلفه .. يتوقف ليسألهم عن العنوان, ياخذونه معهم , يعرفهم بنفسه فهو المهندس الذي سيعيد تخطيط بلدتهم الصغيرة .. هو مهندس جيد يحب عمله الهندسي بشدة و يحاول ان يبرع فيه لولا الظروف النفسية السالفة الذكر منعته من التقدم .. اخذه الناس الى استراحته .. كانت بسيطة جدا .. اثاث بسيط شبه متهالك .. درجات السلم متكسرة .. في انتظاره رجل تجاوز الخمسين من عمره ولكن مظهره وشكله لا يعطيه الا شابا في الثلاثين.. ملامحه لطيفه , شعره مازال اسودا وعيناه عميقتان وشارب متناسق مع وجهه.. استقبله بحفاوة بالغة .. احس طارق بسعادة عارمة من هذا الاستقبال وابتسم لعم" حسين" ابتسامة مشرقة ولكن سرعان ما عاد الى نفسه بسرعة وهمس وهو يشير له بعينيه: متستعجلش.. هتمل مني قريب وقريب اوي كمان.. لم يفهم عم حسين سبب تغير وجهه في لحظات ولكن ارجعها لطول السفر والتعب الذي حل على طارق .جلس طارق على كرسي خارج الاستراحة حتى يجهز له عم حسين الحجرة التي سينام فيها اخذ الكرسي وصعد به لسطح الاستراحة .. نظر نظرة شاملة للبلدة وبدأ يفكر في كيفية تخطيطها من جديد .. عنده من الافكار الكثيرة لكن يريد يد اخرى تساعده.. بدأ يرسم في مخيلته البلده اولا: يزيل كل ما يشوه صورتها
ثانيا: يردم كل الحفر التي بها .
ثالثا: يغطي كل عيب حتى ولو بازالته تماما واعادة بناءه
رابعا : تغيير شكل البلدة التي اعتادها الناس.. فهي بسيطة تجذب في البداية ويمل الناس منها بعد ذلك..
خامسا : الصبر والصبر الجميل
ان من اهم عيوب طارق العجلة وبعد ذلك يندم فهو سريع التحمس سريع الفتور.. احس بلسعة برد ويد على كتفه ..كان عم حسين ينادي عليه ولم يسمعه .. جلس في حجرته لكنه احس بالجوع .. طلب من عم حسين ان يبتاع له بعض الاطعمة. وبنظرة فيها الكثير من التسائل استجاب له عم حسين واحضر له الطعام .. منضدة ذات مفرش قديم وباهت, كرسيين فقط, وضع عم حسين الطعام وجلس على كرسي في طرف الحجرة البعيد بعد اعتذارة عن مشاركة طارق الطعام رغم شدة الحاحه.. يسأله طارق بين الحين والأخر عن البلدة واحوالها.. فكل الذي عرفه عنها انها قرية طيبة لكنها كسولة جدا.. بدا طارق في حسم امر التخطيط لاعادتها للصورة المثلى المفترض ان تكون عليها . في الواقع انه كان يخطط لاعادة نفسه وازالة شوائبها..مع تنفس الصبح استيقظ عم حسين ليصلي , بدأ يجهز الافطار بعد الانتهاء من الصلاة التي سبقه اليها طارق. بعد الافطار اخذه عم حسين الى مكان العمل.. الكل في انتظاره .. فهو المهندس المسؤول عن التخطيط..ما ان دخل مكتبه حتى اصطف الجميع لاستقباله..وكانت هي بينهم_ التي كانت في القطار_ تلاقت عيناهما , تلاشت سريعا ايضا.. جاءه كبير موظفيه بعد أن جلس على مكتبه ليقدم له تقريرا مفصلا عن كل شيء في البلدة.. تمر الايام وهو يرتب للتخطيط وسؤال حائر على شفتيه كلما راها ,فهي مهندسة ايضا تعمل تحت رئاسته ,الى أن استدعاها الى مكتبه وسألها: لماذا لم ترد علي في القطار؟ولماذا الاعتذار لي بعينيك فقط؟ ردت عليه قائلة: الحقيقة ان بك شيء يجذب وشيء ينفر لاحظته عليك باديء الامرولهذا نفرت منك..فتح له الزمن ابوابه من جديد وعاد لسنين بعيدة حين قال له صديقه راضي "بص جواك اكيد في شيء غلط"وبدأ طارق حينها ينظر الى داخله فوجد ضالته التي لا يعرفها احد غيره.. بسببها يخرج منه الى الناس شعور وكأن رائحته كريهه فينفر منه الناس رغم محاولاته ازالة هذه الرائحة, تذهب وتعود وهو لا يستطيع ان يقاوم هذا الشعور..ظل هذا الاحساس بهذا الشعور قائما حتى وهو واقف امامها وهي ماتزال تكلمه.. انتبه اليها وهي تقول: ان صراحتها المتناهيه وشفافيتها العاليه هي التي جعلت كل من يتعامل معها ينفر منها حتى خطًابها كانت تتعامل معهم بكل بساطة وتواجههم بعيوبهم مباشرة دون حذر او تريث .. هي لا تعلم ان الناس بهم من العيوب الكثيرة لكنها تريد المثالية ولن يحدث هذا مطلقا.. نظر الى عيونها المفتوحة وهي تكلمه عن صراحتها فوجد فيهما ضالته المفقودة, فهي التي ستساعده في تخطيط البلدة وازالة ما بنفسه من رائحة كريهة بصراحتها وشفافيتها .. توقفت هي فرأت نفسها داخل عيونه وتاكدت انه الشخص الذي سيقبل صراحتها.... وهكذا بدأ طارق" ونهى" تخطيط البلدة وازالة من بنفسيهما من اسباب النفور..

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 45 مشاهدة
نشرت فى 30 يونيو 2016 بواسطة azzah1234

عدد زيارات الموقع

155,856